-A +A
عزيزة المانع
للضرب في ثقافتنا العربية مساحة عظيمة، فالعادة جرت أن يضرب القوي الضعيف، والكبير الصغير وأن ينظر إلى ذلك بعين القبول وعدم الاستنكار، فمن الأمور المقبولة في ثقافتنا أن الأب يضرب الابن، والمعلم يضرب الطالب، والزوج يضرب الزوجة، والسيدة تضرب الخادمة، وهلم جرّا.
من يتابع أخبارالصحف المحلية يرى دليل ما أقول واضحاً جلياً أمام عينه، ففي تلك الصحف تتكرر أخبار تعدي الناس بالضرب على بعضهم البعض، فهم متى تعرض الواحد منهم للإهانة أو الخداع أو الإهمال أو التعطيل أو غير ذلك مما يؤذي، لم يجد وسيلة لديه يرد بها سوى أن يشمر عن ساعده لينقض بالضرب على المتسبب فيما وقع له، وصار من المألوف لدينا أن تصافح أعيننا أخبار ضرب مرافق المريض للطبيب، أو ضرب العميل لموظف البنك، أو البائع لمراقب البلدية، أو ضرب المساهمين في الأسهم لبعضهم البعض، أو ضرب المدعوات في حفل عرس لحاملة جوال بكاميرا، أو ما شابه ذلك من أخبار الضرب، وما يصحبه من سباب وبذيء اللفظ.

بعض علماء الاجتماع يفسر هذا الميل المتبدي في ثقافة المجتمع نحو استخدام الضرب في حل المشكلات بأنه انعكاس للمفهوم الثقافي الذي ينشأ عليه أفراد المجتمع منذ طفولتهم، فالذين ينشأون على مفهوم السلطة القهرية، كما هو الحال في التنشئة العربية التي يمثل فيها الوالدان والمعلمون قوة قاهرة للصغار لا تدع لهم مجالاً للاعتراض أو الاختيار أو الرفض، ينشأ الصغار بدورهم مقتنعين أن لا وسيلة لتحقيق الأهداف سوى اتباع القوة لإرغام الآخر على فعل ما تريد.
وعندما تكون ثقافة المجتمع ثقافة تقدم الإكراه على الإقناع، والإلزام على التلقائية، لا يبدو غريباً أن ينشط فيها تقديم الضرب والسب على التفاهم والتحاور، فالتفاهم أو الحوار يقوم على قاعدة من الندية والحرية والاستقلالية، كما يقوم على أساس من حسن الظن، وهو ما لا يتوفر في ثقافة دعائمها القهر والإرغام.
يتساءل البعض لِم تجد أكثر التعليقات بذاءة في الفضائيات العربية صادرة من متصلين سعوديين؟ ولِم تجد أكثر الألفاظ فحشاً على مواقع الانترنت التي يرتادها سعوديون؟ ألم يكن بإمكان أولئك المحتجين والمعارضين أن يقولوا ما يريدون قوله بأدب، وأن يعالجوا مشكلاتهم بعيداً عن التعرض بفاحش القول لمن يرون أنه سبب فيها؟ لكنهم يتجنبون ذلك ويفضلون اختيار السب المقذع علانية لأنه سلوك يبعث في صدورهم لذة وراحة، فلعّان مثل (إبراهيم عفلق) أو غيره أظنه يعيش حالة رضا وتلذذ هذه الأيام بعد أن أحدثت بذاءته ما أحدثته من ردود فعل مستنكرة، ولعله يشعر في قرارة نفسه أنه قام بعمل عظيم استولى على اهتمام الناس وشغلهم، فهذا ما يريده، هو يريد أن يثبت لنفسه أنه يستطيع أن يقوم بعمل لا يقوم به كثيرون حتى وإن كان عملاً حقيراً طالما أنه يحدث ضجة ويعطيه الفرصة في أن يتباهى بين صحبه بالظهور بمظهر مختلف عن الباقين؟ هل هو تنفيس عن شعور دفين بالقهر والانتقام من معتد مجهول؟
قبل أن نطالب بتغيير مناهجنا أو مضمون كتبنا الدراسية، علينا أن نسعى إلى تغيير أشكال التنشئة الاجتماعية التي ننشئ عليها أجيالنا المقبلة، حتى لا ندعم في نفوسهم العنف والعدوانية بما نتبعه معهم من تربية مؤسسة على القهر والإذلال.
ص.ب 86621 الرياض 11622 فاكس 4555382