-A +A
أحمد عجب
حدثني صديقي أنه كان في ريعان شبابه، إذا ما أراد أن يروح عن نفسه ويبث همومه العاطفية، يستقل سيارته ويتجه لكورنيش البحر، حيث الغروب والأمواج المتلاطمة والهواء العليل، حيث تحلق أسراب طائر النورس على ارتفاع قليل فيما يحاول السلطعون تجنب الأصداف والاختباء بين الصخور، وعندما أصبح صديقي في العقد الرابع من العمر لم يعد يستهويه سوى طلعات البر والطبخ والنفخ والسوالف الحلوة، وما أن بلغ سن الخمسين حتى عافت نفسه كل ذلك واختفى عن الأنظار وبات متنفسه الوحيد تلك الجولة التي يقوم بها على الأحياء الجديدة شرقا وشمالا وجنوبا بحثا عن مسكن العمر الذي يؤويه ويؤمن المستقبل لعائلته التي كبرت مع الأيام !؟.
كان صديقي يعلم جيدا بأن حلم الحصول على مسكن ليس بالأمر السهل، ولكنه كان يمني النفس، ومصدر سعادته ينبع من تلك الخيالات الواسعة التي تحلق في سمائه وتغذي عزيمته كلما شعر بالإحباط، لكنه عاد من آخر مشوار له حزينا فاقدا الأمل، والسبب أن تلك الفيلا السكنية التي عشقها وهام في حبها وطالما تغزل في جمال واجهتها ووصف أدق ملامح تصميمها وديكوراتها، أصبحت أشبه بالفتاة العانس التي تقدم بها العمر وفاتها قطار الزواج لأن والدها غالى في المهر ووضع شروطا يصعب تحقيقها، لقد بانت التشققات على جدرانها وظهر عدم الاهتمام بصيانتها ونظافتها، حتى لوحة الإعلان باتت مهملة وتتدلى من النافذة كجديلة شعر غزاها الشيب!!.

الفتاة التي يمنعها وليها من الزواج ممن تختاره، قد تتمكن يوما من التقدم لمحكمة الأحوال الشخصية وترفع دعوى عضل أما تلك الفيلا السكنية التي تنتظر شريك حياتها فهي ثابتة في مكانها، تقف في وجه الريح والظروف المناخية، وتعلق مصيرها على ما ستسفر عنه ورشة العمل التي تقام كل فترة على شرف أحد المسؤولين من أجل مناقشة الحلول الناجعة للمعضلة التي صنعوها ثم يحاولون الآن فك طلاسمها، لقد اشترطوا مهـرا باهضا للارتباط بها يتمثل في دفع المواطن مقدما مقداره 30% من قيمة التمويل المصرفي، وسبق أن اشترطوا على أختها الصغيرة (الشقة) بأن تكون مساحتها 240م2 قبل أن يقلصوها مؤخرا إلى 175م2 لتكون في (السن) التي يسمح لها بالارتباط !؟.
حالة العشق والهيام التي يعيشها المواطن مع السكن الذي يحب، لن يكتب لها النجاح في ظل هذه الظروف المحبطة وقد لا يأتي اليوم الذي يرتبطان فيه، والسبب أنه ليس الولي وحده (صندق التنمية العقارية) من يقف عائقا أمامهما لتحقيق هذه الرغبة المشروعة، فهناك الأعمام
(وزارة الإسكان) وهناك الأخوال (المصارف الممولة) وهناك أبناء العشيرة (المطورون العقاريون) جميعهم يرفضون بشكل أو بآخر هذا الارتباط بحجة (عدم تكافؤ النسب) فهم بشروطهم التعجيزية ومغالاتهم الزائدة يريدون لذلك المواطن البسيط أن يبقى طوال حياته مستأجرا، وإذا قدر له الارتباط في النهاية، يرتبط بقبر مساحته متر في مترين بجانب أحلامه وأمانيه التي دفنت معه للأبد!؟..