الفقـد

مشعل السديري

ليس هناك أكثر إيلاما على الإنسان من (الفقد)، خصوصا إذا كان من فقدته قد تعايشت معه على الحلوة والمرة سنوات وسنوات، وكل ركن أو زاوية في منزلك لا ترحمك من الإشارات والذكريات، وكلما حاولت صرفها عنك، أو حاولت تناسيها، ازدادت في شراستها وعدوانيتها.
الله عز وجل في كل يوم وكل ليلة، بل وكل ساعة ودقيقة ولحظة، يسترد المزيد من أماناته في كل بقاع العالم، ولا راد لمشيئته، وما على الإنسان المصاب بعزيز لديه سوى (الاحتساب) ولا شيء غيره.
وستمضي بنا الأيام سواء طالت أو قصرت، إلى حيث لا ندري.
إن الموت هو الحقيقة الوحيدة الصادمة التي لا فكاك منها، قد تحاول أن تتحاشاها أو تلتف عليها، ولكنك في كلتا الحالتين تكون إما كالطريدة في مواجهة الرصاصة، أو كالسمكة التي تلتف داخل شبكة الصياد لا خارجها.
فمن ذا الذي يكابر، ومن ذا الذي يراهن، ومن ذا الذي يحجب شعاع الشمس بالمنخل، ومن ذا الذي يوقف غروبها ويمنع الليل من بسط ردائه الأسود؟!
ولكن العزاء كل العزاء أن الله هو الذي يلطف بعباده.
وبما أن لدي حصيلة لا بأس بها من الأصدقاء والمعارف، شاركني البعض منهم بالمواساة في مصابي، وبعد أن انتهت أيام العزاء، خطر لأحدهم أن يجاملني ويطفئ الأحزان المعتملة في صدري أن دعاني إلى منزله، ولمكانته في نفسي لم أستطع أن أرد طلبه.
وما إن دخلت إلى مجلسه حتى وجدت معه ستة أشخاص، وتفاجأت به يقول لي: مرحبا بك عضوا جديدا في نادي (الأرامل) ؟!، عندها عرفت أن كل هؤلاء الذين عزمهم معي ما هم إلا رجال فقدوا زوجاتهم وتحولوا إلى أرامل.
هل تصدقون أننا تعاطفنا مع بعضنا البعض بدون مقدمات، والتففنا حول بعضنا البعض (كالولايا) التعيسات تماما بتمام؟!
وبعيدا عن أحزاني إليكم هذا الخبر الذي قرأته:
تلقت مسنة بريطانية رسائل حب وصورا من زوجها بعد مضي (55) سنة على رحيله، وكان (جيمس شو) قد قضى نحبه وهو في الثانية والعشرين من العمر خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية عام 1944 وخلال الاحتفالات بعيد النصر عام 1998 تلقت المسنة (80) سنة من السلطات الروسية رسائل وصور زوجها الذي كان قد سلمها لمسؤول وحدته قبل توجهه بأيام إلى الجبهة الإيطالية حينئذ، وتسلمت أيضا دفتر ادخار زوجها.
وتضمنت الرسائل أشعارا يتغزل فيها بزوجته التي لم يمض على زواجه منها أكثر من سنتين.
ولم تجد السيدة تفسيرا لتحفظ القوات الروسية طيلة هذه السنوات على أوراق تخصها، علما أنها تزوجت للمرة الثانية.
والغريب أن زوجها الحالي الغيور البالغ التسعين من عمره، استاء من تلك الرسائل، غير أنني لا أستبعد أن زوجته قالت له بما معناه: (ما الحب إلا للحبيب الأول).
دعائي لكم جميعا بطولة العمر، ولا أراكم الله مكروها في عزيز لديكم.