الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية

الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية

نص: أدواردو غاليانو ــ ترجمة: علاء شنانة

كان كارلوس الخامس، وريث القياصرة على عرش الإمبراطورية المقدسة وبانتخاب مدفوع الثمن، كان قد قضى في اسبانيا ما لا يزيد عن ستة عشر عاما من أعوام ملكه الأربعين. ذلك العاهل ذو الذقن المدببة والنظرة الحمقاء، والذي كان قد اعتلى العرش دون ان يعرف كلمة واحدة من اللغة القشتالية، كانت تحيط به حاشية من الفلمنكيين الجشعين وظل يمنحهم تصاريح يُخرجون بها من اسبانيا بغالا وخيولا محملة بالذهب والجواهر، كذلك كان يكافئهم مانحا لهم مناصب الأساقفة وكبار الأساقفة، وكانت مناصب بيروقراطية، كما منحهم اول ترخيص لجلب العبيد السود الى المستعمرات الامريكية. وكان مندفعا لمطاردة الشيطان في كل أوروبا، ليفرغ كنز أمريكا في حروبه الدينية. ولم تنقطع سلالة الهاسبورغو بموته؛ فقد كان على اسبانيا ان تعاني في ظل مملكة سلالة نمساوية خلال قرنين من الزمان. وكان ابنه فيلب الثاني هو بطل الإصلاح المضاد. ومن القصر والدير في نفس الوقت الذي كان يسكنه في الاسكوريال، عند سفوح جبل غواداراما، أدار فيليب الثاني، على نطاق شامل، الماكينة الرهيبة لمحاكم التفتيش، وأطلق جيوشه على مراكز الهرطقة. كان مذهب كالفن قد انتزع هولندا، إنجلترا وفرنسا، وكان الاتراك يجسدون خطر عودة الإسلام. لقد كانت فلسفة النجاة مكلفة: والأشياء الذهبية والفضية القليلة، وهي من اعاجيب الفن الأمريكي، والتي لم تصل مصبوبة جاهزة من المكسيك والبيرو، نُهبت بسرعة من الغرفة التجارية بإشبيلية وألقيت بين ألسنة النيران في الافران.

كذلك التهمت النيران الهراطقة والمشكوك في هرطقتهم، احرقتهم النار المطهرة لمحاكم التفتيش؛ ولقد احرق توركويمادا الكتب بينما كان ذيل الشيطان يظهر في كل الأركان: لقد كانت الحرب ضد البروتستانتية حربا ضد الرأسمالية الصاعدة في أوروبا. ذكر اليوت في كتابه المذكور آنفا «لقد كان استمرار الحرب الصليبية يتضمن استمرار التنظيم الاجتماعي العتيق لدى امة من المحاربين الصليبيين». ان معادن أمريكا، سبب بهجة ودمار اسبانيا، وسائل القتال ضد القوى الناشئة للاقتصاد الحديث. وكان كارلوس الخامس قد سحق البرجوازية القشتالية في الحرب ضد رجال الكوميونة، التي تحولت الى ثورة اجتماعية ضد النبلاء، وممتلكاتهم وامتيازاتهم. وهزمت الانتفاضة بدءا من خيانة مدينة بورغوس، والتي ستصبح عاصمة الجنرال فرانسيسكو فرانكو بعد ذلك بأربعة قرون؛ عاد كارلوس الخامس الى اسبانيا بصحبة أربعة الاف جندي ألماني. وفي ذات الوقت، غرقت في بحر من الدم الانتفاضة الشديدة الراديكالية التي قام بها النساجون، والغزّالون والحرفيون الذين استولوا على السلطة في مدينة بلنسية ومدوا سيطرتهم الى مجمل المنطقة.
لقد كان الدفاع عن العقيدة الكاثوليكية مجرد قناع للنضال ضد التاريخ. كان طرد اليهود -إسبان ويدينون باليهودية- قد حرم اسبانيا، في زمن الملكين الكاثوليكيين، من الكثير من الحرفيين المهرة ومن رؤوس أموال لا غنى عنها. كما طُرد العرب –اسبان، وفي الحقيقة، يدينون بالدين الإسلامي– بالرغم من انه في عام 1609 ليس بأقل من 275 ألفا سيقوا الى الحدود وكان لهذا آثار كارثية على الاقتصاد في فالنسية، وعلى الحقول الخصبة جنوبي نهر الايبرو التي دمرت، وفي اراغون، قبل ذلك، كان فيليبي الثاني قد طرد، لأسباب دينية، آلافا من الحرفيين الفلمنكيين الذين يعتنقون او المشكوك في اعتناقهم البروتستانتية: لتحتضنهم إنجلترا على أراضيها ليعطوا على إثرها دفعة غاية في الأهمية للصناعات البريطانية.
لم تكن المسافات الهائلة ولا الاتصالات الصعبة، كما يتضح، هي العقبات الأساسية التي كانت تعرقل التقدم الصناعي لإسبانيا. فالرأسماليون الاسبان تحولوا الى أصحاب دخول، من خلال شراء ديون التاج، ولم يستثمروا أموالهم في التنمية الصناعية. وتحولت العائدات الاقتصادية الى مجالات غير منتجة: كان الأغنياء القدامى، ارباب المشنقة والسكين، ملاك الأراضي وألقاب النبالة، وهم يشيدون القصور ويكدسون الجواهر؛ وكان الأثرياء الجدد، المضاربون والتجار، يشترون الأراضي وألقاب النبالة. وكانوا جميعا لا يدفعون الضرائب تقريبا، ولا يمكن إيداعهم السجون لوفاء ديونهم. ومن يشتغل في نشاط صناعي كان يفقد تلقائيا لقب النبالة 24.
ولقد منحت اتفاقيات تجارية متوالية، وقعت بدءا من هزائم الاسبان العسكرية في أوروبا، امتيازات لتنشيط حركة التجارة البحرية بين ميناء قادش، الذي يربط اشبيلية، وبين الموانئ الفرنسية والانجليزية والهولندية وموانئ اتحادات المدن التجارية الألمانية. وكانت، في كل عام، ما بين ثمانمائة وألف سفينة تفرغ في اسبانيا المنتجات التي صنّعها الاخرون. محملة بالفضة من أمريكا والصوف الاسباني، المتوجه الى مصانع النسيج الأجنبية لتعود وقد نسجته الصانعة الأوروبية الآخذة في التوسع. واكتفى المحتكرون في قادش على دمغ المنتجات الصناعية الأوروبية المرسلة الى العالم الجديد: فإذا كانت المنتجات الاسبانية غير كافية لقضاء حاجة السوق الداخلية، فكيف بإمكانها اشباع احتياجات المستعمرات؟
لقد كانت الدانتيلات من مدن ليل وأراز، والمنسوجات الهولندية، والسجاجيد من بروكسل، والاعمال المطرزة من فلورنسا، والكريستال من فينيسيا، والأسلحة من ميلانو، والنبيذ والكتان من فرنسا، كانت تغرق الأسواق الاسبانية، على حساب الإنتاج المحلي، من اجل اشباع رغباتهم الملحة في التفاخر، بالإضافة الى استهلاك الأغنياء الطفيليين الذين كانوا يزدادون عددا وقوة في بلد يزداد فقرا. 25 لقد ماتت الصناعة قبل ان تولد، وعملت سلالة الهاسبورغو كل ما بوسعها لتعجيل موتها. وفي منتصف القرن السادس عشر بلغ الامر بهم الى إعطاء تصريحات لاستيراد منسوجات اجنبية في حين حظروا تصدير الاقمشة القشتالية ما لم يكن متجها لأمريكا. 26
وعلى العكس من ذلك، وكما أوضح راموس، لقد كانت توجهات هنري الثامن واليزابيث الأولى في إنجلترا مختلفة تماما. فلقد حُظر خروج الذهب والفضة في هذه الأمة الصاعدة، وتم احتكار السندات، كما عرقلا استخراج الصوف، وطردوا من الموانئ البريطانية بضائع رابطة اتحاد المدن التجارية الألمانية لبحر الشمال. وكانت الجمهوريات الإيطالية تحمي تجارتها الخارجية وصناعتها من خلال فرض الرسوم الجمركية، والامتيازات، وطرق حظر صارمة: فلم يكن الصنّاع المهرة يستطيعون الخروج من بلادهم تحت طائلة عقوبة الإعدام.
لقد عم الخراب كل شيء. فمن بين 16 ألف معمل نسيج التي كانت موجودة في اشبيلية عام 1558، عند وفاة كارلوس الخامس، لم يبق سوى اربعمائة عند وفاة فيليبي الثاني، بعدها بأربعين عاما. وتقلص عدد الماشية في مقاطعة الاندلس من سبعة ملايين الى مليونين. وقد وصف سرفانتس في روايته الواسعة الانتشار دون كيشوت دي لا مانشا، مجتمع عصره جيدا. وكان قد صدر مرسوم في أواسط القرن السادس عشر جعل من المستحيل استيراد الكتب الأجنبية ومنع الطلاب من الدراسة خارج اسبانيا؛ وتقلص عدد طلاب مدينة سالامنكا الى النصف خلال عقود قليلة؛ كان يوجد تسعة الاف دير وتضاعف الكهنة بنفس سرعة تضاعف النبلاء أصحاب العباءة والسيف؛ كان 160 الفا من الأجانب يحتكرون التجارة الخارجية، كما حكمت، مظاهر الترف لدى الارستقراطية، على اسبانيا بالعجز الاقتصادي. ونحو العام 1630، كان هناك ما يزيد قليلا عن المائة والخمسين من الدوقات، والماركيزات، والكونتات، والفيسكونتات يحصلون على ريع سنوي يقارب الخمسة ملايين دوكاو، لتشبع بريق القابهم الطنانة. كان لدى دوق ميديناثيلي سبعمائة من الخدم، ولدى دوق اوسونا ثلاثمائة، وللسخرية من قيصر روسيا كانوا يبلسون هؤلاء الخدم معاطف جلدية. 27
لقد كان القرن السابع عشر هو عصر التشرد والجوع والاوبئة بامتياز. كان عدد المتسولين الاسبان لا نهائيا، رغم ان هذا لم يمنع من تدفق المتسولين الأجانب عليها من كافة أرجاء أوروبا. وبحلول عام 1700 كان يوجد في إسبانيا 625 ألف نبيل، من أسياد الحرب، رغم ان اسبانيا كانت تفرغ من سكانها: فقد انخفض عدد سكانها الى النصف خلال قرنين من الزمان، وكان تعداد سكانها مساويا لتعداد السكان في إنجلترا، التي كانت قد ضاعفت سكانها خلال نفس الفترة. يعتبر عام 1700 هو نهاية نظام سلالة هابسبورغو. وكان الإفلاس شاملا. بطالة مزمنة، اقطاعيات شاسعة مقفرة، عملة ضعيفة، صناعة مدمرة، وحروب خاسرة، وخزائن خاوية، وسلطة مركزية غير معروفة في الأقاليم: لقد كانت اسبانيا التي استلم عرشها فيليبي الخامس «اقل موتا بقليل من سيدها الميت». 28
واعطت سلالة البوربون البلاد مظهرا أكثر عصرية، ولكن كانت الكنيسة الاسبانية عند نهاية القرن الثامن عشر تضم ما لا يقل عن مائتي ألف عضو ولم يكن بقية السكان غير المنتجين بقادرين على إعاقة نمو هذا الهدر. وفي ذلك الحين، كان يوجد في اسبانيا أكثر من عشرة الاف قرية ومدينة خاضعين للسلطة القضائية للنبلاء، وخارجة بالتالي عن السيطرة المباشرة للملك. بقيت الاقطاعيات ومؤسسة البكورة دون ان يمسهما أي تغيير. واستمر نفوذه. لم تكن فترة حكم فيليبي الرابع قد تم تجاوزها بعد: فلقد اجتمع مجلس من اللاهوتيين في عصره لفحص مشروع إنشاء قناة لتربط بين نهري المانثانارايس والتاخو لينتهي الامر بإعلان بأنه لو كانت إرادة عليا للملاحة في الأنهار، لكانت.