خاشقجي ومنافسه محمد نعمان جلال (3)

علي العميم

من الشواهد المعبرة عن أن كلمة انقلاب، كان لها معنى إيجابي في اللغة العربية المعاصرة. ما يلي:
- كتاب «حقيقة الانقلاب الأخير في مصر». الطبعة الأولى منه تمت بعد مضي ما يقرب من أربعة أشهر من حصول الانقلاب. وطبعته الثانية كانت في آخر شهر من عام 1952.
وقبل أن أعرّف بالمؤلف وأذكر صلته بأصحاب ثورة 23 يوليو، سأورد نصا لدبلوماسي وباحث ومؤلف مصري، اسمه محمد نعمان جلال ينافس جمال خاشقجي في توفر الخطأ والتخليط في كلامه. وأورده لأنه يدخل في صميم ما أقوم بتصحيحه.
يقول هذا الرجل في كتاب له عنوانه «الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجا»:
«إن اليسار الماركسي قد هاجم الثورة منذ بدايتها وأسماها انقلابا عسكريا، وقد قاد الدكتور راشد البراوي ذلك الهجوم واتهمها بأنها من تدبير المخابرات المركزية الأمريكية، وكذلك فعل الكثير من أعضاء الحزب المصري الذي دفع قادة الثورة إلى اعتقالهم إلخ...ص 56.
إن كل سطر من هذا الكلام هو عار من الصواب. وأعظم طامة فيه هو أنه لم يقرأ الكتاب.
إن أكثرية من التنظيمات الشيوعية المصرية قالت عن حادثة الانقلاب إنها انقلاب فاشي، ولم تكتف بوصف ما حدث بأنه انقلاب، لأن هذه الكلمة وحدها، لم تكن في ذلك الوقت تعتبر مذمة. وقالت إنه تم بتدبير من المخابرات الأمريكية. وقد سبقها بهذا القول أو قاله معها الاتحاد السوفيتي.
أعيد القول أن التغيير السياسي الذي يطيح بأسرة أو بزعيم فرد أكان عسكريا أم مدنيا من الحكم حين يسمى انقلابا لا يعني هذا انتقاصا ولا انتقادا ولاتحفظا، وإنما يعني أن ما حدث هو تغيير شكلي في الحكم تتغير فيه الأسرة والزعيم ولا تتغير طبيعة السلطة، ولعلنا هنا نستشهد بتعبير غربي شهير الشائع والشهير في علم السياسة في شرح هذه القضية: تتغير الأوركسترا ولا تتغير الموسيقى. وبتعبير إسلامي مستوحى من هذه العبارة: يتغير المقرئ ولا تتغير طريقة التلاوة.
إضافة إلى ما سبق من تصحيح، فإن الأكثرية من التنظيمات الشيوعية المصرية التي قالت عن حادثة الانقلاب إنها انقلاب فاشي (الفاشية تهمة خطرة في الشيوعية) قالتها في الأيام والشهور الأولى لحدوثه ولم يتعرض قادة الثورة لهم بسوء واعتقالهم الأول كان سببه مطالبتهم بعودة الديمقراطية في أزمة مارس 1954.
إن راشد البراوي ماركسي لكن لم يكن له صلة بالتنظيمات الشيوعية، وإن كانوا أفادوا من قراءة كتبه، وهو متخصص في الاقتصاد. وكان يدرس في كلية التجارة بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقا)، لكنه كان موسوعي الثقافة، وغزيرا في التأليف والترجمة وسريعا فيها مع إجادة واتقان. والرجل ينطوي على قدرات غير عادية، لكن ثورة 23 يوليو رغم أنه خدمها وأحسن إليها أهملته في سنوات تالية لها، وكذلك فعل المثقفون والباحثون المصريون فلقد ركنوه يا للأسف في زاوية الإهمال.
الكتاب المذكور يجمع بين مادة بحثية مفيدة عن ثورة 23 يوليو ودفاع لبق وذكي ومقنع عنها. وما يهمنا من هذا الكتاب صدد ما نعالجه هنا هو عنوانه الذي استخدم فيه كلمة انقلاب بمعنى إيجابي، واستخدامه كلمتي انقلاب وثورة على نحو متجاور في محتويات الكتاب و في صفحة الاهداء: «إلى كل من ساهم في نشوب ثورة مصر الأخيرة بيده، أو بلسانه أو بقلمه».
ومما تجدر الإشارة له هنا أن له كتبا أخرى ترافع فيها عن ثورة 23 يوليو بمهارة وبرقي.
لقد استعانت الثورة في مبتدأ أمرها بعلمه وبخبرته وصاغ عددا من مشاريعها بسرعة مذهلة.
والصلة التي جمعته بأهلها، وألجأتهم إلى الاستعانة به هي المخابرات الأمريكية، فهو منذ بداية مشروع النقطة الرابعة في منطقة الشرق الأوسط، كان منخرطا فيه، رغم أنه كان محسوبا على الثقافة الماركسية!
وربما أقرب كلام إلى تصنيفه، هو أنه خليط ليبرالي بين الاشتراكية والماركسية والإسلام.
- كتاب «الأيدلوجية الانقلابية» و«من الحقيقة الإنسانية إلى الحقيقة الانقلابية» لنديم البيطار.
نديم البيطار لبناني، ومنظر وحدوي كبير. اتجاهه بعثي لكنه كان داعية للناصرية. والناصرية هي أنموذجه ومثاله. ألف الكتاب الأول سنة 1964، وألف الكتاب الآخر سنة 1969.
في هذين الكتابين كان يستخدم تسمية انقلاب بمعنى ثورة. وفي طبعة الكتاب الأول الثانية (1982) غير عنوانه من «الأيدلوجية الانقلابية» إلى «الأيدلوجية الثورية» للتحول الذي طرأ على معنى كلمة انقلاب في اللغة العربية، لكنه أبقاها كما هي في محتويات الكتاب وعناوينه، لاعتقاده أن كلمة انقلاب تشير إلى تحول أكثر جذرية وشمولية من كلمة ثورة وثورية.

- كتاب «ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبدالعزيز».
هذا الكتاب لأكاديمي ومنظر إسلامي من العراق. اسمه عمادالدين خليل. عمادالدين خليل هو من صفوة أكاديميي ومثقفي الإسلام الحركي ومن خيرتهم. ويتمتع بمستوى أكاديمي وثقافي رفيع. أي أننا لم ننتقِ من الإسلاميين من هو متواضع في مستواه الأكاديمي والثقافي ومن هو رث فيهما، ومن هو دعائي وشعبوي. وما أكثر هؤلاء في صفوف الإسلاميين.
صاحبنا استخدمها في عنوان الكتاب وفي محتواه في معرض المدح وليس في سياق الهجاء. وقد استخدمها في كتابه، لأنه في سنة 1970 أي سنة طباعة كتابه لم يكن معناها قد تشوه.
ومع تعدد طباعة كتابه وتشوه معنى كلمة انقلاب في السنوات التي أعاد فيها طباعته إلا أنه لم يحدث تعديلا فيه، ولم ير نفسه مضطرا لصنع مقدمة يبرر فيها استخدام كلمة انقلاب.
ذلك أن كلمة انقلاب لها دلالة خاصة وعميقة عند كبار منظري الإسلام الحركي، وهم يستخدمونها في كتاباتهم بمعنى ثوري شامل عميق، يدعي ويتنطح إلى بعث النبوة المحمدية مجددا!!! والعرب منهم بدأوا في استخدامها بعد أن وضعها مترجم لمحاضرة من محاضرات المودودي والتي كان اسمها بالأردية (كيف تقام الحكومة الإسلامية؟) في عنوان الترجمة إلى العربية: «منهاج الانقلاب الإسلامي»، سنة 1946. وكان المترجم هنديا وهو أحد أتباع المودودي ومن خلصائه. وانقلاب في الأردية تعني كما في التركية والفارسية، ثورة.
إني لا أستطيع أن أحسم متى تحول معنى كلمة انقلاب من إيجابي إلى سلبي، والذي أميل إليه أن التحول حدث في وقت ما من سبعينيات القرن الماضي.
لم يكن عبدالناصر وصحبه يجهلون الفرق بين ثورة وانقلاب، كما استقر الجدل عليه في الفكر الغربي ولا يجهلون طبيعة موقف خصمهم اللدود، بريطانيا من كلمة ثورة، ومن الثورة ذات المحتوى القومي، وكان لمصر سابقتان في هذا الشأن: ثورة عرابي وثورة 1919 حاربتها بريطانيا. ولم يكن هو وصحبه زاهدين في كلمة ثورة والتي من دون مواربة ومناورات واحتيالات ومعارك كر وفر كانت ستحقق لهم مباشرة تبرير وتسويغ وشرعنة التغيير الجذري في بنية الحكم والسلطة والاستمرار والدوام فيهما.

* باحث سعودي