خالد الدخيل.. مرجع جمال خاشقجي! (الحلقة الأخيرة)
الجمعة / 10 / جمادى الأولى / 1437 هـ الجمعة 19 فبراير 2016 20:32
علي العميم
إن ما يكتبه خالد الدخيل عن الدولة والدولة الإسلامية والخلافة والعلاقة بين الدين والدولة وعن العلمانية والليبرالية وابن خلدون وما شاكلها من موضوعات، ما هو إلا استعادة لما قاله عبدالله العروي ومحاولة للتنويع على ما قاله لكن على نحو باهت وضعيف. فخالد يتكئ عليه اتكاء ثقيلا سواء صرح بالاقتباس منه أم لم يصرح.
لن يتردد القارئ لأعمال العروي، ولما كتبه خالد في تلك الموضوعات، في القول إن العروي يمثل لخالد سلطة مرجعية حاكمة، أو ربما سيقول: إنه مرجعه اليتيم!
وما انشغال خالد بـ(الفقيه) وبـ(الدولة) وحضورهما المركزي في اجتهاداته الصحفية سوى رجع لانكبابه على قراءة كتاب العروي (مفهوم الدولة). وانكباب خالد - بطبيعة الحال - لا يقتصر على هذا الكتاب، بل يشمل أعمال العروي المترجمة إلى العربية في سبيعينات القرن الماضي، كـ(الأيديولوجية العربية المعاصرة) و(العرب والفكر التاريخي) و(أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخية)، وأعماله الصادرة بالعربية في ثمانينات ذلك القرن، كـ(مفهوم الدولة) و(مفهوم الحرية) و(مفهوم الأيديولوجيا) و(ثقافتنا في منظور التاريخ)، و(مجمل تاريخ الغرب).
ومن أعماله الأولى أخذ عنه - على سبيل المثال - المنهج التاريخي، وتعرف على الماركسية والمنهج الماركسي وعلى تاريخ الثورات ونظرية الثورة، واستنسخ موقفه من الحقبة الليبرالية ومثقفيها في مصر، وموقفه من التجربة الناصرية والفكر القومي العربي عموما.... إلخ
هذا مع أنه من المحقق أنه قد قرأ في هذه الموضوعات وموضوعات أخرى أخذها عنه، عند مؤلفين أخر.
إني لا أعلم ما سبب احتباسه في أطروحة العروي وفي منهجه التحليلي. ربما كان العروي هو الذي أحدث له نقلة كبرى في التفكير وحقق له الإشباع الأيديولوجي والزاد المعرفي الذي كان يتوخاه، فاحتلت أطروحة العروي ومنهجه كل مسام تفكيره، بحيث لا يستطيع الخروج منهما وعنهما حتى لو أراد ذلك.
يأتي في التأثر بأطروحته مكسيم رودنسون – وعلى نحو أقل وجزئي – بعد العروي وذلك من خلال بعض كتبه.
لتأكيد بعض ما أشرت إليه في السطور السابقة، سأقف عند فكرة طرحها خالد في إحدى مقالاته، بطريقة مقتضبة وناقصة لأن المجال هنا يضيق في استيعاب مناقشة وافية.
في مقالة عنوانها (العروبة والإسلام والليبرالية) منشورة في جريدة (الحياة) نبه خالد – وهو يجادل المعترضين على فوز الإخوان المسلمين بالانتخابات في مصر، الذين رأوا أنه يحمل تهديدا مضمرا للحرية والديموقراطية والدولة المدنية – إلى ما أسماه بـ«حقيقة» تغيب عنهم وهي: أن المرور بالمرحلة الإسلامية أمر ضروري تاريخيا.
وفي صدر المقالة أشار بعبارة غير دقيقة إلى أنه «ربما أن المفكر المغربي عبدالله العروي، هو أول عربي انتبه إلى الجدل داخل الأدبيات الماركسية حول الليبرالية وموقفها من التغير الاجتماعي، ودلالته هو بالنسبة إلى الوضع العربي. كان يقال في تلك الأدبيات بأنه حتى يتحقق تحول المجتمع من الإقطاعية إلى الاشتراكية لابد من المرور بمرحلة الرأسمالية، وبالتالي الليبرالية وإلا سيكون التحول مبسترا، وغير طبيعي، ولن يؤدي إلى النتيجة المطلوبة».
هذه الفكرة استعارها خالد من العروي دون أن يشير إلى صاحبها ومصدرها، وسحبها – باعتساف – إلى سياق هو غير سياقها الفلسفي والأيديولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي.
استعار خالد الفكرة التي قال بها في العبارة الأولى، وهي أن المرور بالمرحلة الإسلامية أمر ضروري تاريخيا، من السؤال الذي طرحه العروي في دراسته (منطق الأيديولوجية العربية المعاصرة)، وهو: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (ومن دون أن يعيش مرحلة ليبرالية)؟ واستوحى معلوماته الواردة في العبارة الثانية والتي حذفتها منها للاختصار، مما قاله العروي بعد صياغته لهذا السؤال.
الدقة في العبارة الثانية، هي أن عبدالله العروي قطعا – وليس ربما – هو أول ماركسي عربي ومناضل سياسي حزبي يدعو رفاقه الماركسيين إلى الانطلاق والتأسيس في ماركسيتهم على ليبرالية القرن الثامن عشر (عصر التنوير)، وذلك في دراسته التي أشرنا إليها آنفا والتي ضمت إلى دراسات أخرى، وترجمت هذه الدراسة والدراسات الأخرى من الفرنسية إلى العربية تحت عنوان (العرب والفكر التاريخي) في دار الحقيقة ببيروت سنة 1973.
جاءت دعوة العروي في سنوات انكسار حلم الدولة القومية التقدمية الاشتراكية مع هزيمة 1967، وتراجع حركة التحرر الوطني بشقيها الناصري والبعثي وتقدم الدولة العربية اليمينية المحافظة في أول السبعينات الميلادية.
وكان العروي في هذه الدعوة يخاطب - بالدرجة الأولى - الأحزاب الشيوعية والمثقفين الشيوعيين واليساريين في العالم العربي، ويخاطب – بالدرجة الثانية – الأحزاب القومية الاشتراكية والمثقفين القوميين المرتبطين بالنظرية الماركسية، ولا يخاطب تيارات أخرى، هي خارج إطار هذا الجدل الداخلي الخاص والتي لا تعنيها هذه الدعوة بشيء، بما فيها التيار الليبرالي.
في رأي العروي أن النقد الماركسي لليبرالية يفيد التقليديين، ويعزز من مكانة أيديولوجيتهم ويزيد من انتشارها. أي أن الماركسيين بعملهم هذا، يقعون بالمطب نفسه الذي وقعت فيه التجربتان الناصرية والبعثية، ألا وهو أنهم من حيث لايريدون، يخدمون التيار التقليدي والقوى المحافظة، أعداء التقدم وأعداء التحديث.
الحل لهذه المعضلة كما يرى، هو الجمع بين الليبرالية في نسختها الأصلية الأولى، ليبرالية القرن الثامن عشر وبين الماركسية اللينينية.
ماهي ليبرالية القرن الثامن عشر؟ ولماذا يطالب العروي الماركسيين العرب باستئنافها أو البدء منها في ماركسيتهم؟
ليبرالية القرن الثامن عشر هي الحركة الفلسفية والفكرية التي ظهرت في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وكانت تحمل اسما مختلفا في كل بلد من هذه البلدان الثلاثة، يشير إلى معنى واحد هو مرحلة التنوير أو عصر التنوير.
هذه المرحلة أو هذا العصر تحقق مفهوم الثورة الثقافية فيه. وذلك بتطبيق الثقافة العلمانية في كل ميدان من ميادين الحياة. والعلمانية بلورت نفسها في هذه المرحلة أو هذا العصر في صيغة ثورة نقدية على الدين. الدين ليس في شكله السلطوي وفي شكله الاجتماعي والمؤسسي وفي فترة تاريخية معينة وحسب، بل الدين في أي شكل وصورة كان، وفي أي زمان كان. فالدين عند مناضلي عصر التنوير الذين قادوا حربا جدالية في سبيل القضاء على الدين المسيحي وإنهاء العصر الديني من تاريخ الحياة الإنسانية، هو إشارة لكل ماهو غير عقلي ورجعي وهمجي.
هذه المهمة في هذه المرحلة أو هذا العصر، أسفرت عن علمنة وعقلنة في التفكير في شتى الميادين، أنجزتها الطبقة البرجوازية والفكر المنسوب إليها وهو الفكر البرجوازي.
العجيب أن العروي وهو يطالب المثقف الماركسي بممارسة الدور التي قامت به الطبقة البرجوازية في القرن الثامن عشر، يلجأ إلى اللف والمداورة ويجبن أن يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية.
فالفكر السلفي الذي يطالب المثقف الماركسي باجتثاثه ليس هو السلفية حتى بمعناها العام، وإنما هو الفكر الديني في أي مستوى من مستوياته حتى لو كان استخدامه تقدميا ومستنيرا وعلمانيا، وحتى لو كان استعماله في التفكير والتحليل والتنظير استعمالا بسيطا ومحدودا وثانويا.
ويستخدم العروي تعبير الفكر التقليدي بمعنى عام وفضفاض، يستخدمه حينا بمعنى (السنية). فالسنة والسنية والتسنين تعني عنده التقليدية والاتباعية والاتجاه إلى الماضي أو الماضاوية.
ومما له دلالة في استخدامه هذا أنه بدأ الكتابة تحت اسم مستعار، هو عبدالله الرافضي. أي أنه رافض للفكر السني، والذي يأتي عنده بمعنى الفكر التقليدي، القديم، العتيق، الأثري، الحرفي المتشدد.
ورغم أني أوضحت مايعنيه العروي بالفكر السلفي والفكر التقليدي والسنة، فإن هذا لا يعني أني أقول إنه يستخدم كل اصطلاح من هذه الاصطلاحات بمعنى متمايز عن الآخر. ففي استخدامه لها قدر كبير من التخليط والتشويش والتداخل. فهي تعني تارة الدين أو الفكر الديني، وقد تعني تارة الفكر الديني التقليدي والفكر الديني العصري معا.
والمثقف العلماني – ومن ضمنه المثقف الماركسي – المدان عنده هو صنفان: إما مثقف سلفي وإما مثقف انتقائي.
هذه لمحة عن أطروحة العروي التي أشار خالد إليها على نحو خاطئ، وقدمها بصورة هي غير التي هي عليها، وأراد أن يطبقها بطريقة مضادة للهدف الذي طرحه من أجلها العروي.
وكتابه (العرب والفكر التاريخي) الذي اتكأ خالد عليه في مقاله، ينتمي إلى جدل ماركسي عربي مشرقي، وبخاصة في لبنان وسورية، رغم أن مؤلفه مغربي، وهذا الجدل كانت بدايته في أول الستينات واستمر إلى سقوط الاتحاد السوفييتي. وفي الوقت الذي نشرت فيه كتب العروي، - كتب المرحلة الأولى -، باللغة العربية وقرأت عند نخبة من المثقفين الماركسيين واليساريين، كانت الأحزاب الشيوعية العربية وغالبية المثقفين الماركسيين واليساريين ملتزمين بالخط الشيوعي البلشفي الرسمي والذي كان من بين إيماناته، عنف الأقلية الثوري للاستيلاء على السلطة وسرقتها من البرجوازية، كما نظر لذلك لينين وفعل. وأولية العداء كانت للإمبريالية والرأسمالية والاستعمار والفكر البرجوازي بليبراليته المحدثه وليبرالية الأساس أو الأصلية. وقد انحصر النقاش حول دعوة العروي تلك وحول أطروحته عموما في دائرة ضيقة من دوائر المثقفين الماركسيين ابتداء من سنة 1974. فمنهم من رفضها كمحمد عابد الجابري، رفيقه الحزبي، ومحمود أمين العالم، ومنهم من تبناها وتأثر به، كياسين الحافظ وجورج طرابيشي، ومنهم من اتفق معها، كعزيز العظمة الذي استخدم وقتها اسما مستعارا هو قيس الشامي. وكان من المسهمين في الجدل حولها الأسماء التي ذكرتها وآخرون، كناجي علوش، وبسام طيبي، ووضاح شرارة، وصادق جلال العظم، وأنور عبدالملك، وسمير أمين، وإلياس مرقص.
وللفائدة أذكر أن أعمال جورج طرابيشي وأعمال عزيز العظمة التي عالجت قضايا التراث والإسلام والحداثة والعلمانية هي تطبيق نظري للفكرة الثاوية في كتاب العروي (العرب والفكر التاريخي)، وأعمالهما هي أكثر اتساقا ووضوحا وأغنى مما طرحه العروي في هذا الكتاب وفي كتابيه الآخرين: (الأيديولوجية العربية المعاصرة) و(أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم سلفية).
وهذه الكتب الثلاثة ومعها كتاب (ثقافتنا في ضوء التاريخ) هي حزمة تنظيرية واحدة. يتسم النص فيها أنه غامض ومبهم ومتفلت ومتقطع ومبتور وقطعي ومتناقض وتعميمي ومتطرف وشاطح.
إن من عيوب خطاب العروي - عروي الستينيات والسبعينيات - أنه يقيم قضايا على مقدمات يعتبرها مسلمات ثم يبني استنتاجات عليها يعتبرها نهائية. ومقدماته بعضها غير صحيح، إما لأنها قائمة على قراءة ناقصة للواقعة، وإما لأنها غرضية.
مر بنا أن خالدا يتكئ على العروي. والعروي في واقع الأمر يستند إلى كارل ماركس. وخالد - في رفعه المرور بمرحلة إسلامية إلى مرتبة الضرورة التاريخية - استند إلى كارل ماركس.
بدءا من هذه المسلمة، لنسأل: هل في الخماسية الماركسية (المشاعية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية، الشيوعية)، أو هل في حديث كارل ماركس عن نمط الإنتاج الآسيوي شيء اسمه المرحلة الإسلامية؟
الجواب: قطعا لا.
لنذهب للإسلاميين، لكي نعرف منهم ماهي المرحلة الإسلامية.
المرحلة الإسلامية عند المودوديين القطبيين هي نقيض الجاهلية. والجاهلية عندهم ليست فترة تاريخية محددة التي هي عصر ما قبل الإسلام عند العرب، وإنما هي عصر ممتد، يوجد – كما قال سيد قطب – بالأمس ويوجد باليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. ضمن هذه الأطروحة لا يقبل الزمن والتاريخ إلا قسمة ثنائية، هي إما إسلام وإما جاهلية. وهذه القسمة تفتح باب التكفير على مصراعيه.
ومن زاوية ثانية وعلى وجه الإجمال، يقول الإسلاميون إن المرحلة الإسلامية تلت المرحلة العلمانية في العالم العربي. أما في التفصيل فإن هذه المرحلة عندهم، تلت مرحلة من الليبرالية، وتلت مرحلة تساندت القومية العربية مع الشيوعية ضد الإسلام وضد الإسلاميين.
يتفق الإسلاميون والعلمانيون أن عصر الصحوة الذي ما زلنا نعيشه إلى الآن، ابتدأ بالصعود منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. وبما أن الأمر على هذا النحو، فما الجديد الذي حملته ثورات الربيع العربي في مرحلتها الانتقالية بما يخص المرحلة الإسلامية التي هي المهيمنة في العالم العربي منذ ما يجاوز الثلاثة عقود؟! وماذا نقول عن بلد كالسعودية الذي لم يعرف سوى المرحلة الإسلامية بدون الإخوان المسلمين ومع الإخوان المسلمين؟! وهل هذا يعني أن مصر - بحسب مفهوم الإسلاميين لمعنى المرحلة الإسلامية - قبل ثورة 25 يناير كانت علمانية ومع المرحلة الانتقالية شهدت دخولها إلى المرحلة الإسلامية؟ إذا كان الأمر كذلك عند خالد، لماذا هو منهمك في إقناع الإسلاميين بقبول العلمانية؟ وهل من شروط المرحلة الإسلامية أن يكون الرئيس المنتخب من الاخوان المسلمين؟.
في ظني أنه هل لو اعتمدت حجته في تصويغه المرور بمرحلة إسلامية على كتب القرضاوي التي صدرت ضمن سلسلة حتمية الحل الإسلامي، لكن أوفق له، فتلك الكتب – على الأقل – إن توكأ عليها، ربما ستساعده قليلا في المضي في تنظيره المتعثر.
المدهش أن خالدا مع استغراقه وذوبانه في أطروحة العروي إلا أنه لم يستوعبها كما هي، ولدي شواهد غير الشاهد الذي أومأت إليه هنا. ولأنه أطل على الماركسية من خلال العروي، فمعرفته فيها هي معرفة غير دقيقة، ويتكشف هذا الأمر من خلال مقال كتبه كامل الخطي، عنوانه (الليبرالية طريقا إلى التحول الثوري) المنشور في جريدة الأخبار اللبنانية والذي ناقش فيه من زاوية مختلفة مقال خالد الذي تعرضت إليه في هذه السطور.
المفارقة أن خالد الدخيل، مرجع جمال خاشقجي، الذي هو في تكوينه السياسي والفكري بعيد عن أقاويل الإسلاميين، صار يقول بحتمية المرحلة الإسلامية، وخاشقجي الذي كان مبغضا ومعاديا للشيوعية ولحتمياتها يتحدث الآن عن ثورات الربيع العربي بوصفها حتمية تاريخية. وبما أنه بدأ يعتقد بالحتمية التاريخية ولا يقول بقدرية إسلامية، أذكره، إن كان على اطلاع على هذه الحقيقة، هو أن نظرية لينين في الثورة الاشتراكية قامت على الأخذ بتفسير إرادي للماركسية. والتفسير الإرادي هو مضاد للتفسير الحتمي للثورة ولحركة التاريخ عند ماركس. لينين قلل من التعويل على الانفجار التلقائي للصراع الاقتصادي الذي كان يقول به ماركس، وعول كثيرا على الفعل السياسي. وبرر ذلك بأن الحتمية تنحني أمام الإرادوية، فالمرء يعد لها كما يعد لحرب.
* كاتب وباحث سعودي
لن يتردد القارئ لأعمال العروي، ولما كتبه خالد في تلك الموضوعات، في القول إن العروي يمثل لخالد سلطة مرجعية حاكمة، أو ربما سيقول: إنه مرجعه اليتيم!
وما انشغال خالد بـ(الفقيه) وبـ(الدولة) وحضورهما المركزي في اجتهاداته الصحفية سوى رجع لانكبابه على قراءة كتاب العروي (مفهوم الدولة). وانكباب خالد - بطبيعة الحال - لا يقتصر على هذا الكتاب، بل يشمل أعمال العروي المترجمة إلى العربية في سبيعينات القرن الماضي، كـ(الأيديولوجية العربية المعاصرة) و(العرب والفكر التاريخي) و(أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخية)، وأعماله الصادرة بالعربية في ثمانينات ذلك القرن، كـ(مفهوم الدولة) و(مفهوم الحرية) و(مفهوم الأيديولوجيا) و(ثقافتنا في منظور التاريخ)، و(مجمل تاريخ الغرب).
ومن أعماله الأولى أخذ عنه - على سبيل المثال - المنهج التاريخي، وتعرف على الماركسية والمنهج الماركسي وعلى تاريخ الثورات ونظرية الثورة، واستنسخ موقفه من الحقبة الليبرالية ومثقفيها في مصر، وموقفه من التجربة الناصرية والفكر القومي العربي عموما.... إلخ
هذا مع أنه من المحقق أنه قد قرأ في هذه الموضوعات وموضوعات أخرى أخذها عنه، عند مؤلفين أخر.
إني لا أعلم ما سبب احتباسه في أطروحة العروي وفي منهجه التحليلي. ربما كان العروي هو الذي أحدث له نقلة كبرى في التفكير وحقق له الإشباع الأيديولوجي والزاد المعرفي الذي كان يتوخاه، فاحتلت أطروحة العروي ومنهجه كل مسام تفكيره، بحيث لا يستطيع الخروج منهما وعنهما حتى لو أراد ذلك.
يأتي في التأثر بأطروحته مكسيم رودنسون – وعلى نحو أقل وجزئي – بعد العروي وذلك من خلال بعض كتبه.
لتأكيد بعض ما أشرت إليه في السطور السابقة، سأقف عند فكرة طرحها خالد في إحدى مقالاته، بطريقة مقتضبة وناقصة لأن المجال هنا يضيق في استيعاب مناقشة وافية.
في مقالة عنوانها (العروبة والإسلام والليبرالية) منشورة في جريدة (الحياة) نبه خالد – وهو يجادل المعترضين على فوز الإخوان المسلمين بالانتخابات في مصر، الذين رأوا أنه يحمل تهديدا مضمرا للحرية والديموقراطية والدولة المدنية – إلى ما أسماه بـ«حقيقة» تغيب عنهم وهي: أن المرور بالمرحلة الإسلامية أمر ضروري تاريخيا.
وفي صدر المقالة أشار بعبارة غير دقيقة إلى أنه «ربما أن المفكر المغربي عبدالله العروي، هو أول عربي انتبه إلى الجدل داخل الأدبيات الماركسية حول الليبرالية وموقفها من التغير الاجتماعي، ودلالته هو بالنسبة إلى الوضع العربي. كان يقال في تلك الأدبيات بأنه حتى يتحقق تحول المجتمع من الإقطاعية إلى الاشتراكية لابد من المرور بمرحلة الرأسمالية، وبالتالي الليبرالية وإلا سيكون التحول مبسترا، وغير طبيعي، ولن يؤدي إلى النتيجة المطلوبة».
هذه الفكرة استعارها خالد من العروي دون أن يشير إلى صاحبها ومصدرها، وسحبها – باعتساف – إلى سياق هو غير سياقها الفلسفي والأيديولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي.
استعار خالد الفكرة التي قال بها في العبارة الأولى، وهي أن المرور بالمرحلة الإسلامية أمر ضروري تاريخيا، من السؤال الذي طرحه العروي في دراسته (منطق الأيديولوجية العربية المعاصرة)، وهو: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (ومن دون أن يعيش مرحلة ليبرالية)؟ واستوحى معلوماته الواردة في العبارة الثانية والتي حذفتها منها للاختصار، مما قاله العروي بعد صياغته لهذا السؤال.
الدقة في العبارة الثانية، هي أن عبدالله العروي قطعا – وليس ربما – هو أول ماركسي عربي ومناضل سياسي حزبي يدعو رفاقه الماركسيين إلى الانطلاق والتأسيس في ماركسيتهم على ليبرالية القرن الثامن عشر (عصر التنوير)، وذلك في دراسته التي أشرنا إليها آنفا والتي ضمت إلى دراسات أخرى، وترجمت هذه الدراسة والدراسات الأخرى من الفرنسية إلى العربية تحت عنوان (العرب والفكر التاريخي) في دار الحقيقة ببيروت سنة 1973.
جاءت دعوة العروي في سنوات انكسار حلم الدولة القومية التقدمية الاشتراكية مع هزيمة 1967، وتراجع حركة التحرر الوطني بشقيها الناصري والبعثي وتقدم الدولة العربية اليمينية المحافظة في أول السبعينات الميلادية.
وكان العروي في هذه الدعوة يخاطب - بالدرجة الأولى - الأحزاب الشيوعية والمثقفين الشيوعيين واليساريين في العالم العربي، ويخاطب – بالدرجة الثانية – الأحزاب القومية الاشتراكية والمثقفين القوميين المرتبطين بالنظرية الماركسية، ولا يخاطب تيارات أخرى، هي خارج إطار هذا الجدل الداخلي الخاص والتي لا تعنيها هذه الدعوة بشيء، بما فيها التيار الليبرالي.
في رأي العروي أن النقد الماركسي لليبرالية يفيد التقليديين، ويعزز من مكانة أيديولوجيتهم ويزيد من انتشارها. أي أن الماركسيين بعملهم هذا، يقعون بالمطب نفسه الذي وقعت فيه التجربتان الناصرية والبعثية، ألا وهو أنهم من حيث لايريدون، يخدمون التيار التقليدي والقوى المحافظة، أعداء التقدم وأعداء التحديث.
الحل لهذه المعضلة كما يرى، هو الجمع بين الليبرالية في نسختها الأصلية الأولى، ليبرالية القرن الثامن عشر وبين الماركسية اللينينية.
ماهي ليبرالية القرن الثامن عشر؟ ولماذا يطالب العروي الماركسيين العرب باستئنافها أو البدء منها في ماركسيتهم؟
ليبرالية القرن الثامن عشر هي الحركة الفلسفية والفكرية التي ظهرت في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وكانت تحمل اسما مختلفا في كل بلد من هذه البلدان الثلاثة، يشير إلى معنى واحد هو مرحلة التنوير أو عصر التنوير.
هذه المرحلة أو هذا العصر تحقق مفهوم الثورة الثقافية فيه. وذلك بتطبيق الثقافة العلمانية في كل ميدان من ميادين الحياة. والعلمانية بلورت نفسها في هذه المرحلة أو هذا العصر في صيغة ثورة نقدية على الدين. الدين ليس في شكله السلطوي وفي شكله الاجتماعي والمؤسسي وفي فترة تاريخية معينة وحسب، بل الدين في أي شكل وصورة كان، وفي أي زمان كان. فالدين عند مناضلي عصر التنوير الذين قادوا حربا جدالية في سبيل القضاء على الدين المسيحي وإنهاء العصر الديني من تاريخ الحياة الإنسانية، هو إشارة لكل ماهو غير عقلي ورجعي وهمجي.
هذه المهمة في هذه المرحلة أو هذا العصر، أسفرت عن علمنة وعقلنة في التفكير في شتى الميادين، أنجزتها الطبقة البرجوازية والفكر المنسوب إليها وهو الفكر البرجوازي.
العجيب أن العروي وهو يطالب المثقف الماركسي بممارسة الدور التي قامت به الطبقة البرجوازية في القرن الثامن عشر، يلجأ إلى اللف والمداورة ويجبن أن يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية.
فالفكر السلفي الذي يطالب المثقف الماركسي باجتثاثه ليس هو السلفية حتى بمعناها العام، وإنما هو الفكر الديني في أي مستوى من مستوياته حتى لو كان استخدامه تقدميا ومستنيرا وعلمانيا، وحتى لو كان استعماله في التفكير والتحليل والتنظير استعمالا بسيطا ومحدودا وثانويا.
ويستخدم العروي تعبير الفكر التقليدي بمعنى عام وفضفاض، يستخدمه حينا بمعنى (السنية). فالسنة والسنية والتسنين تعني عنده التقليدية والاتباعية والاتجاه إلى الماضي أو الماضاوية.
ومما له دلالة في استخدامه هذا أنه بدأ الكتابة تحت اسم مستعار، هو عبدالله الرافضي. أي أنه رافض للفكر السني، والذي يأتي عنده بمعنى الفكر التقليدي، القديم، العتيق، الأثري، الحرفي المتشدد.
ورغم أني أوضحت مايعنيه العروي بالفكر السلفي والفكر التقليدي والسنة، فإن هذا لا يعني أني أقول إنه يستخدم كل اصطلاح من هذه الاصطلاحات بمعنى متمايز عن الآخر. ففي استخدامه لها قدر كبير من التخليط والتشويش والتداخل. فهي تعني تارة الدين أو الفكر الديني، وقد تعني تارة الفكر الديني التقليدي والفكر الديني العصري معا.
والمثقف العلماني – ومن ضمنه المثقف الماركسي – المدان عنده هو صنفان: إما مثقف سلفي وإما مثقف انتقائي.
هذه لمحة عن أطروحة العروي التي أشار خالد إليها على نحو خاطئ، وقدمها بصورة هي غير التي هي عليها، وأراد أن يطبقها بطريقة مضادة للهدف الذي طرحه من أجلها العروي.
وكتابه (العرب والفكر التاريخي) الذي اتكأ خالد عليه في مقاله، ينتمي إلى جدل ماركسي عربي مشرقي، وبخاصة في لبنان وسورية، رغم أن مؤلفه مغربي، وهذا الجدل كانت بدايته في أول الستينات واستمر إلى سقوط الاتحاد السوفييتي. وفي الوقت الذي نشرت فيه كتب العروي، - كتب المرحلة الأولى -، باللغة العربية وقرأت عند نخبة من المثقفين الماركسيين واليساريين، كانت الأحزاب الشيوعية العربية وغالبية المثقفين الماركسيين واليساريين ملتزمين بالخط الشيوعي البلشفي الرسمي والذي كان من بين إيماناته، عنف الأقلية الثوري للاستيلاء على السلطة وسرقتها من البرجوازية، كما نظر لذلك لينين وفعل. وأولية العداء كانت للإمبريالية والرأسمالية والاستعمار والفكر البرجوازي بليبراليته المحدثه وليبرالية الأساس أو الأصلية. وقد انحصر النقاش حول دعوة العروي تلك وحول أطروحته عموما في دائرة ضيقة من دوائر المثقفين الماركسيين ابتداء من سنة 1974. فمنهم من رفضها كمحمد عابد الجابري، رفيقه الحزبي، ومحمود أمين العالم، ومنهم من تبناها وتأثر به، كياسين الحافظ وجورج طرابيشي، ومنهم من اتفق معها، كعزيز العظمة الذي استخدم وقتها اسما مستعارا هو قيس الشامي. وكان من المسهمين في الجدل حولها الأسماء التي ذكرتها وآخرون، كناجي علوش، وبسام طيبي، ووضاح شرارة، وصادق جلال العظم، وأنور عبدالملك، وسمير أمين، وإلياس مرقص.
وللفائدة أذكر أن أعمال جورج طرابيشي وأعمال عزيز العظمة التي عالجت قضايا التراث والإسلام والحداثة والعلمانية هي تطبيق نظري للفكرة الثاوية في كتاب العروي (العرب والفكر التاريخي)، وأعمالهما هي أكثر اتساقا ووضوحا وأغنى مما طرحه العروي في هذا الكتاب وفي كتابيه الآخرين: (الأيديولوجية العربية المعاصرة) و(أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم سلفية).
وهذه الكتب الثلاثة ومعها كتاب (ثقافتنا في ضوء التاريخ) هي حزمة تنظيرية واحدة. يتسم النص فيها أنه غامض ومبهم ومتفلت ومتقطع ومبتور وقطعي ومتناقض وتعميمي ومتطرف وشاطح.
إن من عيوب خطاب العروي - عروي الستينيات والسبعينيات - أنه يقيم قضايا على مقدمات يعتبرها مسلمات ثم يبني استنتاجات عليها يعتبرها نهائية. ومقدماته بعضها غير صحيح، إما لأنها قائمة على قراءة ناقصة للواقعة، وإما لأنها غرضية.
مر بنا أن خالدا يتكئ على العروي. والعروي في واقع الأمر يستند إلى كارل ماركس. وخالد - في رفعه المرور بمرحلة إسلامية إلى مرتبة الضرورة التاريخية - استند إلى كارل ماركس.
بدءا من هذه المسلمة، لنسأل: هل في الخماسية الماركسية (المشاعية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية، الشيوعية)، أو هل في حديث كارل ماركس عن نمط الإنتاج الآسيوي شيء اسمه المرحلة الإسلامية؟
الجواب: قطعا لا.
لنذهب للإسلاميين، لكي نعرف منهم ماهي المرحلة الإسلامية.
المرحلة الإسلامية عند المودوديين القطبيين هي نقيض الجاهلية. والجاهلية عندهم ليست فترة تاريخية محددة التي هي عصر ما قبل الإسلام عند العرب، وإنما هي عصر ممتد، يوجد – كما قال سيد قطب – بالأمس ويوجد باليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. ضمن هذه الأطروحة لا يقبل الزمن والتاريخ إلا قسمة ثنائية، هي إما إسلام وإما جاهلية. وهذه القسمة تفتح باب التكفير على مصراعيه.
ومن زاوية ثانية وعلى وجه الإجمال، يقول الإسلاميون إن المرحلة الإسلامية تلت المرحلة العلمانية في العالم العربي. أما في التفصيل فإن هذه المرحلة عندهم، تلت مرحلة من الليبرالية، وتلت مرحلة تساندت القومية العربية مع الشيوعية ضد الإسلام وضد الإسلاميين.
يتفق الإسلاميون والعلمانيون أن عصر الصحوة الذي ما زلنا نعيشه إلى الآن، ابتدأ بالصعود منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. وبما أن الأمر على هذا النحو، فما الجديد الذي حملته ثورات الربيع العربي في مرحلتها الانتقالية بما يخص المرحلة الإسلامية التي هي المهيمنة في العالم العربي منذ ما يجاوز الثلاثة عقود؟! وماذا نقول عن بلد كالسعودية الذي لم يعرف سوى المرحلة الإسلامية بدون الإخوان المسلمين ومع الإخوان المسلمين؟! وهل هذا يعني أن مصر - بحسب مفهوم الإسلاميين لمعنى المرحلة الإسلامية - قبل ثورة 25 يناير كانت علمانية ومع المرحلة الانتقالية شهدت دخولها إلى المرحلة الإسلامية؟ إذا كان الأمر كذلك عند خالد، لماذا هو منهمك في إقناع الإسلاميين بقبول العلمانية؟ وهل من شروط المرحلة الإسلامية أن يكون الرئيس المنتخب من الاخوان المسلمين؟.
في ظني أنه هل لو اعتمدت حجته في تصويغه المرور بمرحلة إسلامية على كتب القرضاوي التي صدرت ضمن سلسلة حتمية الحل الإسلامي، لكن أوفق له، فتلك الكتب – على الأقل – إن توكأ عليها، ربما ستساعده قليلا في المضي في تنظيره المتعثر.
المدهش أن خالدا مع استغراقه وذوبانه في أطروحة العروي إلا أنه لم يستوعبها كما هي، ولدي شواهد غير الشاهد الذي أومأت إليه هنا. ولأنه أطل على الماركسية من خلال العروي، فمعرفته فيها هي معرفة غير دقيقة، ويتكشف هذا الأمر من خلال مقال كتبه كامل الخطي، عنوانه (الليبرالية طريقا إلى التحول الثوري) المنشور في جريدة الأخبار اللبنانية والذي ناقش فيه من زاوية مختلفة مقال خالد الذي تعرضت إليه في هذه السطور.
المفارقة أن خالد الدخيل، مرجع جمال خاشقجي، الذي هو في تكوينه السياسي والفكري بعيد عن أقاويل الإسلاميين، صار يقول بحتمية المرحلة الإسلامية، وخاشقجي الذي كان مبغضا ومعاديا للشيوعية ولحتمياتها يتحدث الآن عن ثورات الربيع العربي بوصفها حتمية تاريخية. وبما أنه بدأ يعتقد بالحتمية التاريخية ولا يقول بقدرية إسلامية، أذكره، إن كان على اطلاع على هذه الحقيقة، هو أن نظرية لينين في الثورة الاشتراكية قامت على الأخذ بتفسير إرادي للماركسية. والتفسير الإرادي هو مضاد للتفسير الحتمي للثورة ولحركة التاريخ عند ماركس. لينين قلل من التعويل على الانفجار التلقائي للصراع الاقتصادي الذي كان يقول به ماركس، وعول كثيرا على الفعل السياسي. وبرر ذلك بأن الحتمية تنحني أمام الإرادوية، فالمرء يعد لها كما يعد لحرب.
* كاتب وباحث سعودي