لصالح مَن تنام المحلات منذ التاسعة؟

نجيب عصام يماني

حتى لا يكون مجلس الشورى منفصلا عن واقع مجتمعه، لا بد أن يعي أن من يهدر الأموال ويسلب الأرواح ويستنزف الطاقة ويربك الشوارع ويضغط على خطوط الخدمة ويحول شوارعنا إلى ميادين للكر والفر مخلفا الكثير من الضحايا، هو الدوام الصباحي الذي يبدأ مع النداء الأول فيهب الجميع ينسلون من مرقدهم سراعا. فيبلغ كل شيء أقصى مداه إضافة إلى ساعتين تضيع في المكاتب مع الفطور وقراءة الصحف وصحة هدف ميسي وافتراء الحكم وضياع الهدف، دوام لم يتغير منذ القرن الماضي فرضه علينا الزمن وغياب التكنولوجيا فكان لزاما الهروب من حر الشمس ولهيبها إلى طراوة الصبح ونسيمه، حتى إذا أصبح ظل كل شيء مثله احتمى كل بظل بيته القريب والبعيد لا يبدأ قبل التاسعة ونحن الوحيدون في العالم نبدأ في السابعة دوامنا بكل أطيافه. هذا هو الهدر الحقيقي وليس الهدر فيما تتناقله وسائل الإعلام أن هناك توصية لمجلس الشورى بإغلاق المحلات عند الساعة التاسعة مساء خلال 2016م.
دارت في خاطري جملة من الاستفسارات خاصة أنّ النقاط الإيجابية المستند عليها في التوصيات تشير إلى إمكانية أن يعيد القرار ترتيب حياتنا الاجتماعية والثقافية، ويسمح بلم شمل الأسرة، فضلا عن إيجابياته الاقتصادية - مثل توفير الطاقة الكهربائية، والبترول والتخفيف من زحام السيارات بما يساعد في تسهيل حركة المرور وانسيابها بيسر وسلاسة.
فلو قبلنا بهذا القرار على اعتبار أنه يتسق، مع التوجه نحو تقليل ساعات العمل لدى القطاع الخاص، بما يوفر ساعات إضافية لمنسوبيه، يمكّنهم من التسوق، والتزوّد باحتياجاتهم التموينية، لكنه في المقابل يتصادم مع حقائق على أرض الواقع، فالسقف فالزمن المقترح لتوقف المحلات عند التاسعة مساء، يمثل للأغلبية الوقت الأمثل لبداية الحياة وخروج الأسر للأسواق والمحال التجارية، وهو خروج يمثل عنصرين مهمين؛ أحدهما تجاري، والآخر ترفيهي، وهذا من «عجيب خصوصياتنا»، فليس لدينا من مثابات الترفيه، ومظان اللهو البريء ملتجأ تتكئ عليه الأسرة حين تقرر الخروج خارج منازلها، فلا مسارح متاحة، ولا دور للسينما، وليس ثمة مكان تقصده للمتعة والترويح غير محروس بالنوايا المتوجسة، والآراء السلبية المسبقة، ولهذا تبقى هذه الأسواق مسرحنا المعتاد، وسينمانا الأثيرة.
والجانب الآخر، أن هذه المحلات «المجبرة» على إغلاق أبوابها عند التاسعة، هي المحلات المبثوثة في شوارع وأزقة الأحياء السكنية، والتي تقدم الخدمات الضرورية لسكانها، ما سيكون عسيرا عليهم الحصول عليها حال تنفيذ القرار فأغلب القطاعات تصرف موظفيها عند الثامنة مساء أو التاسعة، بما يعني أن الحياة قد انطفأت في المحال المحيطة بهم، وما عليهم إن أرادوا توفير احتياجاتهم إلا أن يقصدوا «المستثنيات» من المحال، وهنا تأتي المعضلة الكبرى، فالراجح والمتوقع أن يكون الاستثناء للقلة، وإلا لما كان استثناء، وعند ذلك سيكون على هذه القلة من المحال المستثناة أن تواجه تكدسا بشكل غير منظور، بما يقود إلى زحام كبير، يظن أصحاب هذا المقترح عكسه تماما في مرصد الإيجابيات، وما دروا أنهم هيئوا الفرصة المناسبة لتشكيل بؤر من الازدحام في مواقع بعينها، وهذا بدوره يقود إلى تعطيل حركة المرور، واستهلاك المواد البترولية وازدحام الشوارع.
أما القول بأن القرار سيتيح الفرصة لإعادة ترتيب الأسرة، وتمكين أفرادها من الاجتماع، ولمّ الشمل، فتلك غاية من المؤسف أن نعوّل على تحقيقها بإغلاق المحال التجارية، فلو تم إغلاق الأسواق طوال اليوم، فلن يكون ذلك سببا مقنعا لمعالجة هذا الخلل الاجتماعي في حياتنا، فدالة الزمن ليست هي العنصر الأول والأهم في هذه الإشكالية، ويعلم ذلك علماء الاجتماع العارفون بأطوار مجتمعنا، والمدركون لمواطن الخلل فيه وسبب مشاكله، ولن يكون من بينها التسوق أو ارتياد المحلات التجارية؛ بل على العكس، فكثير من هذه الأسر في شتاتها الاجتماعي الماثل اليوم، لا يجتمع لها شمل، أو تلتئم لها الحياة الطبيعة إلا في ساعات التسوق والخروج الجماعي إلى المحلات التجارية، متى ما سنحت لهم الفرصة، وهذا من أخص خصوصياتنا.
أن الإشارة إلى هذه النقطة تحديدا تشير كما لو أن البيوت تفرغ من الناس كل يوم وتدفع بهم إلى السوق، وهو أمر غير واقع على الإطلاق، فليحسن أصحاب القرار تحديد الإيجابيات، للنظر في معقوليتها، فلو كان المبتغي بالفعل ترتيب حياتنا الاجتماعية؛ فليس هذا بالطريق الذي يرتبها، بل المزيد من التشظي والانفلات، ففي ظل غياب مثابات الترفيه، مع إغلاق الأسواق، فستتفتق أذهان الجرأة عن مسارات أخرى لتقضي أوقاتها في رحابها، وتفتح لنفسها مجالا للتنفيس بعيدا عن أسوار البيت وخروجا عن قبضة الحياة الروتينية في أغلب الدول بما فيها أوروبا أصبحت الأسواق تعمل حتى بعد منتصف الليل ولعل أسواق بريطانيا أكبر دليل على صدق قولي، فلصالح من تنام الأسواق الساعة التاسعة؟!!.