«ناظر» عرّاب «الخطط الخمسية».. ضحيّة الـ30 ثانية

تركي الدخيل يوثق سيرة الوزير والسفير:

«ناظر» عرّاب «الخطط الخمسية».. ضحيّة الـ30 ثانية

قراءة: سعد الخشرمي (جدة)

وثق الكاتب السعودي تركي الدخيل مسيرة الوزير والسفير هشام ناظر ذلك الرجل الذي لم يتوان في خدمة وطنه في كتاب أصدره بعنوان «هشام ناظر – سيرة لم تروَ» فيما يقارب الـ500 صفحة عن دار مدارك، وسيحضر الكتاب في معرض الرياض الدولي للكتاب.
لم يحالف الحظ مؤلف الكتاب أن يعرضه على ناظر، إذ إن الأخير وافته المنية في الـ14 نوفمبر 2015 في ذات المدينة التي شهدت ولادته ووفاته، فقرر أن يوقع الكتاب في احتفالية بمدينة جدة حيث يرقد جثمان الراحل، وتوجد عائلته.
جاء الكتاب في عشرة فصول، تنطلق من طفولة ناظر من حيث النشأة والأحلام والطموحات إلى بدايات عمله والكفاح من أجل وطنه، مرورا بوظائفه المتعددة، وشخصيته الثقافية المثيرة، واستقرارا بين سطور محبيه التي تجسدت في قصائد ومقالات رثائية.
واتخذ الدخيل إستراتيجية التوثيق بالصور والخطابات الرسمية عند تأليف هذا الكتاب، فقد أشار في مقدمة الكتاب إلى أنه حرص على التوثيق لما تأخذ من شخصية المؤلف الكثير كونه أحد أهم الإعلاميين السعوديين، وقد برز الدخيل منافحا عن مسيرة ناظر ليوثق هذه الشخصية المهمة، والتي اختزلت في مقطع فيديو مجتزأ لا يتجاوز الـ30 ثانية في إثبات أن البعض لا يعرفه.
كشف الكتاب عن علاقة مميزة بين الأب والابن حيث إن الراحل محيي الدين ناظر زرع في ابنه بذور العلم والأخلاق والأدب، وكيف بذكائه رفد الابن (هشام) بخصال ومهارات مبكرة في زمن لا يهتم كثيرا بتعليم اللغات، والدفع بالأبناء إلى حب التعلم، والكفاح، وتحقيق الأهداف.
لم يفتأ المؤلف أن يسلط الضوء على نشأة ناظر، وكيف باتت تقود رؤيته إلى أن يضحي كثيرا؛ ليذهب مجازفا إلى كلية «فكتوريا» بمصر، وإلى الولايات المتحدة؛ ليحصد الماجستير في العلوم السياسية.
والثقافة احتلت جانبا من شخصية ناظر، وعادت عليه بالنفع ربح عاما دراسيا من الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز كمكافأة لقصيدة ألقاها بين يديه، وبعثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تركه أبوه يقابل الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز ليمنحه الفرصة ليكمل تعليمه بما يخدم وطنه.
وحين عودته إلى المملكة، لم يكن ناظر يعرف أن الزمن يخبئ أقدارا لا يعرفها، وتدس الرزق في تفاصيل مهملة لم ينتبه إليها أحد، فقد كانت تهنئة في الصحافة لشاب متعلم آنذاك، محط اهتمام الشيخ عبدالله الطريقي المدير العام لشؤون الزيت والمعادن آنذاك، لتفتح الطريق العملي أمام عينه؛ لينطلق في مديرية المعادن موظفا انتصر على باب وزارة الخارجية الموصد عندما زار وكيلها محمد محتسب.
حضر ناظر الوفد المرافق للشيخ الطريقي المؤتمر العربي الأول في مصر في العام 1959، ليشغله سؤال عن فنزويلا وأسباب حضورها؟، وهذا ما جعل الفضول لديه أن يسأل رئيس الوفد السعودي (الطريقي) عن ذلك، فأجابه الأخير «لتعطي مصداقية لعملنا ومؤتمرنا»، وانتهى المؤتمر بعد اجتماع بين الشيخ الطريقي ووزير البترول الفنزولي آنذاك بيريز ألفونزو أدى إلى قرار غير رسمي بإنشاء منظمة «أوبك».
انتدب ناظر إلى فنزويلا في العام 1960 لدراسة وتحليل بعض العلوم في مجال البترول، وأيضا للتصدي لهبوط الأسعار وتلاعب الشركات بها، مما سرع عملية التعاون بين الدول المنتجة لهذا التلاعب.
وكان ناظر أحد هؤلاء المتصدين، وقد انضم إلى الفريق المكلف بصياغة النظام العام للمنظمة؛ ليكون شاهدا على نشوء هذه المنظمة في العام 1960 لتنعكس على وطنه، فقد ضحى كثيرا في ذلك مما جعله يسعى لأن يمكث في فنزويلا مدة عام برفقة عائلته، وفي بلد لا يتحدث الإنجليزية، بل الإسبانية.
ونظرا لجهوده في صياغة النظام لـ «أوبك»، أصدر مجلس الوزراء السعودي قرارا بتعيين ناظر محافظا للمملكة العربية السعودية في منظمة «أوبك»، وممثلا للسعودية في العام 1961.

«الموقف الرجولي».. وصحافة مأجورة


رشح وزير البترول والثروة المعدنية أحمد زكي يماني هشام ناظر وكيلا للوزارة في عهد الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز آل سعود. فتصدر ناظر لتحضير دقيق لملفات التفاوض مع الشركات الكبرى، وأيضا للتجاوزات الإيرانية في الكشف والحفر في مناطق جغرافية تابعة للسعودية.
لم يكن العام 1967 بالجميل للأمتين العربية والإسلامية، حيث احتلت الضفة الغربية وسيناء والجولان مما انعكس على الوجدان العربي حينئذ، فكان ناظر متألما لما يحدث؛ ولكنه في المقابل حاز على فرصة أن يحضر مؤتمر بغداد وسلام البترول في العراق، ويرتطم بالقلاقل التي مرت بها المنطقة سياسيا واقتصاديا، وهذا ما رشحه لتوكل إليه مهمة وضع دراسة للرؤية السعودية، وقد أوضح ناظر في دراسته أنه مع الميل إلى عدم قطع البترول لأن ضرره أكثر من نفعه، ولما لها من تداعيات على اقتصاد المملكة، ومسؤولياتها تجاه أمتها الإسلامية، وقد رأى بأنه القطع هو قرار سياسي محض لا علاقة له بالرؤى الاقتصادية.
ويذكر في الكتاب أن هذه الدراسة العلمية والفنية هي الدراسة الوحيدة التي قدمت إلى اللجنة، وهذا ما أثار حفيظة ممثل الجزائر لمهاجمة المملكة، وقام ناظر من منطلقاته الوطنية بالتصدي لهذا الهجوم، ولكن تكالبت عليه الصحافة المأجورة والموهومة بالثورة آنذاك إلى تحريف واجتزاء رده على الجزائر في المؤتمر.
ووصف الأمير الراحل سلطان بن عبدالعزيز هذا التصدي بـ «الموقف الرجولي»، فعلى إثر ذلك طُلب من ناظر أن يرافق وكيل وزارة الخارجية السيد عمر السقاف على الخرطوم لحضور اجتماع وزراء الخارجية العرب في تمهيد لاجتماع القمة العربية في العام 1967.
وأورد الكتاب قصة الرؤية السياسية للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز آل سعود ودور هشام ناظر الفاعل في هذه الرؤية. عندما حضر الملك على رأس الوفد، كان يجتمع بالوفد التحضيري لمعرفة المحضر الأولي، فكان ناظر رجلا يرفض الانتهازية ليقدم ورقة ورؤى دونها إلى الملك مباشرة دون التراتبية الوظيفية. فقام بكل أدب ليعرضها على الأمير الراحل سلطان، والذي بدوره رفعها للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز ووجه برفع التوصيات في المساعدات إلى 55 مليون جنيه إسترليني، وقال لهشام ناظر «عليكم أن تدبروا المبلغ».
ولطالما كان ناظر يجتهد لخدمة دينه ومليكه، جاء تعيينه بأمر ملكي من الملك فيصل بن عبدالعزيز رئيسا للهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير، وهو في طريقه من بيروت إلى طوكيو بطريقة طريفة حيث قام صديقه علي شبكشي بإبلاغ الخطوط الأمريكية التي كان ناظر على متنها، بأنها تحمل خبر تعيينه بمرتبة وزير.
قرر هشام ناظر أن يضع خطة شاملة تتناغم مع رؤية الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز آنذاك، وبدأ بإرسال عدد من المبتعثين إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، وسافر حينها إلى «أمريكا» للالتقاء بعباقرة التخطيط في الجامعات الأمريكية والمعاهد الإدارية لضمان جودة الدراسة، ورصانة التعليم الذي سيثمر في وطنه.
بذرة الخطط الخمسية.. وحصاد العقول
وفي العام 1970 كانت الثمرة الأولى بتقديم خطة تمتد إلى 18 عاما تجسدت في خطط خمسية كانت بمثابة القفزة التنموية الأولى في السعودية، وذلك حينما واجه ناظر عقبة تحويل الهيئة المركزية للتخطيط إلى وزارة متكاملة أمسى ناظر وزيرا لها في العام 1975.
لم يتكلس هشام ناظر أمام هذه التحديات الجديدة، ولكنه قرر أن يفتح الباب على مصراعيه بدعوة المجتمع والاجتماع بهم على مأدبة عشاء، ليستمع إلى العقول المستنيرة والمتنوعة، ويخرج بتصور يربط التنمية الداخلية للمملكة بالتنمية الخارجية لها، إضافة إلى أن سعى إلى مناقشة أفكاره مع أهل الخبرة من الداخل السعودي.
دشن ناظر الخطة الأولى في ظروف ليست بالعادية، بل كانت تُعنى بالبنية التحتية للبلاد، ومرحلة التأسيس كانت مرحلةً صعبة في ظل أن الميزانية لم تكن بالكبيرة في ذلك الوقت، وفي الجهة المقابلة لم يتراخ هشام ناظر أمام كل هذه التحديات حيث اعتمد منهجا تخطيطيا شاملا، ترتكز على المبادئ والقيم الإسلامية، وحرية الاقتصاد؛ لتصبح المملكة من دولة نامية إلى مصاف الدول المتقدمة.
وفي العام 1975 قررت المملكة أن تنشئ هيئتين ملكيتين لمدينتي الجبيل وينبع، فبادر هشام ناظر إلى وضع خطط إستراتيجية لتطوير العمل بهما، لتدشين المرحلة التنموية في الممكلة لتكونا مسترخيتين على ساحلي المملكة، مع مدينة رأس الخير لتكون تعدينية، ليشغل ناظر منصب نائب رئيس الهيئة الملكية العليا لهاتين المدينتين.

انتصار يلوّح.. ودبلوماسية متأنقة
وعاد ناظر إلى وزارة البترول في العام 1986 بالنيابة مع بقائه وزيرا للتخطيط في ظروف وصفها ناظر بالعصيبة، إذ إن دول أعضاء منظمة «أوبك» تواجه الهبوط الدراماتيكي لأسعار النفط، فقرر أن يخوض المعترك بأن يتصدى للضغط الليبي في مؤتمر أبو ظبي من ذات العام، وما جاء بعدها في اجتماع الأكوادور في أواخر الستينيات من القرن الماضي.
ويسرد المؤلف قصة حول انتصار ناظر لأسعار النفط في اجتماع عقده في جنيف مع نظيره الإيراني. ففي نهاية المؤتمر رافق ناظر الوزير الإيراني إلى مقر إقامته، وأقنعه باستحالة أن تصل الأسعار إلى الـ18 دولارا أمريكيا، إلا باشتراطات في تهيئة الظروف المصاحبة، والحد من غش دول الخليج الأخرى.
وفي اليوم التالي اتفق المؤتمرون على خفض الإنتاج إلى 10%، بعد أن اتفق ناظر مع الملك فهد بإبلاغ المعارضين على أن ذلك سيعود بالنفع على توسعة الحرمين الشريفين وما لها من انعكاسات ممتازة في الوجدان الإسلامي ولأن المملكة تسعى جاهدة لخدمة كل المسلمين.
ولكن الوزير الإيراني لم يكف من غزل محاولاته باستخدام ورقة ليبيا للضغط، فاتفقا الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز وناظر أن يتحدثا إلى ليبيا وسحب اقتراحها، مما جعل الوزير الإيراني يوقع الاتفاقية.
وبعد هذا النجاح الباهر قرر الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز بتعيين هشام ناظر وزيرا للبترول والثروة المعدنية، وتكون وزارة التخطيط بالإنابة. وكانت من إنجازاته أن تصبح شركة أرامكو شركة سعودية قانونيا وإداريا.

سفيراً في مصر.. وقصة «فيديو الإجلاء»


مضت ثلاثة عقود من إنجازات هشام ناظر، رأت المملكة أن توكل إليه مهمة السفارة السعودية في مصر في العام 2005 ليعود إليها بعد أن كانت في بداياته بلد الدراسة والحلم. وهذه الأخيرة أعطته القدرة على فهم الشارع المصري، والتحركات السياسية بها، والمنعطفات المهمة ذات الطابع المضطرب.
وفي الـ25 يناير في العام 2011، مرت مصر بثورة قادت إلى إزاحة حكومة الرئيس السابق حسني مبارك من السلطة، وفي وقت متزامن كان هشام ناظر يمر بوعكة صحية، ولكنه آثر أن يخرج للعمل لمتابعة الأحداث المتصاعدة والحالة المتوترة في الدولة المصرية. ولكن المرض كان أقوى فأعاده مرغما إلى المستشفى.
أصدر ناظر أمرا بأن تستأجر السفارة فندقا فخما ليسكنه المواطنون السعوديون مجانا، وتقوم السفارة بكامل طاقمها بتسهيل إجراءات المغادرة لهم، ولم يهدأ ناظر إلى أن قام بالإعلان في كل وسائل الإعلام المرئي والمقروء بضرورة توجه السعوديين إلى الفندق المحدد، ويذكر أن ناظر وعد الفندق بتسديد الفندق من جيبه الخاص لأن المصاريف أكثر من الأموال في خزينة السفارة.
وأوضح الكتاب أن إجراءات السفر في مطار القاهرة تعاني من غياب عدد كبير من الموظفين مما أحدث ارتباكا في عملية إجلاء المواطنين السعوديين، مع أن بعض السعوديين أحضروا زوجاتهم غير المعترف بهم من قبل أنظمة الدولة كـ «الزواج العرفي» إلا أن ناظر جازف في إخراج تأشيرات مؤقتة تسمح لهم بالدخول إلى السعودية.
وكشف الكتاب ملابسات ما حدث من انتشار مقاطع فيديو عبر شبكات التواصل الاجتماعي دون التثبت ما إذا كانت الحادثة تسير بالطريقة التي انتهجها الكتاب بمهاجمة ناظر، فقد التقى ناظر بعدد من المواطنين في المطار؛ ليشرف على الإجراءات اللازمة لسلامة السعوديين وسط الانفلات الأمني الذي تعانيه مصر في تلك اللحظة الراهنة.
بينما كان ناظر يرد على أسئلة المواطنين من حوله، كانت سيدة تقف بمقربة منه، فأجابها بروية في بادئ الأمر ثم عاد ليرد على أسئلة أخرى لمواطنين يحيطون به، ولكن السيدة عادت مرة أخرى لتستفزه ومن ثم تصوير ما حدث، وهذا ما قاد الشارع السعودي إلى مهاجمته، واستدعت الحادثة تدخل حكومة المملكة لحل هذه الهجمة.
واختتم الكتاب بفصلين يحكيان علاقته بالملوك الخمسة أثناء عمله، كما أورد الكتاب العديد من الصور لخطابات ومكاتبات توثيقية لسيرة الوزير والسفير السعودي الراحل هشام ناظر الذي قام مشكورا الكاتب السعودي تركي الدخيل بتسليط الضوء على جوانب مهمة في شخصية الراحل قد لا يعرفها كثير من السعوديين، وخاصة بعد أن تم اختزال جميع إنجازاته في مقطع فيديو لم يتجاوز 30 ثانية.