متنّك

طارق على فدعق

من الصفات الجميلة جدا في لغتنا العامية هي صفة «المتنك» بكسر الميم وشد النون... والمقصود هو الشخص الذي ينهار فكريا لدرجة أنه يتخصص وربما حتى يستمتع بصد الأفكار مهما كانت وجاهتها وأهميتها... ويختلف عن «المفوّل» أي الذي يصل إلى درجة التشبع بوجبة الفول لأنه في حالة «لطشة» مؤقتة تعيق التركيز والأعمال العقلانية الصعبة، وهي مرحلة تزول بمرور الزمن. وأما «المتنك» فيعاني من الانحباس الفكري طويل الأمد بداخل ما يشبه الوعاء المعدني الشهير باسم «التنكة». وكان هناك تفسير آخر وهو أن الدماغ فاضي تماما. وكان اسم هذا الوعاء مشتقا من كونه مصنوعا من معدن القصدير الشهير بالتنك، وربما كان ذلك مشتقا من الاسم اللاتيني Tank بمعنى الوعاء، وذلك لأنه دخل إلى حياتنا اليومية بقوة بسبب فوائده المتعددة وخصوصا فيما يتعلق بنظافته وقوته وسهولة قياسه... كانت التنكة تساوي عشرين ليترا وأصبح هذا مقياسا ثابتا. وقد ساهم مساهمة جبارة في تحول ثقافة القياس، والتخزين، والنقل الآمن، وبالذات فيما يتعلق بنقل المياه في مدننا التاريخية. ويتمتع معدن القصدير بخصائص رائعة: سطع نجمه تاريخيا بسبب وفرته وسهولة استخراجه. وكانت له شعبية منذ القدم بسبب سهولة تصنيعه وتشكيله، فدرجة حرارة انصهاره المنخفضة نسبيا تبلغ حوالى 220 درجة مئوية فقط. وللعلم فتسمح هذه الميزة بسهولة دمجه مع المعادن الأخرى واستعماله في العديد من الاستخدامات المختلفة، ولذا فكان من المكونات الأساسية للبرونز وهو عبارة عن المزيج الجميل من النحاس والقصدير. وفي الواقع فقد عاشت البشرية بأكملها في حقبة «العصر البرونزي» لفترة طويلة دامت حوالى ألفين وخمسمائة سنة. وتم إطلاق هذا الاسم عليها بسبب نهوض الصناعات المعدنية وانتشار تقنيات الصناعات التي كانت تعتمد على صناعة البرونز. وقد جاءت ما بين العصر الحجري والعصر الحديدي. ومن عجائب هذا المعدن أنه «يئن» عند كسر أسياخ القصدير النقية، والمقصود هنا أنه يصدر ما يشبه الصراخ عند كسره. ومن عجائبه أيضا أنه يتحول تحولات عجيبة عندما تنخفض حرارته. ويعاني هذا المعدن من ظاهرة تسمى «برص القصدير» وهي تحول المعدن بإرادة الله إلى بودرة هشة لا تمت للمعدن بأي صلة عندما تنخفض الحرارة انخفاضا كبيرا. ويقال إن القائد الفرنسي الشهير «نابليون بونابارت» عانى معاناة شديدة عندما حاول غزو روسيا في حملة 1812 الخاسرة. فكان جنوده يتفاخرون بأزيائهم العسكرية الأنيقة الزاهية الألوان ذات الأزارير المعدنية ذهبية اللون المصنوعة من معدن القصدير. تبلورت المشكلة عندما انهارت الأزارير بسبب انخفاض درجة الحرارة... تخيل المنظر على الأراضي الروسية في خضم المعركة... قيادات الجيش الفرنسي تخوض المعارك المميتة في الجو البارد بلباس عسكري يسقط من على أجساد الضباط... تخيلوا المنظر... «إلى الأمام أيها الجنود الشجعان، قبل أن يطيح البنطلون»... وهناك المزيد... فقد استخدم القصدير كلحام في تعليب الأغذية لفترة طويلة وخصوصا بعدما ابتعد العالم عن استخدام معدن الرصاص في اللحام في صناعات التعليب الغذائية. وكانت المشكلة هي تحول المعدن إلى البودرة عند التعرض إلى البرودة الشديدة مما يفقد العلب تماسكها. وقد أدى ذلك إلى العديد من الحوادث المميتة لبعض المستكشفين في القطبين الشمالي والجنوبي في الأجواء شديدة البرودة.
أمنيــــــة
سبحان الله إن عالم القصدير مليء بالمتناقضات فمن جانب فتح باب استخدام المعادن في السلم والحرب من خلال العصر البرونزي في تاريخ العالم، ومن جانب آخر نجد العقول المتنكة التي تصد الفكر مهما كانت مقاصده سليمة ونتائجه مفيدة. أتمنى أن يقينا الله شرور تلك العقول
وهو من وراء القصد.