تلّيك

طارق على فدعق

تصميمه مميز فهو السهل الممتنع الذي قاوم تغيرات الزمن... يتميز بقوة التحمّل... وبفوائده الكثيرة... وسعره الزهيد... وألوانه الزاهية الفرحة... وبالرغم من ذلك فهو يمثل الانحطاط أيضا... وبالذات في الصراعات البشرية، وأغربها هي صراعات العلماء لأننا لا نتوقع أن تصل خلافاتهم إلى مستوى «التلاليك» أعزكم الله... وهناك العديد من الأمثلة الغريبة على الخلافات التي تصاعدت فهوت مستوياتها إلى مراتب مخجلة... إليكم بعض الأمثلة التاريخية: سنة 1666 كانت إحدى أغرب سنوات الاكتشافات العلمية في التاريخ لدرجة أنها تشتهر في تاريخ العلوم باسم سنة المعجزات Annis Mirabilis حيث تحققت مجموعة من الاكتشافات المتميزة جدا دفعة واحدة وعلى يد رجل واحد... كان إسحق نيوتن أحد أعظم علماًاء الطبيعة في تاريخ البشرية... ومكانته بين العلماء كانت عظيمة لدرجة أنها تفوق مكانة الفنان محمد عبده بالنسبة إلى الفن السعودي... وبالإضافة إلى اكتشافاته في مجال البصريات وقوانين الحركة الشهيرة، تبحر في مجال الرياضيات ليخترع أسس إحدى أقوى وأجمل النظريات في الرياضيات... والواقع أنه اخترع علم بأكمله وهو التفاضل والتكامل... كل هذا في عام واحد... ولكن على مسافة أقل من عدد الكيلومترات بين جدة والدمام تقريبا... وتحديدا بين نوتينجهام بإنجلترا وليبزيج بالمانيا كان المدعو «وليام ليبنيتز» هو الآخر مشغولا باختراع التفاضل والتكامل في الرياضيات... أغرب من الخيال أن يصادف اختراع هذا المجال المهم في الرياضيات في وقت واحد من شخصين مختلفين تماما... وطبعا عندما تم الإعلان عن هذا الإنجاز الرائع في إنجلترا من قبل نيوتن... قامت الدنيا في ألمانيا... وعندما أعلن العالم الألماني عن اختراعه... انقلبت الدنيا في الوسط العلمي في إنجلترا وبدأت الاتهامات بالغش والسرقة، بل وأكثر من ذلك بين العالمين المحترمين... وصلت إلى مستوى «التّليك» بين مجموعات من العلماء الإنجليز من جانب والألمان من جانب آخر... واستمر الوضع لفترة لا بأس بها... أكثر من مائة وخمسين سنة، ووقائع «التلّيك» الثانية بدأت في سويسرا في نفس الحقبة الزمنية المذكورة أعلاه بين أعضاء إحدى أرقى العائلات العلمية في تاريخ العلوم والرياضيات... سلْ أياً من علماء الرياضيات أو الفيزياء أو هندسة الطيران عن اسم «برنولي» وستجد ما لا يقل عن ستة قوانين أو معادلات أساسية تستخدم كقواعد علمية ذكية جدا... بعضها في حركة الهواء عبر الأجنحة، والبعض الآخر في حركة المياه في البزبوز وهكذا... الشاهد أن نجوم العائلة المتألقين كانوا «يعقوب» من جانب، وشقيقه «يوهان» وابناه «دانيال» و«نيقولا» من جانب آخر... اكتشافاتهم ومعادلاتهم كانت تهز عالم العلوم والرياضيات... ولكن للأسف فقد صاحب كل منها صراعات واتهامات عنيفة بالغش والسرقة بين هذه العائلة المحترمة... الإثباتات فين... طيب المعادلات فين... طيب بابا فين! وقصتنا الثالثة بدأت في القرن الثامن عشر في مصر باكتشاف حجر رشيد من قبل قوات الاحتلال الفرنسية بقيادة نابليون... وكان هذا اللوح... يعنى الحجر ولا مؤاخذة... يحتوى على مجموعة جمل مكتوبة بلغتين وهي الهيلوغريفية والإغريقية بثلاثة خطوط مختلفة... وربط الرموز في الحجر ببعضها البعض كان مفتاح طلاسم الحضارة الفرعونية التي كانت محيرة العالم والعلماء لأكثر من ألف وأربعمائة سنة... أراد نابليون أخذ الحجر معه إلى فرنسا ولكن الإنجليز هزموه في مصر وأخذوا الحجر معهم إلى لندن... وكأنه ملك لهم... وكأن مصر لا تملك الحجر الذي يُمثل جزءاً من تراثها الفرعوني المهم... حاول الإنجليز فك الطلاسم من جانب... فيما كان شامبليون الفرنسي يحاول جاهدا أن يفك شيفرة العلاقة المكتوبة على الحجر ونجح أخيرا في مهمته... ولكن خلال ذلك المشوار طارت اتهامات متعلقة «بهمجية» الإنجليز وكيف أنهم سرقوا حجر رشيد من الفرنسيين ووصل الموضوع إلى مستوى انحطاط غير معقول... مستوى التلّيك أعزكم الله... الطريف في الموضوع طبعا أن حجر رشيد لا يملكه الإنجليز ولا الفرنسيون فمكانه الصحيح هو في بلده مصر.
* أمنيــــة :
هذا المقال عن الانحطاط ولن تجد مستويات تصفه أكثر من معاملة القدس اليوم، والمحير فيها هي لغة الخطاب التي تتصف بالأدب الزائد فكأن العرب والمسلمين يقولون لإسرائيل «لو سمحتم ردوا القدس»... «ترى بعدين نزعل»... «هيا بلا غلاسة ردوا القدس»... أتمنى أن تستخدم لغة أقوى من هذه على الأقل على الصعيد الدبلوماسي لأن القدس تستحق أن نطالب بها بلغة أقوى... وأخيرا أود أن أوضح بأنني لست من المتخصصين في الرياضيات بالرغم من استخدامي للأمثلة المذكورة أعلاه... ولست من المتخصصين في التلاليك أيضاً.. والله من وراء القصد.