لا مستقبل للإسلام الحركي في الرياض..! (3)
الجمعة / 23 / جمادى الآخرة / 1437 هـ الجمعة 01 أبريل 2016 21:25
علي العميم
ذهب مسعود الندوي ومحمد عاصم الحداد في مساء اليوم الثاني من وصولهما إلى الرياض إلى مكتبة حسن الشنقيطي -وكان قد تعرَّف إلى مكتبته وإلى شخصه في اليوم الأول من وصولهما إلى هذه المدينة- ليضعا فيها المجلات والمطبوعات الإسلامية الحركية التي حملها من باكستان.
هذه المكتبة قبل أن يراها مسعود كان قد سمع عنها في بغداد من محمد الخطيب. وهي -كما روينا عنه في الحلقة الأولى- مكتبة لبيع الكتب والمجلات ودار للمطالعة. وكانت -كما اطلعنا- تصلها الصحف اليومية من مصر بالطائرة، وفي المساء يفد عليها جمهور الشباب.
علما من صاحب المكتبة حسن الشنقيطي، أن ولي العهد سعود بن عبدالعزيز كان قد عرض مجلات مثل مجلاتهما على بعض العلماء، فامتدحوا ما تنشره من أدب وفكر... وقبل أن يعلمهما بذلك أو بعده رأى مسعود ما نغص عليه مساءه. لندعه يروي ما حصل:
«هناك التقينا بشابين وجدناهما في منتهى البساطة، ولاحظنا أن المجلات الأدبية الخفيفة التي تصدر من مصر، تنتشر كثيراً بين الشباب هنا، كان أحد الشابين ينتمي إلى أسرة آل الشيخ يشتري واحدة من تلك المجلات التي تصدر في القاهرة وعنوانها (الدنيا الجديدة)، وكان على صفحة الغلاف صورة لامرأة سافرة، لم أستطع السكوت عن ذلك، فقلت: هل تصل مثل هذه المجلات الخليعة إلى نجد أيضاً، ظننت أن نجد في أمان من مثل هذا النوع من المجلات، فقال الذي ينتمي إلى أسرة آل الشيخ: نحن نمزق مثل هذه الصور. لكن على ما أظن يقرأ هذا الأدب الفاسد... يا لها من مسخرة!!».
ما كدر خاطر مسعود هو أنه لاحظ أن مجلات أدبية خفيفة، تصدر في مصر كـ(الدنيا الجديدة) و(الهلال)، وما شاكلهما، تنتشر بين كثير من الشباب في الرياض، وما جعله لايكتم غيضه، ويجهر باستنكاره، أنه رأى رأي العين شاباً يشتري المجلة الأولى وكان على غلافها صورة لامرأة (سافرة)، وهو الذي يحرّم رسم الرجال وتصويرهم.
ظنّ الشاب الذي ينتمي إلى أسرة آل الشيخ أن ما آثار حنق الشاب الهندي عليه وعلى صاحبه، هو شراؤه مجلة على غلافها صورة فتاة، بدليل وصفه لها ولسواها من المجلات التي تنشر صوراً لنساء، بالمجلات الخليعة، فأراد أن يطمئنه ويهدئ من غضبه، ويخفف عتبه عليه وعلى صاحبه وعلى منطقتهما نجد، فذكر له أنه وصاحبه يمزقان صور النساء السافرات.
ولم يعلم أن حنق الشيخ واستنكاره لا ينحصر في مسألة صور النساء السافرات، بل يشمل مضمون تلك المجلات الذي هو مضمون عصري، والذي لا يريد الشيخ له ولا لغيره أن يقرأه، لأنه من وجهة نظره، مضمون فاسد.
من ظاهر قول مسعود أنه صدّق الشاب في إخباره عن نفسه وعن صاحبه، بأنهما يقومان بتمزيق صور النساء، لكنه شك أن القراءة في المجلات الأدبية الخفيفة تستهويه. وقد أدان هذا الاتجاه في القراءة، حين قال عنه إنه أدب فاسد!
إن حنق مسعود الندوي عليهما دفعه إلى أن يعلن رأيه في أنه يعارض وصول أي مؤثر عصري وحديث إلى نجد. فهو يريد لها أن تكون بمأمن عن العصر الحديث وعن رؤاه الجديدة. وأن تكون رافضة له.
رأيه هذا يقودنا إلى التعرض إلى وجهة نظر الإسلام الأصولي الهندي إزاء السعودية، بما يتعلق بمظهر من التحديث الذي أصابته أو الذي أصابها. وسأسلسلها حسب تعاقبها الزمني.
ربما كان رأي مسعود الندوي الذي مرّ بنا، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر عام 1949 هو أقدم رأي معلن. ويجب ألا نقصر سياسة منع المؤثر العصري التي يرغبها على نجد وحدها، بل نمدها إلى ما يسمونه بجزيرة العرب، ويعنون به السعودية. فالنص على نجد هنا كان لخصوص المناسبة.
في زيارة أبي الحسن الندوي الثانية للحجاز عام 1950 -زيارته الأولى كانت للحج عام 1947- ألقى سلسلة من الأحاديث في الإذاعة السعودية، كان من ضمنها حديث متخيل أجراه على لسان العالم وعلى لسان جزيرة العرب، وكان عنوانه (من العالم إلى جزيرة العرب). والعالم هنا هو العالم الغربي المتقدم، وجزيرة العرب هي السعودية. في كلمته التي خاطب بها العالم (أو الحضارة الغربية) جزيرة العرب (أو السعودية) عاتبها على تخليها عن قيادة العالم، وأخذ عليها إعجابها به، وزهّدها في كل ما يحويه من تطور وتقدم في كل المجالات ومن مذاهب ونظم وقيم. وكاشفها بأمراضه التي خالطت كل عضو فيه. وعرض عليها مقايضة هي أن تأخذ ما تشاء من سيارات وقطارات وطائرات وماكنات وآلات وزخارف وأدوات، مقابل تصدقها عليه بإيمان لا يجده في أسواقه ولا في مصانعه ولا في مكتباته الواسعة، ولا عند فلاسفته ومفكريه وكتابه وزعمائه.
وقد جثا العالم على ركبتيه أمامها وناشدها قائلا: «إليك أيتها الجزيرة العربية بما معي من أدواء وأوجاع فهل تغيثينني وتسعدينني كما أغثتني بالأمس وأنقذتني من الموت الأحمر، فلست اليوم بأقل حاجة إلى إسعافك وإنجادك من يوم بعث رسولك وأشرق علي نورك!!».
وفي خاتمة كلمته ثمن لها ما تجود به عليه من مقدار عظيم من البترول، ويدير به ماكناته ويسير به عجلاته، لكنه كان ينتظر منها شيئاً أعز وأثمن من الذهب الأسود، «كنت أنتظر منك أن تخرجي لي عجلة الحياة التي غاصت في الوحل، وأن توجهيها التوجيه الصحيح وان تخلِّصي ركابها من هذا المأزق، فقد عجزت حكمة الحكماء وصناعة الصناع عن إخراجها، فأخرجيها بما معك من حكمة النبوة وبقية قوة الشريعة الإلهية والهداية الإسلامية».
في كلمة جزيرة العرب إليه، تعتذر عن قبول المقايضة التي عرضها عليها، لأنها أخذت منها الكفاية وفوق الكفاية. وشكت إليه أن سيارته قطعت خيلها العتاق.. وأن زخارفه ومصنوعاته أغرقتها بالبذخ والتبذير والراحة والكسل والاتكال على الآلات. وطالبته أن يسترد منها فضول مدنيته.
وفي خاتمة كلمتها استجابت لاستغاثته قائلة: «لقد جئتني اليوم تسأل أعز ما عندي وأنفع للإنسانية، تسألني الإرشاد والتوجيه، فأهلا بك وسهلا أيها الزائر الكريم ودونك المنهل العذب الصافي من الدين السماوي ومن الوحي المحمدي الذي احتفظت به طوال هذه المدة فارتو منه ما شئت...».
في نهاية رحلته إلى العالم العربي التي بدأها بزيارة الحجاز ثم زيارة مصر، ثم زيارة السودان ثم زيارة سورية، فالأردن ففلسطين، وجه كلمة لجزيرة العرب وهو يغادر جدة عائداً إلى بلاده الهند، قال فيها: «لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة -يقصد سورية- على هذا الحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل ولكنها قالت: لأن الجزيرة العربية هي المسؤولة عن هذا التحول فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي، فضلا عن العالم العربي، وعروقه فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستيراد البضائع الأجنبية عن تصدير بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم، وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً، ولقد أوتيت جدلاً، ولكنها أفحمتني بالدلائل... والوقائع!»
يأتي بعد رأي أبي الحسن الندوي رأي محمد أسد -الذي أصنفه في مرحلته الفكرية الأولى ضمن الإسلام الهندي الأصولي- وقد أبداه في خاتمة مقدمة كتابه (الطريق إلى مكة)، الصادر سنة 1954. ففي خاتمة مقدمة كتابه هذا يرثي الجزيرة العربية ويرثي إنسانها الأول، كما عرفهما في صورتهما الأولى، قائلا: «إن الجزيرة العربية التي سأرسم صورتها في الصفحات التالية قد زالت من عالم الوجود. لقد تحطمت عزلتها ووحدتها تحت نهر قوي من النفط والذهب الذي جلبه النفط. لقد تلاشت بساطتها العظيمة، كما تلاشى معها الكثير مما كان نسيج وحده في عالم الإنسان».
يستعيد أبو الحسن الندوي في المنتصف الأول من الستينات الميلادية في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية) رأياً لمحمد أسد، كان قد قاله في كتابه (الطريق إلى مكة)، ممهداً له بهذه الفاتحة:
«زار الأستاذ محمد أسد -الذي عاش في أوروبا وتجول في العالم الإسلامي- الجزيرة العربية الوادعة الهادئة في سنة 1932 وهي لا تزال متمسكة بتقاليدها العربية الإسلامية أشبه بالماضي منها بالحاضر، لم تجس خلالها الحضارة الغربية، ولم تقتحم سورها الرملي الأساليب الغربية والمصنوعات الحديثة، فشك في طول حياة هذه العزلة، والبعد عن تأثير الحضارة الغربية التي طوقت الجزيرة...».
وبعد أن يورد أبو الحسن الندوي رأي محمد أسد، يعلق عليه بالقول: «نعم لم تطل هذه الفترة فلم تلبث هذه البلاد المقدسة أن غزتها الحضارة الغربية وتدفق فيها سيل المصنوعات الحديثة، والمستوردات الغربية، وأُكثر من أسباب الترف ومن الكماليات، فشحنت الأسواق وملأت البيوت، وقضت على التقشف في الحياة وصفات الفتوة والفروسية التي عرف بها العرب من قديم الزمان، وكانت من أسباب قوتهم وانتصارهم، وظهر اتصال الجزيرة بالغرب عن طريق الحضارة الثقافية والسياسية وعن طريق البترول، وكان هذا الاتصال وهذا الاقتباس من الغرب في الحضارة والتجارة والثقافة، عن ارتجال وتهور ومن غير تفكير هادئ وتصميم سابق، فأصبح هذا الاستسلام، الذي تخوف منه الأستاذ محمد أسد أمراً واقعاً، وأصبحت الجذور الروحية -فضلا عن الأشكال والأنظمة التقليدية- مهددة».
* كاتب وباحث سعودي
هذه المكتبة قبل أن يراها مسعود كان قد سمع عنها في بغداد من محمد الخطيب. وهي -كما روينا عنه في الحلقة الأولى- مكتبة لبيع الكتب والمجلات ودار للمطالعة. وكانت -كما اطلعنا- تصلها الصحف اليومية من مصر بالطائرة، وفي المساء يفد عليها جمهور الشباب.
علما من صاحب المكتبة حسن الشنقيطي، أن ولي العهد سعود بن عبدالعزيز كان قد عرض مجلات مثل مجلاتهما على بعض العلماء، فامتدحوا ما تنشره من أدب وفكر... وقبل أن يعلمهما بذلك أو بعده رأى مسعود ما نغص عليه مساءه. لندعه يروي ما حصل:
«هناك التقينا بشابين وجدناهما في منتهى البساطة، ولاحظنا أن المجلات الأدبية الخفيفة التي تصدر من مصر، تنتشر كثيراً بين الشباب هنا، كان أحد الشابين ينتمي إلى أسرة آل الشيخ يشتري واحدة من تلك المجلات التي تصدر في القاهرة وعنوانها (الدنيا الجديدة)، وكان على صفحة الغلاف صورة لامرأة سافرة، لم أستطع السكوت عن ذلك، فقلت: هل تصل مثل هذه المجلات الخليعة إلى نجد أيضاً، ظننت أن نجد في أمان من مثل هذا النوع من المجلات، فقال الذي ينتمي إلى أسرة آل الشيخ: نحن نمزق مثل هذه الصور. لكن على ما أظن يقرأ هذا الأدب الفاسد... يا لها من مسخرة!!».
ما كدر خاطر مسعود هو أنه لاحظ أن مجلات أدبية خفيفة، تصدر في مصر كـ(الدنيا الجديدة) و(الهلال)، وما شاكلهما، تنتشر بين كثير من الشباب في الرياض، وما جعله لايكتم غيضه، ويجهر باستنكاره، أنه رأى رأي العين شاباً يشتري المجلة الأولى وكان على غلافها صورة لامرأة (سافرة)، وهو الذي يحرّم رسم الرجال وتصويرهم.
ظنّ الشاب الذي ينتمي إلى أسرة آل الشيخ أن ما آثار حنق الشاب الهندي عليه وعلى صاحبه، هو شراؤه مجلة على غلافها صورة فتاة، بدليل وصفه لها ولسواها من المجلات التي تنشر صوراً لنساء، بالمجلات الخليعة، فأراد أن يطمئنه ويهدئ من غضبه، ويخفف عتبه عليه وعلى صاحبه وعلى منطقتهما نجد، فذكر له أنه وصاحبه يمزقان صور النساء السافرات.
ولم يعلم أن حنق الشيخ واستنكاره لا ينحصر في مسألة صور النساء السافرات، بل يشمل مضمون تلك المجلات الذي هو مضمون عصري، والذي لا يريد الشيخ له ولا لغيره أن يقرأه، لأنه من وجهة نظره، مضمون فاسد.
من ظاهر قول مسعود أنه صدّق الشاب في إخباره عن نفسه وعن صاحبه، بأنهما يقومان بتمزيق صور النساء، لكنه شك أن القراءة في المجلات الأدبية الخفيفة تستهويه. وقد أدان هذا الاتجاه في القراءة، حين قال عنه إنه أدب فاسد!
إن حنق مسعود الندوي عليهما دفعه إلى أن يعلن رأيه في أنه يعارض وصول أي مؤثر عصري وحديث إلى نجد. فهو يريد لها أن تكون بمأمن عن العصر الحديث وعن رؤاه الجديدة. وأن تكون رافضة له.
رأيه هذا يقودنا إلى التعرض إلى وجهة نظر الإسلام الأصولي الهندي إزاء السعودية، بما يتعلق بمظهر من التحديث الذي أصابته أو الذي أصابها. وسأسلسلها حسب تعاقبها الزمني.
ربما كان رأي مسعود الندوي الذي مرّ بنا، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر عام 1949 هو أقدم رأي معلن. ويجب ألا نقصر سياسة منع المؤثر العصري التي يرغبها على نجد وحدها، بل نمدها إلى ما يسمونه بجزيرة العرب، ويعنون به السعودية. فالنص على نجد هنا كان لخصوص المناسبة.
في زيارة أبي الحسن الندوي الثانية للحجاز عام 1950 -زيارته الأولى كانت للحج عام 1947- ألقى سلسلة من الأحاديث في الإذاعة السعودية، كان من ضمنها حديث متخيل أجراه على لسان العالم وعلى لسان جزيرة العرب، وكان عنوانه (من العالم إلى جزيرة العرب). والعالم هنا هو العالم الغربي المتقدم، وجزيرة العرب هي السعودية. في كلمته التي خاطب بها العالم (أو الحضارة الغربية) جزيرة العرب (أو السعودية) عاتبها على تخليها عن قيادة العالم، وأخذ عليها إعجابها به، وزهّدها في كل ما يحويه من تطور وتقدم في كل المجالات ومن مذاهب ونظم وقيم. وكاشفها بأمراضه التي خالطت كل عضو فيه. وعرض عليها مقايضة هي أن تأخذ ما تشاء من سيارات وقطارات وطائرات وماكنات وآلات وزخارف وأدوات، مقابل تصدقها عليه بإيمان لا يجده في أسواقه ولا في مصانعه ولا في مكتباته الواسعة، ولا عند فلاسفته ومفكريه وكتابه وزعمائه.
وقد جثا العالم على ركبتيه أمامها وناشدها قائلا: «إليك أيتها الجزيرة العربية بما معي من أدواء وأوجاع فهل تغيثينني وتسعدينني كما أغثتني بالأمس وأنقذتني من الموت الأحمر، فلست اليوم بأقل حاجة إلى إسعافك وإنجادك من يوم بعث رسولك وأشرق علي نورك!!».
وفي خاتمة كلمته ثمن لها ما تجود به عليه من مقدار عظيم من البترول، ويدير به ماكناته ويسير به عجلاته، لكنه كان ينتظر منها شيئاً أعز وأثمن من الذهب الأسود، «كنت أنتظر منك أن تخرجي لي عجلة الحياة التي غاصت في الوحل، وأن توجهيها التوجيه الصحيح وان تخلِّصي ركابها من هذا المأزق، فقد عجزت حكمة الحكماء وصناعة الصناع عن إخراجها، فأخرجيها بما معك من حكمة النبوة وبقية قوة الشريعة الإلهية والهداية الإسلامية».
في كلمة جزيرة العرب إليه، تعتذر عن قبول المقايضة التي عرضها عليها، لأنها أخذت منها الكفاية وفوق الكفاية. وشكت إليه أن سيارته قطعت خيلها العتاق.. وأن زخارفه ومصنوعاته أغرقتها بالبذخ والتبذير والراحة والكسل والاتكال على الآلات. وطالبته أن يسترد منها فضول مدنيته.
وفي خاتمة كلمتها استجابت لاستغاثته قائلة: «لقد جئتني اليوم تسأل أعز ما عندي وأنفع للإنسانية، تسألني الإرشاد والتوجيه، فأهلا بك وسهلا أيها الزائر الكريم ودونك المنهل العذب الصافي من الدين السماوي ومن الوحي المحمدي الذي احتفظت به طوال هذه المدة فارتو منه ما شئت...».
في نهاية رحلته إلى العالم العربي التي بدأها بزيارة الحجاز ثم زيارة مصر، ثم زيارة السودان ثم زيارة سورية، فالأردن ففلسطين، وجه كلمة لجزيرة العرب وهو يغادر جدة عائداً إلى بلاده الهند، قال فيها: «لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة -يقصد سورية- على هذا الحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل ولكنها قالت: لأن الجزيرة العربية هي المسؤولة عن هذا التحول فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي، فضلا عن العالم العربي، وعروقه فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستيراد البضائع الأجنبية عن تصدير بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم، وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً، ولقد أوتيت جدلاً، ولكنها أفحمتني بالدلائل... والوقائع!»
يأتي بعد رأي أبي الحسن الندوي رأي محمد أسد -الذي أصنفه في مرحلته الفكرية الأولى ضمن الإسلام الهندي الأصولي- وقد أبداه في خاتمة مقدمة كتابه (الطريق إلى مكة)، الصادر سنة 1954. ففي خاتمة مقدمة كتابه هذا يرثي الجزيرة العربية ويرثي إنسانها الأول، كما عرفهما في صورتهما الأولى، قائلا: «إن الجزيرة العربية التي سأرسم صورتها في الصفحات التالية قد زالت من عالم الوجود. لقد تحطمت عزلتها ووحدتها تحت نهر قوي من النفط والذهب الذي جلبه النفط. لقد تلاشت بساطتها العظيمة، كما تلاشى معها الكثير مما كان نسيج وحده في عالم الإنسان».
يستعيد أبو الحسن الندوي في المنتصف الأول من الستينات الميلادية في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية) رأياً لمحمد أسد، كان قد قاله في كتابه (الطريق إلى مكة)، ممهداً له بهذه الفاتحة:
«زار الأستاذ محمد أسد -الذي عاش في أوروبا وتجول في العالم الإسلامي- الجزيرة العربية الوادعة الهادئة في سنة 1932 وهي لا تزال متمسكة بتقاليدها العربية الإسلامية أشبه بالماضي منها بالحاضر، لم تجس خلالها الحضارة الغربية، ولم تقتحم سورها الرملي الأساليب الغربية والمصنوعات الحديثة، فشك في طول حياة هذه العزلة، والبعد عن تأثير الحضارة الغربية التي طوقت الجزيرة...».
وبعد أن يورد أبو الحسن الندوي رأي محمد أسد، يعلق عليه بالقول: «نعم لم تطل هذه الفترة فلم تلبث هذه البلاد المقدسة أن غزتها الحضارة الغربية وتدفق فيها سيل المصنوعات الحديثة، والمستوردات الغربية، وأُكثر من أسباب الترف ومن الكماليات، فشحنت الأسواق وملأت البيوت، وقضت على التقشف في الحياة وصفات الفتوة والفروسية التي عرف بها العرب من قديم الزمان، وكانت من أسباب قوتهم وانتصارهم، وظهر اتصال الجزيرة بالغرب عن طريق الحضارة الثقافية والسياسية وعن طريق البترول، وكان هذا الاتصال وهذا الاقتباس من الغرب في الحضارة والتجارة والثقافة، عن ارتجال وتهور ومن غير تفكير هادئ وتصميم سابق، فأصبح هذا الاستسلام، الذي تخوف منه الأستاذ محمد أسد أمراً واقعاً، وأصبحت الجذور الروحية -فضلا عن الأشكال والأنظمة التقليدية- مهددة».
* كاتب وباحث سعودي