داعش ليست فقط إرهاباً.. إنها أيضاً إدارة متطرفة للمجتمع

عبدالسلام الوايل

تتعرض المملكة، كما هو معروف، لهجمات إعلامية وفكرية وسياسية خطيرة بسبب الربط بين تعاليم الشيخ محمد بن عبدالوهاب وخطه العقدي وبين ظاهرة الإرهاب. وبعكس ما يحب أن يذهب إليه كثيرون بتقديم عرائض دحض لهذا الربط، فإني أرى أن أفضل خدمة تقدم للوطن هو تقديم فهم لهذه الدعاوى، على ماذا ترتكز وما شواهدها، من أجل تصحيح مزدوج، قسم منه يذهب لتوعية الخارج وقسم منه ينتبه لما يتوجب علينا عمله لقطع أي صلة، غير مباشرة طبعا، بين كياننا الوطني وبين الظاهرة الإرهابية التي تتهدد العالم وتثير فيه أشرس الردود وأشدها حنقا. ومن أجل تقديم مزيد من الفهم لماهية هذا الربط ومقوماته، سأركز في هذه المقالة لا على العلاقة بين نصوص لهذا الخط العقدي أو ذاك وبين الظاهرة الإرهابية بل على التشابه بين تنظير الخطاب السلفي بعمومه لما يجب أن يكون عليه تنظيم المجتمع وبين ما أحدثته كل من «القاعدة» و«داعش» من تغييرات في النظم الاجتماعية للمجتمعات التي حكمتها. ولا يغيب عن بالنا أن الغرب لا يفقه كثيرا في دقائق التعاليم الفقهية والعقدية ولا يأبه للسياق الذي قال فيه ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبدالوهاب هذا النص أو ذاك والحالات التي يمكن أن تستعمل فيها هذه النصوص. كل ما يقوى الغرب على إدراكه هو عقل المتشابهات، كما يراها متحققة في المعاش اليومي وربطها بخلفياتها العقائدية والفقهية.

ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتمثل بأن الربط بين المملكة والظاهرة الإرهابية لا يقوم، في جانبه الأكثر تأثيرا، على الادعاءات الجوفاء بوجود علاقة بين حكومة المملكة والظاهرة الإرهابية. بل إن هذا النوع من الربط هو الأقل تأثيرا وضررا على المملكة، لوضوح تهافته وبالتالي لعدم رواجه بين كل من الدوائر البحثية الرصينة وصناع السياسة. فالمملكة، خصوصا على المستويين السياسي والأمني، من أكثر اللاعبين الدوليين مشاركة في مكافحة الظاهرة الإرهابية، كما هو معروف. إنما يقوم، أي الربط الأكثر تأثيرا وانتشارا هذه الأيام، على رصد المشتركات والمتشابهات في ما أسميه «رؤية العالم» بين كل من أسلوب حياة المجتمع السعودي وتعاليمه الدينية من ناحية وبين أسلوب الحياة المشتهى والمؤمل للجماعات الإرهابية من ناحية أخرى، كما تبدى في طريقة إدارة المجتمع من قبل هذه الجماعات، مثلما هو الحال في المجتمعات التي سيطر عليها تنظيما «داعش» و«القاعدة».

النظرة التي تربط الوهابية بالإرهاب لا تحصر العلاقة بين الإرهاب والأيديولوجيا بتعليمات نصوصية مباشرة. بل تنبني على أساس أن رؤية ما للعالم، كما يتضح في تدبير الشأن اليومي، تفضي في النهاية إلى إيجاد أرضية للعنف حيال المختلف والمغاير. تتبدى هذا الرؤية في مواقف عقدية وفقهية بعيدة كل البعد عن الإرهاب، كالموقف من أصحاب الديانات الأخرى، من ممارستهم لشعائرهم وطقوسهم، أو من المخالف داخل دائرة الدين بنبذه وتكفيره وإخراجه من الملة، أو كالموقف حيال ماهية التعليم ومكانة المرأة في المجتمع وبعض الظواهر السلوكية في المجتمع مثلما تتبدى في الإرهاب سواء بسواء. قبل أن أسرد شواهد على هذا الربط، لنلاحظ، ومن أجل التأطير النظري، أن هذا الربط يجد مصاديقه في ملاحظة تلازم تغير خطاب جهادي إرهابي حيال كل من العنف والقضايا أعلاه سواء بسواء. إذ يلاحظ ماهر فرغلي، وهو الجهادي السابق التابع لتنظيم الجماعة الإسلامية المصري والذي قضى في سجون مبارك 13 عاما وشهد مرحلة تغير خطاب شيوخ الجماعة نحو العنف والإرهاب وتراجعهم عنه، يلاحظ أن تراجع شيوخ الجماعة عن العنف كان مقترنا بتغيرات في خطابهم بقضايا ليست ذات مساس بالعنف. التراجع هناك لم يبدأ بالعنف. بل بدأ بمسألة عقائدية لا علاقة مباشرة لها بالعنف. يقول فرغلي إن التحريم أسقط بداية عن المشي في جنازة المسيحي وعيادته في مرضه. ثم أسقط التحريم عن تهنئة المسيحيين بأعيادهم. لاحقا، تراجع شيوخ الجماعة عن العنف والإرهاب. وعندما تراجعوا، أباحوا الموسيقى، يقول فرغلي. حالة شيوخ الجماعة الإسلامية وتراجعاتها توضح أن الخطاب العقدي/الفقهي المتشدد، الذي يحرم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم كما يحرم الموسيقى والغناء، مؤهل لأن ينتج ذهنيات تتشدد تجاه المخالف لدرجة تصل إلى تشريع العنف ضده. في المقابل، حين يبدأ هذا الخطاب بالتراجع عن استسهال التكفير وتشريع العنف فإن تسامحه يطال قضايا لا علاقة لها مباشرة بظاهرة العنف. التشدد، وكذا التسامح، يطال الهامشي مثلما يطال الجوهري. نقل الموسيقى من خانة الحرام إلى خانة الحلال يتجاور مع نقل التواصل الودي مع المسيحي من خانة الحرام إلى خانة الحلال وكل ذلك يتجاور مع نبذ العنف.

يبدو أن إعلام الغرب وسياسييه ومثقفيه ينطلقون من إدراك شبيه بما لاحظه فرغلي. أي من رؤيتهم لتلازم ما بين الرؤية السلفية للعالم، للطريقة التي يجب أن يدار المجتمع في شؤونه اليومية وفقها، وانتشار القابليات لتبني خطابات العنف والإرهاب. وحين يفعل الغربيون ذلك ليس لأن لهم الإدراك بالمقولات العقائدية والفقهية. إنما يفعلونه بناء على ما يلاحظونه من تلازم بين انتشار أسلوب حياة قائم على المنظور السلفي وبين الظاهرة الإرهابية. سأسرد ملامح من ما يلاحظه هؤلاء الغربيون وعلى أساسه تبنوا مقولة الربط هذه بين الوهابية والإرهاب. وسأحصر الملاحظات في ثلاثة مجالات ليست عنفية، هي: 1- التعليم، 2- ما يجب أن يكون عليه حضور المرأة في المجال العام، 3- بعض المظاهر السلوكية العامة.

ففي التعليم، قام «داعش» بتغييرات في النظام التعليمي في المناطق التي يسيطر عليها تمثلت في إلغاء مواد الفلسفة والموسيقى، وتغييرات كبيرة في مواد العلوم الاجتماعية وإدخال مواد الفقه والتوحيد. كما تضمنت أيضا إلغاء الاختلاط في العملية التعليمية بكل أنواعه، مستثنية تعليم النساء للأولاد في السنوات الثلاث الأولى. بل وشددت على هذه النقطة تحديدا لحد الرفض لتعليم أساتذة ذكور لطالبات إناث في بعض القرى التي لا تتوافر فيها مدرسات في مواد علمية معنية حتى مع التعهد بأن تكون الطالبات منقبات بشكل كامل. إن إلغاء مواد الفلسفة والموسيقى وإبدال مواد معرفية مما أنتجه أعلام السلفية بها وكذلك حظر الاختلاط بكل أنواعه يوجد حالة من الربط التلقائي بين واقعنا التعليمي وبين نظام «داعش» التعليمي.

أما فيما يخص المرأة في عالم «داعش»، فقد تراجع حيز المرأة وحضورها في المجال العام بشكل كبير في الموصل والرقة وسرت وغيرها من مناطق «داعش». وفرض الحجاب الشرعي وأوكل للشرطة مراقبة التزام النساء والأسر بالتنظيمات الجديدة. بل، وكما تبين شهادات الصحفي الجهادي حسين المعاضيدي عن تنظيم «داعش» لهذا الأمر (والواقعة في نحو 300 صفحة) إضافة للصور والمقاطع المسربة، يصر بعض أفراد شرطة «داعش» على فرض النقاب على النساء مهددين من يخالف ذلك بأشد العقوبات. ويمكن أن تتبنى إحدى الدوريات الداعشية هذا الأمر وتفرضه على ركاب سيارة ما، كما في شهادة المعاضيدي، أو على سكان قرية ما، كما في مقطع مسرب من إحدى القرى السورية. الذهن البشري يربط بين المتشابهات من أجل تسهيل تنميطها. وتشابه تنظيم الشأن الاجتماعي يسهل الربط التلقائي في الذهن الغربي بين العوالم التي تلزم النساء بقوة القانون بوضع النقاب بوصفها عوالم مترابطة برابط أيديولوجي واحد ينتج واقعا اجتماعيا متشابها. وتظهر البوسترات التي وضعها «داعش» في شوارع المدن والقرى التي استولت عليها في العراق وسورية وليبيا تشابها عجيبا بين تصورات تنظيم «داعش» لما يجب أن يكون عليه لبس المرأة في الفضاء العام (من تغطية كامل البدن، بما فيه لبس القفازات والجرابات) وبين التصورات التي تبنتها الكتيبات التي كانت توزع لدينا بكثرة قبل عقدين تقريبا. من الأمثلة على هذا الربط ما نقله الصحفي غولدبيرغ من حديث للرئيس الأمريكي أوباما مع رئيس الوزراء الأسترالي، والذي يتحسر فيه على جنوح «الإسلام الإندونيسي» نحو «التعصب والانغلاق» بسبب «مشايخ السلفية ومعلميها وأموالها». أوباما، مثله مثل مئات المقالات والتعليقات الغربية، يشيد دائرة تبدأ ببطون الكتب السلفية ومشايخها وعلمائها لتنتهي برؤية تطهرية متحققة للعالم ترفض أساليب الحياة الحديثة وتقطع معها منتهية بإيجاد القابليات للظاهرة الإرهابية وشيوعها. إن إدانة هذا الفهم جيدة لنا. لكن الأفضل فهم ميكانزماتها وكيفية إنبنائها.

الشاهد الأخير يتمثل في السلوكيات العامة. لقد كانت القاعدة في العراق، حين كانت تتحكم بمدن إبان حياة الزرقاوي، تجلد الحلاقين إن قصوا لزبائنهم قصات غربية بالإضافة على معاقبة المدخنين والتشديد على التحكم الشديد بمختلف أنواع السلوك الفردي. وتبين الشهادات من عوالم «داعش» استمرار النهج نفسه. وبحسب شهادة الصحفي المعاضيدي، فهناك برميل بجانب أول نقاط التفتيش الداعشية في الطريق بين المناطق الكردية والموصل لمصادرة علب السجائر وإلقائها. وكما معروف، فإن لا علاقة للمملكة بهكذا تنطع. لكن التماهي يقام بينها وبين العالم المشتهى و«المثالي» لمصدري خطابات فقهية وعقائدية لا علاقة لهم البتة بالإرهاب والعنف لكنهم لا يفتأون يصدرون مدونات الإدانة والتطهر من أرجاس هذا العالم وأدرانه وخطاياه.

هذه الترتيبات لأسلوب الحياة تفصح عن رؤية للعالم تجمع بين علماء سلفيين وبين ما ترى داعش أنه ما يجب على المجتمع المسلم أن يكون. ومن الملاحظ أن المملكة كحكومة لا تنهج هذا النهج المغالي في كثير من أوجه ترتيب الفضاء العام. لكن من الملاحظ أيضا أن الخطاب السلفي بشكل عام يتقاطع كثيرا في تصوراته لتنظيم الشأن اليومي مع ما نظم «داعش» و«القاعدة» مجتمعاتهما عليه واقعا.

منذ انطلاق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحتى اليوم، مرت المملكة بتحديات عدة عبرتها بنجاح. ووجدت القيادة السياسية في المؤسسة الشرعية، أي العلماء الشرعيين، خير معين ومتفهم لضرورات التغير والانتقال، كما يبين تطور الخطاب العقدي للمشايخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله عن أسلافهما من علماء السلفية وانفتاحه على عالم الإسلام بكل اتساعه العولمي، بتناغم مع مصالح البلاد ومستجدات العصر. لقد أدرك علماء الدعوة الإصلاحية دائما أن المقصد هو الحفاظ على المجتمع والدولة وعملوا بضمير يقظ من أجل المحافظة على هذا الهدف النبيل. وأظن أنه يمكن لعلمائنا فهم أن كثيرا من تنظيم أمور المجتمع في شؤونه اليومية، كما في المجالات الثلاثة أعلاه، صار خصيصة لمجتمعات التطرف والعنف. وبناء على هذا، فإن مؤسستنا الشرعية خير من يدافع عن الوهابية بفك الارتباط بينها وبين مسارات متطرفة ومغالية للحياة الاجتماعية. ربما يتوجب علينا أن نفحص ترتيبات داعش والقاعدة للحياة الاجتماعية في مدنها وقراها ثم نقرر أن لا نكون مشابهين لذاك التنطع الذي جلبه هذان التنظيمان الإرهابيان للمجتمعات المنكوبة بوقوعها تحت رحمة منظمات القسوة والعنف والدمار.



عبدالسلام الوايل *

* كاتب وأكاديمي سعودي

Email:salam2323@yahoo.com

Twitter: salamalwail