رؤية السعودية من الإدمان إلى الفطام

عبدالرحمن الطريري

كان تاريخ الحادي عشر من سبتمبر 2001 تاريخا لتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي والإسلامي، ومن أكثر الدول التي هاجمتها عدة أطراف في أمريكا هي المملكة العربية السعودية، زاد على ذلك التوتر ما قام به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش من غزو للعراق في العام 2003 بدعوى امتلاك نظام البعث لأسلحة دمار شامل.
بالطبع كان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي موضوع خلاف كبير أيضا، خصوصا مع تمسك المملكة بأولوية القضية الفلسطينية، رغم كل الأحداث في المنطقة التي همشت القضية الفلسطينية، وكانت المملكة محرجة لكل من تاجر بالقضية أو من لم يعبأ بالقضية من الأصل، وكان ذلك عبر المبادرة العربية للسلام التي طرحت على اجتماع الجامعة العربية في بيروت 2002.
وخلال الفترة الثانية للرئيس الأمريكي باراك أوباما شهدنا خطوات كبيرة للتقارب مع إيران، سواء عبر المحادثات غير المباشرة أو عبر المحادثات المباشرة بين دول (5+1) وإيران، التي أودت لاتفاق نووي سمح برفع العقوبات عن إيران وإعادة بعض الأموال المجمدة، هذا على المستوى النظري أما عمليا فقد أعطيت الضوء الأخضر للسيطرة والتمدد في عدة دول عربية وتهديد أمن الخليج.
هذا التقارب الأمريكي الإيراني مع المزاج الأمريكي الراغب في الابتعاد عن الشرق الأوسط، أدى لتخلي الرئيس باراك أوباما عن «مبدأ إيزنهاور» الذي يؤكد على حماية أمريكا لدول الخليج، ونذكر كيف رفضت الإدارة الأمريكية الإلتزام الخطي بذلك في قمة كامب ديفيد العام الماضي، وهو الطلب الذي ذكره السفير الإماراتي في واشنطن.
هذا السرد التاريخي يبين التحديات الأمنية والجيوسياسية التي كان تنذر بالأسوأ، لكن ما لم يكن في حسبان خصوم الخليج أن المملكة ستهب في «عاصفة الحزم» لتشكل أول تحالف في التاريخ لا تشارك به القوى العظمى، وتتمكن مع 10 دول عربية من ردع التمدد الإيراني، وتعيد إحياء فكرة العمل العربي المشترك ووحدة المصير، هذا التحالف تلاه تحالف إسلامي وتدريب يعد الأضخم في المنطقة وهو تدريب «رعد الشمال».
مما بين أن السعودية بعمقها العربي والإسلامي وقوتها البشرية والعسكرية، قادرة على التصدى لإرهاب داعش مع وقوفها بالمرصاد للمشروع الحوثي برعاية إيرانية، ولكن التحديات لم تكن أمنية فقط، فقد شارفنا على العامين من انخفاض كبير في أسعار النفط، مما أثر على كل المصدرين، لكن المملكة أصرت أن تستمر في إنفاقها على البنية التحتية، مع سعيها لترشيد الإنفاق وتوجيه الدعم لمستحقيه كما تبين من «رؤية 2030» التي أطلقها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في 25 أبريل.
وحين نأتي على النفط الذي أصبح واضحا أن دولا عدة تستخدمه كلعبة سياسية مغلفة بالاقتصاد، لم تنجح مساعيهم في دفع المملكة لزيادة إنتاجها، وزعمهم أن هذا سيؤدي لدفع الأسعار لمستوى معتدل، وكانت المملكة واضحة عبر رؤيتها بأن نخفض جميعا أو لا نخفض، وأننا نتعلم من الماضي فلن نكرر خطأ خسارتنا حصة سوقية كما حصل في الثمانينات الميلادية من العام المنصرم.
وحين ذكر ولي ولي العهد عبارة «إدماننا على النفط»، تذكرت على الفور عبارة جورج دبليو بوش حين قال في نهاية فترته يجب أن نبلغ الفطام من نفط الخليج، وهنا تأتي أهمية رؤية التخلي عن الاعتماد على النفط، إذ إن رؤية 2030 تقول: لن نجعل سيفنا النفط وحده، فإذا ما رخص بقي في غمده، بل سنجعل مصادر قوتنا الاقتصادية متعددة، ولن نبقي البيض في سلة واحدة يحكمها هوى المشتري.
الرؤية حين أعلنت جعلت عنوانها الرئيسي «استقلالية القرار»، فالمملكة تتحرك من وضع صعب للعالم العربي والإسلامي وتحديات جمة، جعلت القيادة قدرا لها لا خيار فيه، وبالتالي سعت لاستقلال قرارها عن مقامرات النفط، وسعت لتنويع حلفائها شرقا وشمالا وغربا، والأهم استثمارها في عمقها الخليجي والعربي والإسلامي، وهذا ما يفسر لماذا مشروع مثل جسر الملك سلمان الذي يربط المملكة بمصر هو مشروع في غاية الأهمية، يحقق مكاسب إقتصادية وفرصا وظيفية جمة.
الاستقلالية أيضا تبدت في رؤية السعودية 2030 العسكرية، عبر توجه المملكة لبناء شركات أسلحة محلية ومصانع عسكرية، تضمن لها استقلالية قرار الحرب والسلم، وهو ما يحقق تخفيضا في تكاليف الذخيرة وقطع الغيار المستوردة، إضافة إلى ما سبق من تنويع في تسليح الجيش السعودي مما يقلل اعتماديته على أي دولة.
من الإدمان إلى الفطام والاستقلالية، رؤية طموحة لتحديات كبيرة ننتظر أن ننجح جميعا في الوصول لها، لن يكون السبيل لها معبدا بالزهور، ولكن كما قال ولي ولي العهد في لقائه «ليست المخاطر إن قمنا بذلك، بل الأسوأ ما هي المخاطر لو لم نقم بذلك».