القصيبي.. «المتنبي» الذي تعرفه أروقة الوزارات

أصدر أكثر من 50 مؤلَّفاً أدبياً ووصفه البعض بالرمز الوطني

القصيبي.. «المتنبي» الذي تعرفه أروقة الوزارات

علي الرباعي (الباحة)

تستعيد الأوساط الثقافية السعودية والعربية في شهر رمضان ذكرى رحيل الدكتور غازي القصيبي. الوزير، السفير، المثقف، الكاتب، الشاعر، الناقد، والمبدع الجاد والساخر. تلك القامة الثقافية الشامخة المتميزة في فضاء التفرد الشعري، والتميز الروائي، والعَلَمُ النقي في فن الإدارة، والرمز الوطني من رموز السفارة والسياسة والدبلوماسية. وتظل مساحة الغياب التي تركها تمتد بامتداد إبداعه الذي تجاوز 50 مؤلفا بين الشعر والسرد والمقالات.

لم ينجح الراحل الكبير غازي القصيبي في الخلاص من سطوة المتنبي عليه. برغم أن القصيبي ماهر في التخلص من نرجسية المثقف. وسطوة المسؤول. وبهرجة السفير. إلا أن (أستاذه أبا الطيب) ظل حاضرا معه في الشعر. والسرد. والنقد. ولن أقول الهجاء. لأن أبا يارا عفيف عن التطاول والإساءة إلى الآخرين. وإن كان ممن يجيد صناعة الكوميديا السوداء من خلال نقد ساخر. كان بيت المتنبي (أُريد من زمني ذا أن يبلغني... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن) الأكثر تصويرا لطموح وتطلع القصيبي. ولربما جنى أبو محسّد على أبي يارا إذ أورثه عشق التميز. وسمو الأنا دون تضخم.
ويؤكد القصيبي أنه كره المتنبي في شبابه ثم تعلق به. ولربما ظل يدفع ثمن تلك الكراهية، إذ قال ذات حوار (المتنبي ينتقم مني كل لحظة، ويتشفى بانتقامه). وتتقاطع شخصيتا المتنبي والقصيبي في أن كلا منهما توفيت أمه بعد ولادته. فكفلت كل واحد منهما جدته. كل منهما عشق القراءة مبكرا. وفيهما طموح مبكر. لشخصيتيهما قدرة على لفت انتباه الآخر. ونيل الإعجاب. والتعلق الآني دون سابق معرفة. كلاهما اقتربا من صانع القرار في البلاط. وكانت الضخامة مزيّة والاعتداد بالذات متجسدا في فؤاديهما وشعريهما. وإن زاد القصيبي بضخامة الرسم والوسم.
ويرى الناقد الدكتور عبدالله إبراهيم أن القصيبي درج على الاتكاء على المتنبي في كثير من رواياته، إذ حضر ناطقا عنه في رواية (العصفورية)، كون التماهي بين المؤلف والشاعر لا يخفى، مشيرا إلى أن القصيبي استعار صوت المتنبي، وجعله قناعا يتحدّث بلسانه. ولا يقل الخلَفُ تذمّرا عن السلف، ولا تبرّما منه بعصره، وإنما الاختلاف بينهما هو اختلاف بالوسيلة الأدبية وليس بالهدف العام، لافتا إلى أن كلا منهما اختار أكثر وسائل التعبير تأثيرا في عصره، فهما يتناغمان في درجة الاحتجاج ونوعه، مستعيدا افتتاح القصيبي فصول روايته (أبو شلاخ البرمائي) بأبيات أبي الطيب، كما استعان به في الحوار الساخر بين مجلس الحكماء والمرشح العربي لوظيفة المدير التنفيذي في رواية (دنسكو)، إذ يمتنع المرشح عن الحديث نثرا، ويجيب على أسئلة مجلس الحكماء شعرا مستعارا من ديوان المتنبي، فلا يرد على أحد منهم إلا بلسان المتنبي. وأضاف بأن روايته (7) بدأت ببيت للمتنبي، وغمر تلك الرواية بشعره من مدخلها إلى خاتمتها. إضافة إلى مختارات من أشعار أبي الطيب في رواية ( شقة الحرية) بدءا من صفحتها الأولى، إلى فصلها الأخير، مؤكدا أن المتنبي لم يغب عن القصيبي، فهو لسان حاله، ولسان حال شخصياته، في الملمّات، وفي غيرها. ويصف إبراهيم المتنبي بالناطق بأحوال القرن العاشر، فيما نطق القصيبي بأحوال القرن العشرين،

العود في أرضه
ربما غلب علينا أن نتعامل مع النوادر والنادرين ببرود وقلة مبالاة، إذ عانى القصيبي كثيرا من اتهامات هو منها براء. ونعته البعض بما ليس فيه. وحاول البعض تصويب السهام إلى معتقده ونواياه التي لا يعلمها إلا الله كونه عرّى رموز الإسلام السياسي من خلال كتابيه (حتى لا تكون فتنة)، و(في عين العاصفة).
ويذهب الكاتب محمد العصيمي إلى أنه طالما وزع المصريون ألقابا مستحقة وأخرى غير مستحقة على كبارهم من المثقفين والأدباء والروائيين والفنانين، فعمّدوا طه حسين على الأدب العربي، وأمّروا أحمد شوقي على الشعر، وعبْقَروا يوسف شاهين مخرجا سينمائيا، وأستذوا محمد حسنين هيكل في الكتابة الصحافية، وتوّجوا فاتن حمامة سيدة للسينما العربية، مبديا اعتزازه بالتجارب والرموز العربية إلا أن الوزير والسفير والشاعر والأديب والروائي، غازي القصيبي، رحمه الله، هو كبير المثقفين العرب. نظرا لقوة حضوره الذي ظل حيا متوهجا في قلوب الناس من اليوم الأول الذي عُرف فيه كشخصية عامة في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، إلى يومنا هذا الذي مضى فيه على وفاته ما يقرب من خمس سنوات. واصفا القصيبي بصانع النور، و(صانع المعرفة العربية المشتركة) إذ فتح أبواب السفارة السعودية في لندن للمفكرين والأدباء العرب المهاجرين والمهجرين ليقدموا غراس المعرفة والثقافة، عبر محضن سعودي ثقافي دولي لم يجرؤ عليه غيره.
ويرى أن القصيبي تميز بالصرامة الفكرية، خصوصا في مناجزته لرموز مرحلة الصحوة التي وقفت بالمرصاد لكل فكر وطني تقدمي، على أساس تكييف الأوطان والمجتمعات على أدبياتها، بعيدا عن شروط عصرنا وظروفه السياسية والفكرية التي تفرض، قسرا وليس اختيارا، ترابط المصالح ونفض سجادة التخلف للحاق بالمتقدمين في هذا العالم، مشيرا إلى أن كتابه (حتى لا تكون فتنة)، الذي وجّهَهُ، في جزء منه، إلى ثلاثة من رموز الصحوة حينها وإلى الناس عامة في جزئه الآخر، وضع الأمور في نصابها وعرى هذه الرموز وغيرها ممن أصبحوا بعد ذلك أكثر تسامحا وأكثر فهما للمعاصرة وقدم بعضهم اعتذاراتهم العلنية له قبيل وبعد وفاته.إلا أن الاعتذار لم يبرّئهم إلى الآن مما قصده من وقوع الفتنة بسبب أفكارهم الدافعة بالمجتمع السعودي خاصة، والمجتمعات العربية عامة، إلى أتون التناحر في ظل حروب الأطياف والألوان العقدية والسياسية.

أستاذ الحكايات الشائقة
تميز الراحل غازي القصيبي بقدرة على توظيف تجربته الحياتية في السرد، وأسطرة الماضي، وترميز الحاضر، ليبني هرما روائيا وعالما سرديا خاصا به.
وعدّت الناقدة الدكتورة لمياء باعشن روايته (حكاية حب)، من أروع الروايات وأعمقها فكراً وتأثيراً ففي الرواية مشاهد مستقبلية مريعة تعمل كنبوءات للآتي من حياة كاتبها، وصف غازي فيها آخر أيامه. ويذهب القاص عبدالسلام الحميد إلى أن القصيبي كائن روائي بامتياز نجح في كسر الحواجز وشجع الكتاب السعوديين على خوض التجربة. كون روايته شقة الحرية كانت منطلقا للرواية السعودية المعاصرة. وتؤكد الناقدة ضياء الكعبي أن غازي القصيبي تهرب من المجاهرة بكتابة سيرته الذاتية انطلاقا من انتقاده لنظرية البطل إذ يقول (أنا لستُ من المؤمنين بنظرية البطل، وأعتقد أنَّ كتب التاريخ العربيّ الإسلاميّ، قديمة وحديثة، تخطئ خطأ فادحًا حين تركز على الخلفاء والحكام من دون اهتمام بالقوى الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية السائدة في المجتمع. ومع ذلك، لا يستطيع الباحث المنصف أن ينكر دور الفرد).
وأضافت أن رواية (شقة الحرية)، هي أولى روايات غازي القصيبيّ، وهي أقرب لسيرة ذاتية روائيّة ما جعل بعض الباحثين يشتغلون على عملية المطابقة والانعكاس بين الواقع والمتخيّل الروائيّ، مشيرة إلى تجلي ملامح السيرة الذاتيّة في روايات أخرى للقصيبيّ مثل (العصفورية) و(أبوشلاخ البرمائيّ) و(الجنية) و(سعادة السفير) و(الزهايمر).

مواهب رجال في رجل واحد
من أبرز ملامح شخصية الراحل الكبير ( النجاح) إذ نجح كاتبا، ووزيرا، وسفيرا، وشاعرا، وروائيا، وناقدا، ومن قبل كل ذلك ومن بعده نجح إنسانا متواضعا دون تكلف. تعلقت به جموع وأحبه الناس ودعت له بالمغفرة والرحمة قلوب ولهجت بذكر فضائله ألسن.
ويؤكد رئيس أدبي حائل الأسبق محمد الحمد أن القصيبي قدم لأبناء مجتمعه كل ما يملكه من طاقات إبداعية متناهية، في السياسة، والإدارة والأدب شعرا ورواية حتى بات من رواد هذه المجالات جميعها. وعدّ القصيبي في أوائل من قوبل بحرب التأويل والتشكيك والتصنيف إلا أنه كان صامدا متمسكا بالحلم والتؤدة منتهجا الحوار والإقناع، ما جعل من حاربه في مقدمة من شيعه بحزن بعد رحيله.. مشبها ذلك بإعادة نفسه في ثقافتنا التي تتناسخ عندما نتذكر موقفنا من مفكرينا الأوائل كابن رشد وابن سينا وغيرهما، مشيرا إلى أن الثقافة التي حاربتهم في حياتهم باتت تفتخر بهم بعد مماتهم، ووصف غازي القصيبي بمفخرة نعتز بها جميعا رحمه الله.
ظاهرة إنسانية
ربما في ظل بهرجة السمعة، وتزايد الأضواء تضعف إنسانية المبدع، أو تتراجع قيمه النبيلة وتعلو أنانيته على حساب إنسانيته، إلا أن القصيبي الحضاري في كل تصرف احتفظ بإنسانيته حتى غدا ظاهرة ربما يتعذر استنساخها أو تكرارها في غيره. ويشيد الناقد الدكتور عبدالله المعيقل بشخصية غازي القصيبي، وعدّه ظاهرة إنسانية لا تتكرر، موضحا أنه إذا كان هناك من أحد لا يعرف للعبقرية معنى، أو لم يسمع بها، فأمامه غازي الذي تجلت فيه كل معان العبقرية، وذلك في كل ما كتب وفي كل ما فعل. وأضاف المعيقل: الواحد منا يعجب كيف يمكن لشخص واحد أن تجتمع فيه كل هذه المواهب، التي تظهر في أبلغ وأجمل صورة! ففي الشعر تجده واحدا من أبرز شعرائنا، وذلك من خلال ما شكله شاعرا لمرحلة مهمة من مراحل شعرنا السعودي، وفي الرواية تجد أن (شقة الحرية) كانت فاتحة لمرحلة أخرى مهمة في تاريخ الرواية المحلية.. وكذا شأن إبداعاته في الإدارة والسفارة والسياسة.. حدث ولا حرج، مؤكدا على علو كعبه في إنسانيته وتواضعه وتفقد أصدقائه والاهتمام بالمثقفين المعوزين وتقديم الشفاعات لأناس ربما لم يعرفهم عن قرب وإنما تعاطف مع قضاياهم ومآسيهم.

شغل المناصب والأوراق والأذواق
ترى الكاتبة شريفة الشملان أن المتتبع سيرة القصيبي يعجز عن استقصاء فنونه وسبر أغوار إبداعه شاعرا، أديبا، كاتبا، وترى في ذكراه رجلا شغل الكثير من المناصب كما شغل الأوراق والأذواق. وأضافت لشعره نكهة المطر المبلل لرمال الصحراء، ولدوي بعضه صوت الرعد، وتؤكد أنه عشق المتنبي فتلبسه وأتت إحدى قصائده لتسكن روحه فيها ويغني للوطن وللأرض للصحراء والواحات والجزر. أبدع في الرواية وانتقل بها من رواية للأبواب المغلقة لروايات للشمس والضياء، قد تكون صدمت هنا وهناك ولكنها أبدعت وأثرت كما أثر رواد الشعر الحر. وترى أنه وإن اختلفنا معه في بعض المواقف، إلا أنه حقا محاور شجاع ومتقبل للرأي المعارض.

تجربته روائية وشعرية للنقاد
رئيس أدبي منطقة القصيم الدكتور حمد السويلم يؤكد أن القصيبي يمثل قامة أدبية وشعرية شكلت في إبداعها لوناً خاصاً ونمطاً مميزاً في إبداع القصيدة الغنائية بلونها الرومنسي العذب. وكتابة الرواية الواقعية الناضجة، والسيرة الذاتية الرائعة. والمجتمع الأدبي السعودي. وأضاف أن القصيبي شخصية أدبية تبوأت مكانة مرموقة في المشهد الأدبي والثقافي المحلي والعربي، إذ يعد الفقيد من الأصوات الشعرية المائزة في كتابة القصيدة الغنائية التي تحمل رؤية واسعة للحياة والموت. وعد تجربة الشاعر الراحل مع الحزن والموت من التجارب المميزة في المشهد الشعري العربي، إذ نحا في كتابته الإبداعية نحو النغم الصوفي الحزين، خصوصا في ديوانه «حديقة الغروب»، ذلك الديوان الذي لم يرث فيه أحباءه وأصدقاءه فحسب وإنما رثى فيه نفسه كذلك، لقد رسم ملامح الموت بحروف قصائده المؤلمة والمؤثرة. ويرى أن تجربة القصيبي الروائية والشعرية كانت ومازالت موضع اهتمام من قبل النقاد والدارسين والباحثين، إذ تناول الباحث أحمد اللهيب صورة المرأة في شعره، وتناول عبدالعزيز السليم أنماط السرد في رواياته، وهناك دراسة عن ظاهرة الحزن في شعر القصيبي. وأحد طلابه درس ظاهرة الموت في شعر القصيبي، مؤكدا أن نتاج القصيبي لا يزال بحاجة إلى دراسات متعددة تضيء جوانب عبقريته الإبداعية.