الخطيئة الثانية

د. طلال صالح بنان

من وراء الأحداث المأساوية التي حدثت على الساحة الفلسطينية، ونتج عنها استيلاء حماس على قطاع غزة، وبالقوة.. ولجوء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى إقالة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة إسماعيل هنية، وإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة، برئاسة سلام فياض.. وما ترتب على ذلك من رفض حركة حماس لكل تلك الإجراءات التي قام بها رئيس السلطة، بعدما أكدت سيطرتها على قطاع غزة، بصورة مطلقة.
لا يمكن تحديد مسئول، بعينه، عن تلك الأحداث، حتى يمكن التعامل معه، لإنهاء الأزمة وحلها. يبدو أن الفلسطينيين سيدخلون في جدل قانوني ودستوري “سفسطائي” في محاولة لإلقاء اللائمة على الطرف الآخر. ولكن الحقيقة المرة، التي لا يستطيع أحد أن يتجاهلها، أن الأخوة الفلسطينيين “الأعداء” تخلوا عن أي حل سياسي أو دستوري أو قانوني لخلافاتهم، حول اقتسام السلطة، واحتكموا، أخيراً إلى السلاح، لعلَ وعسى تسفر معركة العنف بينهم، إلى “انتصار” سياسي لأيٍ منهم.
ولكن، إنصافاً للفلسطينيين، يجب ألا يُلقى اللوم (كله) عليهم. الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، في التحليل الأخير، لا يمتلكون سيادة كاملة، لأن أراضي السلطة محتلة. سلطة تمارس صلاحيات محدودة بموارد أكثر فقراً، في ظل احتلال جاثم على الجميع، من مصلحته السياسية والأمنية، أن تُسوى المسألة الفلسطينية بيد أبنائها، بعد أن عجز عن ذلك بيده. بوجود واقع الاحتلال، من الصعب النظر للمسألة على أنها سيناريو “كلاسيكي” للصراع على السلطة بين فتح وحماس.. أو مؤسساتياً، بين الحكومة والرئاسة، وإن كان هناك اختلاف جذري بين الجانبين حول: إدارة الصراع مع إسرائيل، للتخلص من حالة الاحتلال المانعة قانونياً وسياسياً، من إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.. في النهاية: لا يمكن ضمان إدارة سلمية للصراع بين القوى السياسية، في أي مجتمع من المجتمعات، تحت ظل الاحتلال، الذي بدوره يشكل محوراً رئيسياً في حالة الصراع على السلطة، الذي ينشب بين القوى المختلفة، بسبب الخلاف على كيفية إدارة حركة الصراع مع القوة المحتلة.
هناك عامل إقليمي آخر، ليس بعيداً عن القضية الفلسطينية، ولكن له ظروفه الخاصة ومصالحه المتجددة وعلاقاته الدولية والإقليمية. لقد تغيرت نظرة العرب للقضية الفلسطينية، بتغير الأوضاع الإقليمية والدولية. العرب، بعد انهيار نظام الحرب الباردة، وتحديداً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تغير موقفهم من فكرة المقاومة (العنيفة) للتعامل مع أزمة علاقتهم مع إسرائيل، وعلاقتهم بالقضية الفلسطينية وأصحابها. العرب، لا زالوا عند موقفهم من محددات السلام، مع إسرائيل بأن يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، التي وضعه مؤتمر مدريد 1991، وكذا أكدت عليه مبادرة السلام العربية في قمة بيروت 2002، ولكن حددوا السبيل إلى ذلك بالطرق الدبلوماسية والحلول السياسية. من هنا فإن تمسك أحد أطراف القضية الفلسطينية (حماس)، بالمقاومة، بمفهومها التقليدي، الذي يعطي أولوية لأداة العنف... بالإضافة إلى مطالب بتحرير كامل فلسطين، تبدو للعرب غير منطقية وغير مقبولة. هذا بالإضافة إلى عدم تحمس النظام العربي، لأسباب سياسية، لفكرة وتوجه جماعات سياسية مثل حركة حماس.
علينا، ألا ننسى المتغير الدولي، هنا. الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وحتى ـــ إلى حدٍ كبير ـــ الأمم المتحدة، ضد فكر وتوجه أي جماعة سياسية، تقوم على أساس ديني وتأخذ من نهج المقاومة العنيفة للاحتلال، منطلقاً للتمكين من السلطة، في أي مجتمع من المجتمعات، وبالذات في فلسطين، حتى لو جاءت مثل هذه الجماعات إلى السلطة أو شاركت فيها، بالوسائل الديموقراطية المرعية. من هنا كانت أزمة حماس في الحكم.. وأزمتها مع فتح. العالم لم يكن متحمساً لمجيء حماس، إلى الحكم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى باعترافه بنزاهة وشفافية انتخابات يناير 2005 التشريعية. من يومها فرضت الولايات المتحدة، التي تتزعم اللجنة الرباعية، حصاراً سياسياً واقتصادياً على الأراضي الفلسطينية، من أجل إسقاط حماس وبرنامجها السياسي. لم تكتف الولايات المتحدة بهذا التعامل السياسي مع “أزمة” مجيء حماس إلى السلطة، بل أنها عملت على تقوية الطرف الآخر، (فتح والرئاسة)، عسكرياً، بتقديم مساعدات عسكرية بـ 60 مليون دولار، من أجل إحداث خلل في ميزان القوى بين الجانبين، يدفع تجاه إغراء استخدام القوة.
الخطيئة، إذن، ليست خطيئة الفلسطينيين وحدهم. إنها خطيئة يرتكبها الجميع ضد أنبل قضية تغلغلت في ضمير الإنسانية، ولا يستطيع أحدٌ، حتى بين من تسببوا بها، أن يتخلصوا من عبئها الأخلاقي والسياسي عليهم.