الملائكة ترحل من وادي العبيد
الثلاثاء / 11 / جمادى الآخرة / 1428 هـ الثلاثاء 26 يونيو 2007 20:03
علي حسن التواتي
الملائكة هو اللقب الذي اشتهرت به عائلة الشاعرة العراقية العَلَمْ (نازك صادق جعفر)، والملائكة لقب لم تتوارثه عائلتها عن أسلافها إنما هو لقب أطلقه جيران تلك العائلة البغدادية على أهل ذاك البيت بسبب الهدوء المطبق الذي كان يخيم عليه. كيف لا وبداخله كانت تعيش شاعرة أخرى هي أم نازك (سلمى عبد الرزاق) التي اشتهرت في الأوساط الأدبية العراقية باسم (أم نزار الملائكة) وأب اشتغل بعلوم اللغة والأدب والفقه. وكانت العائلة فيما يبدو تعيش الهمّ العربي فنقلته إلى ابنتها يوم ولادتها في 23 أغسطس 1923م عقب الثورة التي قادتها الثائرة السورية «نازك العابد» على السلطات الفرنسية، وكانت الصحف إذ ذاك تطفح بأنبائها ، فرأى جدّ الطفلة أن تسمى نازك على اسمها إكراما للثائرة وتيمناً بها وقال : «ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد إن شاء الله.» وهذا ما حدث بالفعل، فرغم ما كان يبدو عليها من خجل شديد وسلوك اجتماعي أقرب ما يكون إلى الانطواء، إلا أن مرجلاً من التوتر الإبداعي - الذي تعارف من لا يفهمونه على تسميته بالتمرد - كان يغلي في أعماقها منذ طفولتها، فقد كانت عنيدة متمسكة بآرائها إلى حد يضايق معلماتها وأبويها ، وكانت في نفسها مقدرة على الكتمان والصمت تندر في الأطفال. وحينما بدت ملامح شاعريتها في الظهور لأول مرّة في الصف الخامس الابتدائي، لم تجرؤ لفرط خجلها أن تلقي قصيدتها أمام جمع من زميلاتها وأستاذاتها فألقتها إحدى زميلاتها نيابة عنها. فهل كانت تلك الطفلة الخجول المتلعثمة تعلم أن شاعريتها ستتفجر فيما بعد براكين هادرة تملأ الدنيا وتشغل الناس بمئات القصائد والدراسات والقصص لتشكل علامة فارقة ومنعطفاً هاماً لم تحتله شاعرة غيرها بعد الخنساء في تاريخ الأدب العربي. ولئن كادت الخنساء أن تكون أشعر الناس في سوق عكاظ بقصيدتها في رثاء أخيها صخر حسب حكم النابغة لولا أن سبقها الأعشى، فلقد تمكنت نازك أن تكون أشعر الناس سنة 1947م عندما نشرت قصيدتها الشهيرة (الكوليرا) تعاطفاً مع ضحايا الوباء الذي اجتاح الريف المصري، تلك القصيدة التي كسرت فيها قواعد الأوزان والقوافي المألوفة في الشعر العربي لتشكل مع بدر شاكر السياب، و فيما بعد عبدالوهاب البياتي ثلاثياً عراقياً وضع أسس شعر التفعيلة أو ما عرف بمسمى (الشعر الحر) في الأدب العربي الحديث. ورغم ما لهؤلاء الثلاثة من ريادة في هذا اللون من الشعر، إلا أن ذلك لم يمنع نازك الملائكة من الاعتراف بكل تواضع العالم الواثق من نفسه ومن رفعة مقامه بأن هذا اللون من الشعر كان معروفاً في الأوساط الأدبية العربية قبل نشر قصيدتها الشهيرة من خلال بعض القصائد التي نشرت في مطبوعات أدبية عربية مختلفة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. نعود إلى دواوين الشاعرة العديدة التي يرى كثير من النقاد أن شاعريتها تجلت بوضوح في ثانيها من حيث الترتيب (شظايا ورماد) الذي ضم إلى جانب قصيدتها الكوليرا قصائد أخرى رائعة منها الباحثة عن الغد، والخيط المشدود في شجرة السرو، وجنازة المرح، وقبر ينفجر. ورغم أن الشاعرة حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة (وسكنسن) في الولايات المتحدة إلا أن الانتماء العروبي في أعماقها كان قوياً إلى حد استبعاد التفكير في الهجرة إلى أمريكا عندما ضاقت بها الحياة في العراق مرتين الأولى عندما خاب أملها بثورة عبدالكريم قاسم الذي استقبلته بقصيدة احتفالية واعترضت عليه بهجرة أولى للكويت ولبنان ومصر والثانية عندما خاب أملها بصدام حسين فاعترضت عليه بهجرة نهائية إلى مصر منذ سنة 1990م وزادت على ذلك بالانسحاب من الحياة العامة وفرض نطاق من العزلة الاختيارية على نفسها حتى وفاتها في القاهرة يوم الأربعاء الماضي 21 يونيو 2007م.
ولعل الشاعرة كانت تريد أن تعبر بتلك العزلة عن خيبة أملها في العرب أجمعين، لقد رحلت نازك الملائكة عربيّة حرّة أبيّة ولسان حالها قصيدتها التي ترفض فيها العيش في وادي العبيد:
لا أُريد العيش في وادي العبيد بين أموات.. وإن لم يدفنوا
جثث ترسف في أسر القيود وتماثيل اجتوتها الأعين
آدميون ولكن كالقرود وضباع شرسة لا تؤمن
altawati@yahoo.com
ولعل الشاعرة كانت تريد أن تعبر بتلك العزلة عن خيبة أملها في العرب أجمعين، لقد رحلت نازك الملائكة عربيّة حرّة أبيّة ولسان حالها قصيدتها التي ترفض فيها العيش في وادي العبيد:
لا أُريد العيش في وادي العبيد بين أموات.. وإن لم يدفنوا
جثث ترسف في أسر القيود وتماثيل اجتوتها الأعين
آدميون ولكن كالقرود وضباع شرسة لا تؤمن
altawati@yahoo.com