حوار المثقف والداعية.. من «الحداثة» إلى «الليبرالية»

حمد عائل فقيهي

(1)
لا تقوم المجتمعات على سيادة فكر واحد.. أو هيمنة رأي واحد ولا يمكن لهذه المجتمعات أن تنهض وأن تتقدم إلا بوجود الشيء ونقيضه الرأي وضده وخلق وعي ووعي مضاد له، وخطاب مقابل خطاب ولأن الأمر كذلك وينبغي أن يكون وأن يتأسس تبدو قضية الاختلاف في المجتمع السعودي في كثير من الأحيان وكأنها غير مألوفة وخارجة عن طبيعة الأشياء وكأن المطلوب من هذا المجتمع أن يكون مواطنوه ومثقفوه ومبدعوه وعلماؤه وفقهاؤه نسخة واحدة، جسداً واحداً لملايين الناس ولكن بذهنية واحدة، وهذا الأمر يتنافى في الأصل مع الإنسان كونه إنساناً يفكر ويتأمل ويرى والحياة في كيانها وكينونتها قائمة على النقيض وهذا النقيض هو سرها البهي والمضيء في آن.. بل هو أحد أهم أسرارها، لقد خلق الله الشيء في مقابل شيء آخر، الوجه الآخر لهذا الشيء وهو نقيضه في نفس الوقت يتعارض معه ويتناقض أيضاً ولكن فيما هو يتعارض ويتناقض هو يكمله، وثمة سماء وأرض بحر ويابسة رجل وامرأة نصر وهزيمة أسود وأبيض جبل وسهل حب وكراهية جهل وعلم، هكذا تقوم الحياة على كل ما هو نقيض.. وما هو مختلف..
وعندما نلقي نظرة -اليوم- على مجتمعنا سوف نجد حالة من الحوار بين المثقف والداعية وبين هذا الذي يرى في ثقافة الانفتاح نافذة تطل على العصر وضرورة الاندماج في هذه الثقافة والأخذ من ما هو إيجابي ومفيد من هذه الثقافة وجعلها رافداً هاماً يصب لصالح الثقافة الوطنية وذاك الذي يرفض أي جديد ومن ثم التعامل مع مفردات هذا الجديد أكان هذا الجديد يدخل في إطار ما هو ثقافي وفكري وفلسفي وإبداعي أو في سياق أي منجز معرفي أو أي وجه من وجوه الحياة، إنهما خطابان مختلفان متضادان قد يلتقيان وقد لا يتلقيان البتة وحالة الالتقاء هذه مرتبطة بحالة الارتقاء بالحوار والفهم.
(2)
وعندما نقول بثنائية المثقف والداعية فإننا نشير إلى أن كلاهما يمثل المعرفة فالأول ينتمي إلى الثقافة الحديثة والمناهج الحديثة ويقوم بدور المثقف كما عناه وشخّص دوره المفكر الفلسطيني الأمريكي «إدوارد سعيد» في كتابه «صور المثقف» ذلك المثقف الذي لا ترتبط مسألة الثقافة عنده ولديه لمجرد البحث عن وجاهة اجتماعية أو أكاديمية ولكن بدور يتأسس على فعل تنويري مهمته الارتفاع بوعي المجتمع والنهوض بالإنسان والانشغال بقضايا الإنسان على السواء أما الثاني فإنه ينتمي إلى الثقافة الشرعية التي ترتكز على النص الديني ولذلك فإن خطابه قد يبدو أكثر مصداقية وأكثر قبولاً عند فئات كثيرة وعريضة في المجتمع، وربما كان هذا الداعية إضافة إلى كونه يمثل الفكر الديني هو أكثر ارتباطا بالفكر الحديث، وفقه الواقع، ومثال ذلك الشيخان يوسف القرضاوي وسلمان العودة، وربما كان المثقف أكثر تخلفاً من الداعية، وليس بالضرورة متقدماً عليه وأن يكون هاماً ومؤثراً في مقابل الداعية الذي يحمل خطابه هذه الثقافة الاسلامية الدينية والتي تدعو إلى الاستقامة والتمسك بأهداب الدين والقيم الفاضلة في أن خطاب المثقف هو الأكثر سفراً في المستقبل والأكثر تحليلاً وغوصاً في الواقع وفهما لتحولات المجتمع والأمة كلاهما له وظيفته وله دوره، لكن بأية لغة وأية عقلية؟
(3)
ما أعتقده أن ثنائية المثقف والداعية يمكنها أن تفرز وعياً اجتماعياً كبيراً إذا قامت على الاختلاف لا الخلاف وإضاءة الكثير من المفاهيم والمصطلحات المختلف حولها وأن يكون هناك نموذج للحوار الراقي والحضاري من أجل صياغة مجتمع لا تقوم أعمدته ودعائمه على ثقافة الخصام ولغة المخاصمة ولكن بتقريب وجهات النظر وقبول كل طرف للطرف الآخر حتى لا تكون مسألة التخوين ومسألة الانتماء للوطن وقضية المواطنة موضع إشكال ومشاكله ولكن لابد من وجود فكر وفكر مضاد وثقافة وثقافة مضادة ولكن على أرضية مشتركة ووطن واحد ومواطنة واحدة بعيداً عن أي شيء آخر. لقد بدأ الحوار بين المثقف والداعية منذ بداية الثمانينات الميلادية عن الحداثة والحداثيين وها هو ينتقل إلى الليبرالية والليبراليين أيضاً، فهل تغير شيء وهل تبدل الخطاب أنها نفس اللغة نفس المفردات وليس هناك حوار عميق حول القضايا والمسائل المختلف حولها.
نعم إن المجتمعات الحية والصحيحة والتي تتمتع بعافية حضارية والمتصالحة مع نفسها ومع مواطنيها هي تلك المجتمعات التي تنصهر فيها كل الرؤى وتتلاقى في فضاءاتها كل الأفكار وتتحول بفعل حركية التاريخ إلى مختبر لهذه الأفكار وتلك الرؤى ولكل الاتجاهات الفكرية والسياسية والثقافية عبر ما هو نقيض ومتعدد، من أجل بناء وطن الحوار والتعددية، ومجتمع المعرفة، وطن ومجتمع المثقف والداعية معاً.
a_faqehi@hotmail.com