كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سَمِع

وليد احمد فتيحي

آفات اللسان عديدة، وقد جاءت الأحاديث تؤكد خطورة آفات اللسان من كذب وغيبة ونميمة وسخرية واستهزاء وغيرها كثير. فعن عبدالله بن سفيان عن أبيه قال: قُلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: «قُل آمنت بالله ثم استقم»، قال: فقلت فما أتَّقى؟.. فأومأ بيده إلى لسانه. وقال عقبه بن عامر. قلت يا رسول الله ما النجاه؟.. قال «امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك».، وقال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول؟.. فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يِكبُ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟».. وقال عبدالله الثقفي: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به فقال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟.. فأخذ بلسانه وقال هذا. وقال أنس بن مالك: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه»
وروي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟.. قال: هذا أوردني الموارد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته». ومن أشد آفات اللسان وأكثرها توعداً في القرآن والسنة هي آفة الكذب، فقد عَّلمنا رسول الله وشددَّ وأكدَّ أن المسلم لا يكذب، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، ولكن هناك صوراً من الكذب قد يغفل عنها المسلم فَيُكْتَب كاذباً ومازال يكذب حتى يكتب عند الله كذاَّبا ويطرد من رحمة الله وهو لا يدرك أنه يكذب، وقد تناول القرآن الكريم والأحاديث النبوية هذا النوع من الكذب تناولاً دقيقاً متمثلاً في حادثة الإفك.
فحديث المسلم بكل ما يسمع نوع من أنواع الكذب.. «كَفى بالمرء كذباً أن يُحَدّثَ بِكل مَا سَمِعْ».
وقد عالج الإسلام هذه القضية في أكبر وأضخم معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاضتها الجماعة المسلمة، وخاضها الإسلام آنذاك ألا وهي «حادثة الإفك»، ونزل به القرآن مهذباً مُعلماً، والحادثة صورة تتكرر في كل جيل بصور مختلفة تريد النيل من كل قيادة ناجحة، فحينما يعجز الضعفاء عن النيل من القيادة تراهم يسعون إلى مثل هذه الحرب المعنوية للنيل من شخصه في طريقة قيادته أو أمانته أو اختياره لبطانته أو أبعد من ذلك، وبذلك ذهب المفسرون في تناولهم لحادثة الإفك لا كحدث تاريخي بتفاصيله ودروسه فحسب بل كنموذج لحرب الإشاعة التي يبثها ويشنها العدو ضد أي قيادة إسلامية نزيهة ومتجردة، ولذلك كان النص القرآني في سورة النور وهو يُعالج هذه القضية جل خطابه للصف المسلم لا المنافقين. ومن الدروس المستفادة صون الأذن عن الاستماع إلى هذه الأقاويل «لولا اذ سمعتموه»، وحماية القلب من أن يصل إليه الظن السوء بتصديق ما يقال «ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين»، وقد علمنا القرآن الكريم التبين وسمى ناقل الأخبار فاسقاً «يا ايها الذين امنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» حتى وان كان نقله نقلاً صحيحاً دقيقاً محصناً عمن سمع منه فقد حكم الله عليه بالفسق وهو عند الله تعالى من الكاذبين. والدرس الثاني أن يبقى الميزان الدقيق الحساس في الحكم على الاشاعة هو الميزان الذاتي بإعتباره خط الدفاع الأول عند المجتمع المسلم كما وجه القرآن الكريم في قوله تعالى «لولا اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين»، فلابد من أن تكون ثقة المسلم بأخيه كثقته بنفسه، كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما- كما روى الإمام محمد ابن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -رضي الله عنها- قال: نعم. وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟.. قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك، ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: «الكشاف» أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟.. فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله  صلى الله عليه وسلم سوءاً؟.. قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة -رضي الله عنها- ما خنت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فعائشة خير مني, وصفوان خير منك.
أما الدرس الثالث فيؤخذ من قول الله تعالى في سورة النور «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ». كيف يتلقىَّ اللسان؟.. إنما الذي يتلقىَّ هو الأذن ثم يُنقل الكلام إلى العقل يتأمله وإلى القلب يتدبره .. ولكن القرآن الكريم دقيق الألفاظ محكم المعاني وإنما قصد به الذين يتناقلونه دون تدبر ولا تروٍّ ولا فحص ولا تدقيق ولا إمعان ونظر، فهي كلمات تتلقاها الألسن وتقذف بها الأفواه «وكَفى بالمرء كذباً أن يُحَدّثَ بِكل مَا سَمِعْ».
وبذلك قال الله تعالى «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ».
إن أشد ما تعاني منه المجتمعات الإسلامية هو إهمال ملاحقة مثيري الإشاعات وناقلي الإفك وبذلك تتوالى الفتن وراء الفتن في أصغر وحدات المجتمع وهي الأسرة إلى أكبرها وهي الأمة، وازدياد الإشاعات هو انعكاس ضعف البناء الداخلي في المجتمع المسلم.
وعندما يسهل تناقل هذه الإشاعات على ألسنة مسؤولين كبار يعظم الأمر ويكبر وتصل الكلمة منهم إلى الآفاق تثير الفتن، وقد توعد الله من تفوه بالكلمة تبلغ الآفاق بسخط الله وغضبه. وتثار الفتن حول أصحاب الرسالات تستنزف قواهم وتعرقل مسيرتهم، ولكن هيهات هيهات لأصحاب الإشاعات والفتن أن ينالوا من أصحاب الرسالات. لم تنتهِ أم المؤمنين عائشة من البكاء حتى ظنت أن البكاء سيصدع كبدها وحين ووجهت بالأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألها عن الحديث فقالت «إني والله قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم الله أني منه بريئة لتصدقوني . وإني والله ما أجد لي مثلا إلا أبا يوسف إذ يقول: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فصَبرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ». «نعم كَفى بالمرء كذباً أن يُحَدّثَ بِكل مَا سَمِعْ»، وصدق رب العالمين سبحانه وتعالى في ما تلاه القرآن على لسان لقمان «يا بني انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله, ان الله لطيف خبير».
عن صفوان بن سلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بأيسر العبادات وأهونها على البدن: الصمت وحسن الخلق». وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».
فاكس: 6509659 - okazreaders@imc.med.sa