تفيدة

قصة مساعد الحارثي

اختلطت رائحة الصهد والموت والفقر بين يدي عم عبده الخباز “اثناء رشه للبرحة” الواقعة امام منزلنا استعداداً لاستقبال المعزين. توافد المعزين لمدة ثلاثة ايام كان كفيلا بالقضاء على نصف ميراثي من والدي. النصف الآخر تم القضاء عليه في عزاء والدتي بعد ذلك بعشرين يوما. “ربنا يعوض عليك” كان صوت جارتنا خديجة.. لم ارد كنت اكرر محاولاتي الفاشلة لتشغيل “الهمبرته” وكانت منهمكة بسحب اكياس الخبز الناشف المرصوصة بعناية على سقف “زريبتنا” بواسطة خطاف حديدي. كعادتها كانت ترتدي ثوبا اسود اللون وتعصب رأسها “بخرقة” حمراء انهت مهمتها بنجاح. استدارت حيث اقف “ما عاد له لزمه يا ابو صابر الغنم وراحت الا لو كنت ناوي تبله وتاكله”.
جارتنا خديجة توفي ابنها الاكبر في احد الحروب المقدسة سكنها الحزن.. انهمر حزنها بكاء ابكى كل من حاول تخفيف مصابها وبارك لها شيخ الحي شهادة ابنها قال انه سيشفع لـ70 فرداً من عائلته.. توقفت عن العناء واقسمت ان تعرض ما تبقى مزاد علني. والقي القبض على ابنها الثاني وهو في طريقه للموت.
زملائي في الشركة اطلقوا عليّ لقب ابو لسانين. كرهي للهدوء والصمت وحبي للثرثرة الخافتة المنبتة اكسبني هذا اللقب بجدارة. احيانا تتحول ثرثرتي الى صراخ كما حدث حين قامت الشركة بخصم 6 ايام من مرتبي. نقاشي الحاد مع المدير المالي حدا بصاحب الشركة لطلبي لمكتبه. حاول شيخاً اقناعي بسلامة الاجراء المتخذ ضدي لكن معرفتي بالنظام حالت دون ذلك. تغيرت لهجة الشيخ. “لم يسبق لي مشاهدته شيخاً حقيقياً” ادخل يده في جيب ثوبه الجانبي. اخرج محفظة مدججة بالاوراق الزرقاء. انقدني عدة ورقات. قبضت. تراجعت عدة خطوات الى الخلف. عدت لمكتبي متحاشياً الرد على اسئلة بعض الزملاء.خذلت تلهفهم لمعرفة نتائج اجتماعي بالشيخ. ابو صابر هي كنيتي في حينا الشعبي المتواضع حتى عندما كان صابر شتاتا بين الصلب والترائب. “عم صدقة الحافي” “كان الوحيد من سكان الحي الذي وافق على تقسيط مهر ابنته وبدون فوائد. صابر سيشرف بعد ايام. هوسي بالنظام وخوفي من الوقوع في مطبات مادية غير محسوبة فرض علي عمل ميزانية خاصة بقدوم المولود. تواضع المبلغ المرصود لبند الولادة حتم علي طلب خدمات جارتنا خديجة.. نصحتني فوراً بالداية “تفيدة” ست شاطرة وفي يدها بركة.. وكمان اجرتها ما تكلفك.. ولادة وختان ومعمر بتلات مية ريال يا بلاش..
قالتها وهي تمد يدها بورقة مدون فيها رقم الداية تفيدة.. وضعت الورقة بعناية داخل محفظتي الفارغة. اتجهت لمقر الشركة كنت مسكونا بسعادة لم اعهدها في نفسي وانا احدث زملائي عن الداية تفيدة ويدها المبروكة. العم جابر مراسل الشركة هذا اللعين كم تمنيت لو اطبقت بنواجذي على سبابته اليمنى وهي تلوح امامي مصحوبة بصوته الاجش يردد بتهكم “ليتها تخصي صابر مثل عيال عام الحصبة” اربكتني عبارته خوفي على فحولة ابني صابر سبب لي صداعاً افقدني توازني. سحبت الورقة الموضوعة بعناية داخل محفظتي الفارغة. اتصلت بها والغضب يجتاحني اردد كلمات متلعثمة صابر “حصبة” اخصاء.. امتصت غضبي.. واكدت لي انها لم ترتكب أي خطأ خلال ممارستها لمهنتها وسكان الحي يشهدون بذلك. وحرصها على حياة مواليد عام الحصبة هو ما دعاها لتخصيهم بعد اصابتهم بطفح في اعضائهم فشلت جميع الادوية في علاجه. “بس ربك ما يضيع احد كل عيال عام الحصبة صاروا اصحاب مال وجاه ومفكرين كمان” قالتها ضاحكة. وضعت سماعة الهاتف رفعت ثوبي غير مكترث لوجود زملائي واطلقت ساقاي في اتجاه عيادة تفيدة.