حكايات «بابل» .. ثقافات متباينة وخيبات مشتركة

خالد ربيع السيد

يمكن العنصر الحكائي المستمد من الموروث الديني في فيلم بابل (Babel) للمخرج المكسيكي اليخاندرو غونزاليس اناريتو، من الاستدلال على فكرة الفيلم، كما يمكن التداخل مع ما أورده الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب «العين» (إن الله عز وجل لما اراد ان يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحاً فحشرتهم من كل افق الى بابل فبلبل الله بها ألسنتهم، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد).
نستدل على ما اراد «غونزاليس» قوله، من خلال تسمية الفيلم ومن مضمون الفيلم، فالتسمية ليس لها علاقة بمدينة بابل عاصمة حمورابي العراقية التاريخية الشهيرة، ورغم معرفة المخرج بالثقافة الإسلامية من جهة الاتصال التاريخي بين ثقافة الحضارة العربية الأندلسية، وتوغله الدقيق في الموروث الديني، الا انه يبدو مستبعدا وغير منحاز لهذين العنصرين، خصوصاً وانه في فيلميه الروائيين السابقين لم يقارب البعد الثقافي لأي اثنية او عرق بشري أيا كان.
تدور احداث الفيلم في اربعة اماكن هي المغرب والولايات المتحدة الامريكية والمكسيك واليابان، وبالتالي ينطق ابطاله بأربع لغات: الاسبانية، الانجليزية، العربية واليابانية. وتتلخص قصته في قيام السائحين ريتشارد وسوزان «براد بيت، كيت بلانشيت» بزيارة للمغرب القصد منها الخروج من ازمة شخصية، حيث تبدأ حكاية اخرى هي حكاية الطفلين المغربيين احمد ويوسف، عند قيام والدهما بشراء بندقية صيد من فلاح مغربي حصل عليها من سائح ياباني أتى للمغرب في رحلة صيد. فيقوم الطفلان بتجريب البندقية وتنشأ بينهما منافسة صبيانية حول اصابة الاهداف، وما ان يقدم الطفل الاصغر على التسديد صوب حافلة سياحية تقل سائحين امريكيين، ويصيب من على البعد «سوزان» اصابة بالغة في عنقها حتى يتصاعد الخط الدرامي في الفيلم. ويحاول ريتشارد انقاذ سوزان بمساعدة المترجم انور (محمد اخزام) الى قريته القريبة التي يتوفر فيها طبيب شعبي، وهنا يظن الجميع ان الحافلة تعرضت لهجوم ارهابي مما يدفع بالقوى الامنية للتعامل مع الامر بشكل قاسٍ جداً، وتبدأ عمليات البحث عن الفلاح الذي باع البندقية، ويحاول بدوره العثور على والد الطفلين اللذين يخبئانها، ثم يخبر الصبيان والدهما بما حدث، ويحاولون الهرب، لتقع بينهم وبين القوى الامنية اشتباكات تؤدي لموت الطفل الاكبر.
تشابك الحكايات الاربع
يقوم الفيلم من حيث تفاصيل السيناريو على اربع قصص، او قد تبدو للبعض ثلاث فقط، ولكن بصرف النظر عن الفضاء السردي، تنبثق عشرات الحكايات التي يمثلها كل شخص فاعل في كل قصة، فالقراءة السيميولوجية لأفعال الشخوص تقود الى العديد من الحكايات الصغيرة، وعليه فإن القصة الاولى التي يمثلها بناء الفيلم الكلي هي قصة العالم المنبسط امام الحدث الذي يربط بين قاراته الثلاث، لتتفرع وبشكل متوالٍ الى اكثر من اربع حكايات رئيسية هي على التوالي: حكاية الطفلين المغربيين. حكاية السائحين الامريكيين. حكاية السائح الياباني وابنته الصماء البكماء. ثم حكاية المربية المكسيكية مع طفلي السائحين الامريكيين، وضمن تفاصيل كل واحدة يعثر المشاهد على عدد من الموتيفات القصصية الاصغر والمرتبطة مع الحكاية الاساسية. فيبدو العالم هنا ليس سوى هذه الحكايات الاربع التي تتضاعف الى حكايات اكثر، لا سيما اذا ما اخذنا بالحسبان التنوع اللغوي في الفيلم الذي يقود الى ان اعتبار ان جعبة الحكايات في الفيلم تنفجر لتشكل اختلاطاً ذهنية ونفسية وفكرية قابلة للحصر في عبارة وصفية واحدة: تعدد ثقافات العالم.
على طرف آخر للحكايتين الاوليين تبدأ حكاية الفتاة اليابانية شيكو (رينكو كيكوشي) ابنة السائح الياباني (كوجي ياكوشو) مدير البنك الذي سبق ان انتحرت زوجته قبل اشهر، ويعاني من مشكلة تواصل مع ابنته الصماء البكماء، التي تعاني بدورها من عزلة قاسية بسبب نفور الآخرين من التواصل معها بسبب عاهتها. تتصاعد مشكلتها بعد حادث المغرب وتحاول اقامة علاقة جنسية مع ضابط الشرطة الذي أتى ليسأل والدها عن حقيقةقيامه بإهداء البندقية للفلاح المغربي، في الوقت الذي يرفض فيه الضابط رغباتها،و تنتهي الحكاية اليابانية عند الاب بضم ابنته وكأنه يحاول ان يساعدها كي تتجاوز محنتها.
في المحور الثالث تدور الحكاية الرابعة بين الولايات المتحدة والمكسيك، حكاية المربية المكسيكية اميليا (أدريانا بريزا) التي تحتضن طفلي السائحين الأمريكيين، حيث ينجم عن تأخرهما مأزقها في ضرورة سفرها للمكسيك لحضور حفل زفاف ولدها، ولكنها لا تجد من يبقى مع الصبيين فتغامر بأخذهما بشكل غير قانوني الى بلدها، ويقوم ابن شقيقها (جيل غارسيا برنال) المتهور بنقلها مع الطفلين الذي يتكفل بإعادتها الى الولايات المتحدة وفي العودة يتشاجر مع رجال الامن على الحدود، فيهرب باتجاه الداخل الأمريكي ويقوم بإنزال المربية مع الطفلين في البرية تاركاً اياهم لمصيرهم المجهول، وتعثر الشرطة الامريكية على المربية وتعمل على ترحيلها بحجة مخالفة القانون الامريكي،بينما يضيع الطفلان.
حرفة غونزاليس
يتميز الاشتغال السينمائي للمخرج اليخاندر وغونزاليس اناريتو عن غيره من المخرجين الجدد، بقدرته الخاصة على تحويل المسرود الحكائي الى ضورة طافحة بالحس الانساني، رغم سكونيتها ورغم محدوديتها احياناً، عبر اسلوب خلط الخطوط السردية مع بعضها بحيث يستطيع المشاهد ان يعثر على خطاب الفيلم عبر تشابك خطوط السرد، وليس عبر التركيز على خط واحد دون غيره. ا تبدأ الحكاية الامريكية المكسيكية من نهاية الحكاية الاولى بعدما يتصل السائح الامريكي بالمربية كي يطمئن على اولاده. وتبدأ الحكاية اليابانية من نقطة ضائعة زمنياً في ذات اليوم الذي تجري فيه احداث الحكاية في المغرب، هذا الخلط المسارات والتقطيع المونتاجي غير المبنى على فكرة توازي الاحداث، يقرب من الأزمنة والأمكنة فيما بينها، ليصبح ما يحدث في المكسيك تتمة لما يحدث في المغرب أو في اليابان والعكس بالعكس، وهو بالتالي يجعل من الأشخاص الفاعلين في أمكنة متباعدة جغرافياً متشابهين ومتماثلين عبر تشابه ظروف حياتهم المختلفة، فالفيلم لا يحصر همه في مطابقة الحكايات للخروج بأمثولة واضحة، بل يجعله يخرج بأمثولات مختلفة بحسب اختلاف كل حكاية عن غيرها، وحسب اختلاف كل ثقافة عن غيرها، ثم يوحد بينها العالم الذي يحتوي على التباين.السائح الياباني يعيش في مناخ مختلف عن الفلاح المغربي ويعيش انكساره الذاتي بسبب ظروف حياته التي دفعت بزوجته إلى الانتحار، كما تدفع الظروف النفسية المشابهة بابنته لأن تطلب الجنس بطريقة فجة، بوصفه سبيل للتكافؤ الوجودي مع المحيط الذي تعيش فيه. هذا الانكسار هو ذاته الذي يحكم علاقة المربية المكسيكية مع محيطها الأمريكي والمكسيكي، ولا يمكنها وجودها مع الأطفال لأن تحيا حياتها بشكل سوي كي تذهب إلى عرس ابنها.
ثم إن هذا الانكسار هو ما يرتسم على وجه الراعي المغربي الذي تنفجر أمامه مشكلة ولديه اللذين استخدما البندقية بشكل سيئ وأطلقا النار على الحافلة كما أطلق ابنه وابنته النار عليه نفسياً عبر الممارسات الشاذة التي تجمعها كالتلصص وممارسة العادة السرية وغيرها..!! وفيما يعيش السائحان الأمريكيان حالة انكسار شديدة تجعلهما يذهبان للسياحة في بلد مختلف يظهر الانكسار عبر تململ الزوجة من كل شيء يحيط بها.إذن نحن هنا أمام أشخاص متوحدين عبر الخيبة ولكنهم يعانون من مفاجآت الواقع التي تجعلهم أشبه بالحيوانات الراكضة التي تبحث عن النجاة من مصير محتوم. إنها صورة حقيقية للعالم الذي تتباعد فيه المساحات عبر الجغرافيا ولكنها تضيق في الوقت ذاته وتتقارب لتشكل حبلاً يمسك بأعناق سكانه جميعاً عبر المصير المشترك على هذه الأرض «المستوية تماماً» (..؟).
يجيب إليخاندرو غونزاليس أناريتو في أحد لقاءاته الصحفية عن سؤال يدور حول ظاهرة تتكرر في أفلامه هي إحساس الناس بالانفصال عن أوطانهم فيقول: هم ليسو بالضرورة منفصلين عن أوطانهم بقدر ما هم منفصلين عن أنفسهم.