هل الفكر المتشدد صناعة خارجية ؟!

تركي العسيري

لا أتفق مع من يظن أن الفكر التكفيري المتشدد نبتة «شيطانية» ليس لها جذور في مجتمعنا القائم على الوسطية والتسامح، وأنه فكر دخيل جاء به أناس لا يريدون لهذه البلاد وأهلها خيراً أو استقراراً، والذي يقرأ تاريخ هذه الحركات «التكفيرية» خلال الفترة الزمنية القريبة يلحظ خلاف ذلك. فجماعة «الإخوان» الذين قاتلهم الملك عبدالعزيز «رحمه الله» كانوا يعتنقون فكراً تكفيرياً بالغ التطرف، وجماعة «جهيمان» الذين تحصنوا بالحرم الشريف قبل ربع قرن.. كانت تعتنق فكراً تكفيراً ممعنا في غلوه، وها نحن نرى اليوم «التكفيريين» الجدد يطلون علينا بسحناتهم السوداء، ويعلنون تحديهم للمجتمع، والقيام بأعمال القتل والتدمير وإزهاق الأرواح البريئة دون وازع من ضمير أو دين أو خلق.. فهم نتاج فكر منحرف يسوغ لهم اقتراف ذلك، بل ويهنئ كل «شيطان» يفجر نفسه ويعده بالجنة «وحور العين»!
إذن فمن الخطأ أن نظن أن الفكر التكفيري المتشدد «صناعة» خارجية -كما أراد أن يبين الإرهابيون الصغار الذين أطلوا علينا عبر القناة الأولى في وقت مضى-، لكن الخلاف هنا هو في حجم انتشار هذا الاتجاه في بلادنا. فالمعروف أن هذه النبتة «الشيطانية» قد نبتت بالخطأ في بيئة غير بيئتها الأصلية، ولولا أن قيض «الشيطان» لها بعض غلاة «الإخوان» الذين هربوا من بلادهم خلال فترة الستينيات والتجأوا إلينا لما عاشت هذه النبتة لدينا.. غير أن الأساتذة الإخوانيين الذين احتضناهم، وفتحنا قلوبنا وجامعاتنا لهم.. لم يشاؤوا أن يعلموا ناشئتنا ما يحتاجونه من علوم شرعية تنفعهم في دنياهم وآخرتهم.. بل علموهم كيف يُكفّرون الحكام والمجتمع ويخرجون عليهم. إنني أدين تلك المرحلة، وأعدّها رافداً رئيسياً لما وصلنا إليه اليوم. لقد حمل أولئك الأساتذة فكر «سيد قطب» و«عمر عبدالرحمن» و«المودودي» وغيرهم من أقطاب الفكر المتشدد ومن زعماء مدرسة «التكفير والهجرة» والملفت أن هؤلاء الأساتذة الذين بثوا هذا الفكر في جامعاتنا ومدارسنا، وأصبح لهم تلامذة ومريدون ركزوا تعليم طلابهم كل ما يتعلق بتكفير الحكام والناس، وأغفلوا الجانب الآخر من المعادلة وهي «الهجرة»، فلم يعلموهم كيف يهاجرون من بلادنا -باعتبارها بلاد شرك!- إلى بلاد أخرى تتوافق مع فكرهم ولو فعلوا ذلك لكفونا شرهم وشرارهم. ولما رأينا شبابنا الغر والذين لم يتجاوز بعضهم العشرين ربيعاً، وهم يقودون السيارات المفخخة، و«يتزنرون» بالأحزمة الناسفة.. شبابنا المشاركون في تلك المعارك بدءاً بأفغانستان والشيشان ومروراً بالبوسنة والعراق وانتهاء بـ«النهر البارد» هم ضحايا حقيقيون لرؤوس كبيرة تدفعهم إلى ثقافة الموت والدمار، ليصبحوا بعد ذلك «انتحاريين» موعودين بالجنة وحور العين. ولن ينفع -في تصوري- تراجع «المقدسي» أو «أبوقتادة» أو غيرهما من رموز التكفير في أن يثنوا أحداً عن قناعاته التي تشربوا بها. التأثير الفكري لا يمكن أن يلغى بمجرد أن يطل رمزاً من رموزهم ليُعلن تراجعه عن بعض أقواله.. فقد سرى وتغلغل كما تسري النار في الهشيم. المطلوب مراجعات فكرية.. على غرار مراجعات الجماعات الإسلامية في مصر.. عبر خطة مدروسة تساهم فيها كل الأطراف المعنية. والمطلوب أيضاً أن نكون صرحاء ونسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة أو مجاملة.. وبغيرها يبقى عملنا الحالي في مواجهة هذا الفكر قاصراً.. وبالله التوفيق.
تلفاكس 076221413