عندما يقرأون الاقتصاد بالفنجان

مايكل بوردا *

بعد نحو عقد من التراجع، ينمو الاقتصاد الألماني من جديد، بين عامي 1995 و2005، بلغ معدل النمو الحقيقي 14 في المائة فقط مقارنة بـ32 في المائة في الولايات المتحدة و29 في المملكة المتحدة و21 في فرنسا. قد يبلغ النمو لسنة 2007 ثلاثة في المائة، ويتوقع كثر أن تستمر المعافاة سنوات عدة. وأخيراً يستطيع «رجل أوروبا المريض» مغادرة المستشفى، وأوروبا تتنفس الصعداء. في ألمانيا يحتدم جدل سخيف حول من هو صاحب الفضل في المعافاة الاقتصادية. يعلمنا الاقتصاد الكلي الحديث أن تقلبات الدورة الاقتصادية هي ذروة التأثيرات العشوائية -ضربة حظ جيد لكنها على الأرجح مرتبطة بقرارات مفاجئة وإيجابية في مجال السياسات. على خلفية التوسعات السابقة، من الصعب فكرياً ألا ننسب جزءاً كبيراً من الانخفاض الدراماتيكي في البطالة إلى إصلاحات هارتز التي طبقت قبل ثلاثة أعوام. ويكمن أحد مفاتيح هذا التفسير في أسعار البورصة التي بدأت بالارتفاع في آذار 2003 أي الشهر نفسه الذي أعلن فيه المستشار السابق غيرهارد شرودر عن إصلاحات أجندة 2010 التي أدت في نهاية المطاف إلى اعتماد قوانين هارتز وإلى تغييرات أخرى في سوق العمل الألمانية. وحصل ارتفاع كبير مماثل في سوق البورصة في السنوات التي أعقبت إصلاحات تاتشر في المملكة المتحدة وإجماع واسنار في هولندا في الثمانينات. من يزعمون أن هذه المعافاة هي مجرد «ركوب مجاني» قامت به ألمانيا حيث أفادت مجاناً من إجمالي الطلب في الاقتصاد العالمي المزدهر، يتجاهلون الوقائع، فبين عامي 1995 و2004، زاد النمو الحقيقي للصادرات الألمانية بمعدل أكثر من تسعين في المائة في حين أن الإنتاج نما بمعدل عشرين في المائة فقط. إذا كان من تأثير الطلب على تلك الصادرات، فلا شك في أن الواردات حدت من هذا التأثير حيث زادت بمعدل أكثر من 65 في المائة. وجهة النظر الأكثر منطقية هي أن المانيا بدأت تتكيف مع الضغوط التنافسية التي هي أمر عادي في اتحاد نقدي ذي سوق داخلية حرة، حيث تتخصص في المراحل النهائية للإنتاج والقيمة المضافة بينما تعهد بالمهمات الأقل ربحية إلى جهات خارجية. وقد انتهزت الصناعة الألمانية هذه الفرصة لإجراء إعادة هيكلة، وخفض التكاليف واستعادة التنافسية في سوق عالمية صعبة. نتيجة هذه الظروف، انخفض متوسط تكاليف العمل بمعدل نحو عشرة في المائة، والتضخم هو الأدنى بين جميع بلدان منطقة الأورو منذ إطلاق الاتحاد النقدي عام 1999. بفضل خفض داخلي منضبط لقيمة العملة، تستطيع ألمانيا الآن التنافس من جديد داخل أوروبا وخارجها. يبدو أن البلاد ركبت وأخيراً قطار إصلاحات سوق العمل الموجهة نحو العرض التي أطلقتها قصص النجاح في أوروبا. وينبغي على إيطاليا وفرنسا أن يحذوا حذوها، لكن ألمانيا لم تبلغ بعد المكان الذي يجب أن تكون فيه. مرّ عامان من دون تحقيق مزيد من الإصلاحات الكبرى في سوق العمل والإنتاج- وهكذا فوّتت البلاد فرصة لتحقيق تغيير أعمق في المرحلة الأسهل، أي المرحلة التي يحقق فيها الاقتصاد نمواً. في انتحال لأفكار كارل ماركس (أو إساءة استعمال لها!)، فسّر الاقتصاديون التراجع الأخير بطرق مختلفة: المطلوب هو تغيير الطريقة التي نفكر بها. بالنسبة إليّ، الوقائع حاسمة إلى حد كبير في دعمها للدور الذي يؤدّيه العرض في تفسير المعافاة الأخيرة. بطبيعة الحال، سيرغب صحافيون ونقابيون وصانعو سياسات كثر في ألمانيا في قراءة فنجان القهوة بطريقة مختلفة؛ لا يستطيع أحد حرمانهم هذا الحق، تماماً كما لا يمكن حظر نظرية الخلفية أو حتى حظر القول بأنّ العالم مسطح. أليس جون ماينارد كينز هو من حذّر من أن الأشخاص الذين يظنون أنهم لا يخضعون لأي تأثير فكري هم عادة عبيد عالم اقتصاد ميت ما؟، حسناً فلنأمل أنه في هذه الحالة فقط، كان كلّ من ماركس وكينز على صواب.
* أستاذ الاقتصاد في جامعة هومبولدت الألمانية
عن الموقع الإلكتروني لـ«الفايننشال تايمز»