ابن خلدون كتب المقدمة.. وأسس علم الاجتماع وفلسفة التاريخ
في الذكرى الـ 600 لرحيله
الخميس / 17 / شعبان / 1428 هـ الخميس 30 أغسطس 2007 20:09
«القانون في تميز الحق من الباطل في التاريخ بالأماكن والاستحالة ان ينظر في الاجتماع البشري الذي هو عمران العالم وما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لايعتد به وما لايمكن ان يعرض له، واذا فعلنا ذلك لنا قانون في تمييز الحق من الباطل في الاخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه» ابن خلدون في مقدمته. بصورة عامة يعتبر علم الاستشراق ان الحضارة العربية - الاسلامية يغلب عليها العلوم النقلية وتقديس النص، وانها تفتقد الابداع والتجاوز، أو في أفضل الاحوال ضعيفة في مجال العلوم العقلية التي تتطلب الموضوعية والحيادية، والشك والابتعاد عن العاطفة والهوى، والمواقف الايدلوجية المسبقة.
ومن وجهة نظرهم يعود ذلك الى المرجعية الدينية - الاهوتية الإيمانية المتحكمة والمتأصلة في كافة مناحي حياة العرب - المسلمين المادية والروحية، غير انهم يستثنون فترات وحالات وشخوصا معينين، منوهين بأن جذور بيئتهم ومنحدراتهم الاثنية والحضارية والثقافية (غير العربية)، كان عاملا مهما في تميزهم وعطائهم العلمي. .
نجيب الخنيزي
في كل الاحوال هناك شبه اجماع على الدور الريادي الباهر لابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
وقد كان مرور ستمائة عام على رحيله (1406هـ) بمثابة احتفائية خاصة، حيث نظمت ندوات ودراسات وابحاث شارك فيها مختصون ومراكز ابحاث عربية واجنبية، والمؤسف هو غياب الباحثين والاكاديميين (ولا أقول العلماء نظرا لافتقادنا الفاضح لهم) المتخصصين في التاريخ والاجتماع في بلادنا عن تغطية هذه المناسبة التاريخية المهمة في تاريخ الحضارة العربية - الاسلامية.
ويبدو ان رسوخ الفكر الاحادي الاقصائي، الذي يعتمد النصوص النقلية وتعارضها ومحاربتها العلوم العقلية، ويشهر سلاح التحريم والتفكير ضد مفاهيم الحرية والعقلانية والتنوير في تراثنا، هو من مسببات هذا التردد والاحجام.
ولي الدين ابو زيد عبدالرحمن بن محمد.. ابن خلدون (تصغير خالد) بن الخطاب الحضرمي، ينحدر من اسرة يمنية ارستقراطية، هاجرت الى الاندلس إبان الفتح الاسلامي، واكتسبت مكانة ونفوذا كبيرين في اشبيلية على مدى قرون، وكان من بين بني خلدون كثير من رجال الدولة البارزين، كما كان من بينهم علماء وشعراء، غير انه لما اشتد خطر الاسبان على اشبيلية سنة 1227م اضطرت اسرته للهجرة الى سبتة في تونس عام 1248م (إبان حكم أسرة بني حفص) حيث حظيت هناك بمكانة مرموقة.
ولد ابن خلدون سنة 732هـ الموافق 1332م وبداية تعلمه كانت على يد أبيه (محمد) المعروف بزهده في الوظائف الادارية للدولة، وشغفه بالشعر واللغة والفلسفة، كما تأثر الى حد كبير بملازمة ورعاية شخصيتين متميزتين هما ابو محمد بن عبدالمهيمن الحضرمي عالم الحديث والسيرة والفقة والادب، وابي عبدالله محمد بن ابراهيم الآبلي اكبر اساتذة المغرب آنذاك من المشتغلين بالعلوم العقلية والنقلية في الآن معا.
اشتغل ابن خلدون في بداية ومنتصف حياته بشؤون السياسة، حيث اصبح كبير الأمناء بديوان السلطان، غير انه سرعان ما ترك الوظيفة المرموقة في تونس، اثر تدهور الاوضاع فيها ليستقر في فاس، حيث تسلم منصبا متواضعا في ديوان السلطان.
وقد كتب ابن خلدون عن هذه الفترة انه قبل بهذه الوظيفة «على كره مني اذ كنت لم اعهد مثله لسلفي، وعكفت على النظر والقراءة ولقاء المشيخة اهل المغرب وأهل الاندلس الوافدين في عرض السفارة» وقد نجح لاحقا في اكتساب عطف السلطان ابن عنان الحفصي، فعينه سكرتيرا له وسمح له بالمشاركة في مجالسه ومناظراته العلمية والتوقيع عنه.
وفي تلك الآونة تزوج ابن خلدون من ابنة قائد جيش الحفصيين محمد بن الحكم الذي ينتمي الى واحدة من اشهر الأسر في شمال افريقيا، غير ان جو الدسائس والمكائد السياسية السائد القى به في السجن لمدة واحد وعشرين شهرا، واثر إطلاق سراحه توجه الى غرناطة (في الاندلس) حيث تولى خدمة السلطان محمد الخامس الذي كلفه بمهمة خطيرة، اذ جعله سفيرا عنه في اشبيلية الواقعة تحت سيطرة الملك القاسي بيدرو، وقد نجح ابن خلدون في مهمته الى درجة ان اقترح ابن زرزور الطبيب والمستشار على الملك الاسباني ان يلحق ابن خلدون بخدمته، وان يعده باسترداد جميع الاراضي والثروة المصادرة التي كان يمتلكها اسلافه في اشبيلية، لكن ابن خلدون رفض تنفيذ هذا الاقتراح وفرض يعود ادراجه الى غرناطة، حيث شغل مكانة مرموقة في حاشية السلطان، غير انه تعرض من جديد الى المكائد والتحامل ومن بينهم الوزير ابن الخطيب، الذي ربطته معه صداقة شخصية وفكرية قوية الامر الذي دفعه الى مغادرة اسبانيا عام 1365 متوجها الى بجاية في شمال افريقيا، التي عين فيها في منصب الحاجب الأكبر (السلطة الادارية الكاملة) للأمير أبي عبدالله محمد، واثر مقتل الاخير في اثناء معركة مع ابن عمه ابي العباس حاكم قسنطينة، التحق مضطرا بخدمة الأخير.
لكنه انتهز أول فرصة ليهرب ويلتحق بـ «يعقوب بن علي» زعيم قبيلة الدواويد العربية ثم الى بسكرة، حيث مركز المؤامرات السياسية بين امراء المغرب. في ذلك الوقت (حوالى 1368م) وحين بلغ السادسة والثلاثين من عمره، برزت نقطة التحول في حياة ابن خلدون في ما يتعلق بنشاطه السياسي والعلمي، من خلال اظهار تبرمه وزهده في تقلد المناصب السياسية، وتطلعه الى التفرغ للعلم والمعرفة، وقد كتب في ذلك «متفاديا عن تجشم اهوالها، بما كنت نزعت عن هواية الرتب، وطال عني اغفال العلم، فاعرضت عن الخوض في احوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس» ابن خلدون التعريف.
وفي الواقع فإن مبعث هذا القرار لايعود الى الاحباط وخيبة الامل الذي اعترته فقط، وإنما الى الاضطرابات الداخلية والصراع والتنافس بين الامراء، واتساع الفتن ودسائس رجال البلاط، والضحايا والقتل الذي لم يتوقف مطلقا.
ومع انه استمر في خدمة السلطان عبدالعزيز (1370 - 1372) وقاد بنفسه الجيش المرابط لقبائل الرياحيين، وصار عضوا في مجلس الحاكم في فاس، ومر بتقلبات عدة غير انه شغل كلية العلوم، الا انه قرر الانسحاب تدريجيا من شؤون السياسة.
وفي ربيع 1375م بدأ ابن خلدون يلقي دروسا عامة في مرفأ هنين على ساحل افريقيا، حيث أقام في قلعة ابن سلامة اربعة اعوام، شرع فيها في كتابة سفره الكبير الذي سماه كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» والمستشرقون في كتاباتهم يطلقون على الجزء الاول من كتاب «العبر» مع مقدمة المؤلف «مقدمة في فضل علم التاريخ» العنوان المختصر «المقدمة».
غير ان الاجواء السائدة في شمال افريقيا في تلك الفترة اتسمت بسيطرة رجال الدين المتزمتين والمتعصبين، الذين كانوا بالمرصاد للعلماء الذين يشتغلون بالعلوم العقلية حيث اتهموا (وفي مقدمتهم ابن خلدون) بالكفر والإلحاد، وفي 25 اكتوبر عام 1382 غادر ابن خلدون المغرب الى الابد حيث توجه الى مصر، وأقام في القاهرة والاسكندرية، حيث استقبل بحفاوة بالغة ليس كملحد بل كرجل شريعة، مؤرخ مشهور، وسرعان ما اكتسب ود وتقدير برقوق سلطان مصر، وعين في منصب التدريس بمدرسة القمحية اقدم واضخم مدرسة في مصر، حيث كان يدرس الفقة المالكي، ثم تسنم منصب احد اهم مناصب الدولة، وهو منصب قاضي قضاة المالكية (القاضي الأعلى).
وقد اتخذ ابن خلدون تدابير قاسية لاصلاح جهاز القضاء الذي نخره الفساد، ووصل الى أعلى درجاته، مما ألب عليه المتضررين من المنتفعين، وقد كتب يصف ذلك «وأنا ماض على سبيل من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت اليها، وصلابة العود عن الجاه والاغراض متى غمز بها لامسها، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني الى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الاعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، او دفع الخصوم اذا تعذرت.. وابيت في ذلك كله الى اعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فاصبح الجميع علي ألبا، ولمن ينادي بالتنكير علي أمة.. وغروا بي الخصوم، فتنادوا بالتظلم عند السلطان» وقد استقبل علماء الدين (المحافظون) المصريون مقدمة ابن خلدون استقبالا عدائيا، ووصم من جديد بالجهل بالشريعة، وتحريف علومها، والتي تحمل في مضمونها تهمة الإلحاد.
وهكذا حال المفكرين الاحرار في كل زمان ومكان فقد تعرض ابن خلدون للاضطهاد من قبل القوى المتزمتة والرجعية والظلامية، المتنفذة آنذاك في مصر، على غرار ما حصل له في شمال افريقيا، غير ان شهرة ومكانة ابن خلدون السياسية والدينية والعلمية، انقذته من القتل الذي لم يستطع تلافيه صديقه الوزير والعالم ابن الخطيب في بلاد المغرب.
كما يسجل التاريخ وقوعه في اسر جيش تيمورلنك اثناء فترة حكم السلطان الفرج ابن السلطان برقوق اثناء محاصرة دمشق، وقد نجا من الموت بأعجوبة وبشرف، حيث نال إعجاب الطاغية تيمورلنك، وأمر بترجمة كتابه (المقدمة والعبر) الى اللغة التركية، وسجل ابن خلدون محاوراته معه بالتفصيل في سيرته الذاتية.
قضى ابن خلدون اعوامه الأخيرة في القاهرة، حيث كان يباشر القضاء حتى وفاته في عام 1406 وقيل 1407، ودفن في مقبرة الصوفية بالقرب من باب النصر في مدينة القاهرة.
وسيكون حديثنا القادم عن كتابه الفريد الذي مثل بحق تأسيسا لعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
ومن وجهة نظرهم يعود ذلك الى المرجعية الدينية - الاهوتية الإيمانية المتحكمة والمتأصلة في كافة مناحي حياة العرب - المسلمين المادية والروحية، غير انهم يستثنون فترات وحالات وشخوصا معينين، منوهين بأن جذور بيئتهم ومنحدراتهم الاثنية والحضارية والثقافية (غير العربية)، كان عاملا مهما في تميزهم وعطائهم العلمي. .
نجيب الخنيزي
في كل الاحوال هناك شبه اجماع على الدور الريادي الباهر لابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
وقد كان مرور ستمائة عام على رحيله (1406هـ) بمثابة احتفائية خاصة، حيث نظمت ندوات ودراسات وابحاث شارك فيها مختصون ومراكز ابحاث عربية واجنبية، والمؤسف هو غياب الباحثين والاكاديميين (ولا أقول العلماء نظرا لافتقادنا الفاضح لهم) المتخصصين في التاريخ والاجتماع في بلادنا عن تغطية هذه المناسبة التاريخية المهمة في تاريخ الحضارة العربية - الاسلامية.
ويبدو ان رسوخ الفكر الاحادي الاقصائي، الذي يعتمد النصوص النقلية وتعارضها ومحاربتها العلوم العقلية، ويشهر سلاح التحريم والتفكير ضد مفاهيم الحرية والعقلانية والتنوير في تراثنا، هو من مسببات هذا التردد والاحجام.
ولي الدين ابو زيد عبدالرحمن بن محمد.. ابن خلدون (تصغير خالد) بن الخطاب الحضرمي، ينحدر من اسرة يمنية ارستقراطية، هاجرت الى الاندلس إبان الفتح الاسلامي، واكتسبت مكانة ونفوذا كبيرين في اشبيلية على مدى قرون، وكان من بين بني خلدون كثير من رجال الدولة البارزين، كما كان من بينهم علماء وشعراء، غير انه لما اشتد خطر الاسبان على اشبيلية سنة 1227م اضطرت اسرته للهجرة الى سبتة في تونس عام 1248م (إبان حكم أسرة بني حفص) حيث حظيت هناك بمكانة مرموقة.
ولد ابن خلدون سنة 732هـ الموافق 1332م وبداية تعلمه كانت على يد أبيه (محمد) المعروف بزهده في الوظائف الادارية للدولة، وشغفه بالشعر واللغة والفلسفة، كما تأثر الى حد كبير بملازمة ورعاية شخصيتين متميزتين هما ابو محمد بن عبدالمهيمن الحضرمي عالم الحديث والسيرة والفقة والادب، وابي عبدالله محمد بن ابراهيم الآبلي اكبر اساتذة المغرب آنذاك من المشتغلين بالعلوم العقلية والنقلية في الآن معا.
اشتغل ابن خلدون في بداية ومنتصف حياته بشؤون السياسة، حيث اصبح كبير الأمناء بديوان السلطان، غير انه سرعان ما ترك الوظيفة المرموقة في تونس، اثر تدهور الاوضاع فيها ليستقر في فاس، حيث تسلم منصبا متواضعا في ديوان السلطان.
وقد كتب ابن خلدون عن هذه الفترة انه قبل بهذه الوظيفة «على كره مني اذ كنت لم اعهد مثله لسلفي، وعكفت على النظر والقراءة ولقاء المشيخة اهل المغرب وأهل الاندلس الوافدين في عرض السفارة» وقد نجح لاحقا في اكتساب عطف السلطان ابن عنان الحفصي، فعينه سكرتيرا له وسمح له بالمشاركة في مجالسه ومناظراته العلمية والتوقيع عنه.
وفي تلك الآونة تزوج ابن خلدون من ابنة قائد جيش الحفصيين محمد بن الحكم الذي ينتمي الى واحدة من اشهر الأسر في شمال افريقيا، غير ان جو الدسائس والمكائد السياسية السائد القى به في السجن لمدة واحد وعشرين شهرا، واثر إطلاق سراحه توجه الى غرناطة (في الاندلس) حيث تولى خدمة السلطان محمد الخامس الذي كلفه بمهمة خطيرة، اذ جعله سفيرا عنه في اشبيلية الواقعة تحت سيطرة الملك القاسي بيدرو، وقد نجح ابن خلدون في مهمته الى درجة ان اقترح ابن زرزور الطبيب والمستشار على الملك الاسباني ان يلحق ابن خلدون بخدمته، وان يعده باسترداد جميع الاراضي والثروة المصادرة التي كان يمتلكها اسلافه في اشبيلية، لكن ابن خلدون رفض تنفيذ هذا الاقتراح وفرض يعود ادراجه الى غرناطة، حيث شغل مكانة مرموقة في حاشية السلطان، غير انه تعرض من جديد الى المكائد والتحامل ومن بينهم الوزير ابن الخطيب، الذي ربطته معه صداقة شخصية وفكرية قوية الامر الذي دفعه الى مغادرة اسبانيا عام 1365 متوجها الى بجاية في شمال افريقيا، التي عين فيها في منصب الحاجب الأكبر (السلطة الادارية الكاملة) للأمير أبي عبدالله محمد، واثر مقتل الاخير في اثناء معركة مع ابن عمه ابي العباس حاكم قسنطينة، التحق مضطرا بخدمة الأخير.
لكنه انتهز أول فرصة ليهرب ويلتحق بـ «يعقوب بن علي» زعيم قبيلة الدواويد العربية ثم الى بسكرة، حيث مركز المؤامرات السياسية بين امراء المغرب. في ذلك الوقت (حوالى 1368م) وحين بلغ السادسة والثلاثين من عمره، برزت نقطة التحول في حياة ابن خلدون في ما يتعلق بنشاطه السياسي والعلمي، من خلال اظهار تبرمه وزهده في تقلد المناصب السياسية، وتطلعه الى التفرغ للعلم والمعرفة، وقد كتب في ذلك «متفاديا عن تجشم اهوالها، بما كنت نزعت عن هواية الرتب، وطال عني اغفال العلم، فاعرضت عن الخوض في احوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس» ابن خلدون التعريف.
وفي الواقع فإن مبعث هذا القرار لايعود الى الاحباط وخيبة الامل الذي اعترته فقط، وإنما الى الاضطرابات الداخلية والصراع والتنافس بين الامراء، واتساع الفتن ودسائس رجال البلاط، والضحايا والقتل الذي لم يتوقف مطلقا.
ومع انه استمر في خدمة السلطان عبدالعزيز (1370 - 1372) وقاد بنفسه الجيش المرابط لقبائل الرياحيين، وصار عضوا في مجلس الحاكم في فاس، ومر بتقلبات عدة غير انه شغل كلية العلوم، الا انه قرر الانسحاب تدريجيا من شؤون السياسة.
وفي ربيع 1375م بدأ ابن خلدون يلقي دروسا عامة في مرفأ هنين على ساحل افريقيا، حيث أقام في قلعة ابن سلامة اربعة اعوام، شرع فيها في كتابة سفره الكبير الذي سماه كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» والمستشرقون في كتاباتهم يطلقون على الجزء الاول من كتاب «العبر» مع مقدمة المؤلف «مقدمة في فضل علم التاريخ» العنوان المختصر «المقدمة».
غير ان الاجواء السائدة في شمال افريقيا في تلك الفترة اتسمت بسيطرة رجال الدين المتزمتين والمتعصبين، الذين كانوا بالمرصاد للعلماء الذين يشتغلون بالعلوم العقلية حيث اتهموا (وفي مقدمتهم ابن خلدون) بالكفر والإلحاد، وفي 25 اكتوبر عام 1382 غادر ابن خلدون المغرب الى الابد حيث توجه الى مصر، وأقام في القاهرة والاسكندرية، حيث استقبل بحفاوة بالغة ليس كملحد بل كرجل شريعة، مؤرخ مشهور، وسرعان ما اكتسب ود وتقدير برقوق سلطان مصر، وعين في منصب التدريس بمدرسة القمحية اقدم واضخم مدرسة في مصر، حيث كان يدرس الفقة المالكي، ثم تسنم منصب احد اهم مناصب الدولة، وهو منصب قاضي قضاة المالكية (القاضي الأعلى).
وقد اتخذ ابن خلدون تدابير قاسية لاصلاح جهاز القضاء الذي نخره الفساد، ووصل الى أعلى درجاته، مما ألب عليه المتضررين من المنتفعين، وقد كتب يصف ذلك «وأنا ماض على سبيل من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت اليها، وصلابة العود عن الجاه والاغراض متى غمز بها لامسها، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني الى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الاعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، او دفع الخصوم اذا تعذرت.. وابيت في ذلك كله الى اعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فاصبح الجميع علي ألبا، ولمن ينادي بالتنكير علي أمة.. وغروا بي الخصوم، فتنادوا بالتظلم عند السلطان» وقد استقبل علماء الدين (المحافظون) المصريون مقدمة ابن خلدون استقبالا عدائيا، ووصم من جديد بالجهل بالشريعة، وتحريف علومها، والتي تحمل في مضمونها تهمة الإلحاد.
وهكذا حال المفكرين الاحرار في كل زمان ومكان فقد تعرض ابن خلدون للاضطهاد من قبل القوى المتزمتة والرجعية والظلامية، المتنفذة آنذاك في مصر، على غرار ما حصل له في شمال افريقيا، غير ان شهرة ومكانة ابن خلدون السياسية والدينية والعلمية، انقذته من القتل الذي لم يستطع تلافيه صديقه الوزير والعالم ابن الخطيب في بلاد المغرب.
كما يسجل التاريخ وقوعه في اسر جيش تيمورلنك اثناء فترة حكم السلطان الفرج ابن السلطان برقوق اثناء محاصرة دمشق، وقد نجا من الموت بأعجوبة وبشرف، حيث نال إعجاب الطاغية تيمورلنك، وأمر بترجمة كتابه (المقدمة والعبر) الى اللغة التركية، وسجل ابن خلدون محاوراته معه بالتفصيل في سيرته الذاتية.
قضى ابن خلدون اعوامه الأخيرة في القاهرة، حيث كان يباشر القضاء حتى وفاته في عام 1406 وقيل 1407، ودفن في مقبرة الصوفية بالقرب من باب النصر في مدينة القاهرة.
وسيكون حديثنا القادم عن كتابه الفريد الذي مثل بحق تأسيسا لعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ.