سباق المبادرات وصراع الإرادات

د. طلال صالح بنان

تتوالى، هذه الأيام، تحركات نشطة، على المستوى الدولي والإقليمي، من أجل الاستعداد لمؤتمر السلام الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي جورج بوش الخريف المقبل. هناك اتصالات على مستوى القمة بين الدول العربية المعنية مباشرةً بتفعيل مبادرة السلام العربية، وفقاً لمقررات قمة الرياض. الملك عبدالله الثاني التقى الملك عبدالله بن عبد العزيز في جدة يوم الجمعة الماضي، ومن المقرر أن يزور شرم الشيخ اليوم للقاء الرئيس حسني مبارك. وزراء الخارجية العرب يعقدون اجتماعاً تشاورياً اليوم في مقر الجامعة العربية في القاهرة تمهيداً لاجتماعهم الرسمي غداً. وزير الخارجية البريطاني السابق والمبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية توني بلير يزور، هذه الأيام المنطقة، استعداداً للمؤتمر الدولي المنتظر.
هناك مبادرتان مطروحتان كأساس لأي تسوية سلمية يمكن أن تتمخض عن المؤتمر الدولي. خارطة الطريق التي تتبناها اللجنة الرباعية الدولية، التي تتكلم عن حل يقوم على إقامة دولتين فلسطينية (متصلة وقابلة للحياة ضمن حدود الرابع من يونيو 1967) وأخرى يهودية، تقتسمان أرض فلسطين التاريخية. ومبادرة السلام العربية، التي تقوم على دعامتين أساسيتين: استعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة، ثم تطبيع شامل للعلاقات العربية الإسرائيلية.
بالقطع هناك تناقض بين المبادرتين. خارطة الطريق تتكلم عن حل على مستوى الأزمة الجزئي (المايكرو)، في بعدها الإسرائيلي الفلسطيني. بينما مبادرة السلام العربية أكثر شمولية، بحيث تتصور حلاً نهائياً للأزمة يقوم أساساً على فرضية وضع حدٍ للصراع العربي الإسرائيلي، على مستوى الأزمة الكلي (الماكرو)، بين الدول العربية وإسرائيل.
هناك تناقض آخر بين المبادرتين على مستوى نظرة أطراف الصراع المباشرين وغير المباشرين لتصور «سيناريو» الحل. مشروع خارطة الطريق يقوم على فرضية اختزال الأزمة على أنها في الأساس صراع إسرائيلي فلسطيني، متى تمت عملية تسويته وفقاً لحقائق توازن القوى بين الجانبين وتلك التي تتفاعل على الأرض، فإن أزمة الشرق الأوسط سوف تنتهي، عملياً، وفقاً لنظرية إسرائيل التوسعية..!؟ مبادرة السلام العربية، من ناحية أخرى، يلحق بها هدف استراتيجي بعيد المدى لتحييد تطلعات إسرائيل للهيمنة الإقليمية، في المنطقة.
مشكلة أخرى تعكس تناقضاً واضحاً، وحتى مؤثراً في قياس مدى إمكانية الأخذ بأيٍ من المشروعين المطروحين أمام مؤتمر السلام القادم. من الناحية السياسية يتمتع مشروع خارطة الطريق، إذا ما افترضنا تراجع إسرائيل عن التحفظات تجاهه، بثقل سياسي ظاهر في مواجهة مبادرة السلام العربية. بعيداً عن الإجماع العربي على مبادرة السلام العربية وما يمكن أن تحصل عليه من تعاطف من قوى إقليمية ودولية معروفة بنصرتها للحق العربي، تفتقر مبادرة السلام العربية إلى قبول سياسي بمنطقها ودوافعها من قبل أطراف مشروع خارطة الطريق، عدا القبول باعتبارها مشروعاً مطروحاً على بساط البحث في أي لقاء دولي، دون التزام صريح بالمعادلة التي تتضمنها للتسوية. الولايات المتحدة، رسمياً لم تؤيد مبادرة السلام العربية أو حتى ترحب بها.. نفس الموقف ــ تقريباً ـــ يتبناه الاتحاد الأوربي.. حتى روسيا، المعروفة بتأييدها للموقف العربي، تفضل أن تعمل من خلال مشروع خارطة الطريق.. الأمم المتحدة تبدو أكثر من مستعدة لتجاوز البعد القانوني والأخلاقي للأزمة التي تحكمه قرارات دولية ملزمة، مقابل تشجيع أي حل يقوم على معطيات الأزمة كما يفرضها واقع توازن القوى بين الأطراف المعنية والحقائق المفروضة على مسرح الأحداث.
ويبقى العامل الحاسم في فرض مشروع مبادرة السلام العربية كبديل عملي لحل الأزمة، لا يُفْتَرَض أنه يتعارض مع مشروع خارطة الطريق، في التصميم العربي على التعامل مع الأزمة في إطارها الكلي.
إلى الآن يمكن القول ان الموقف العربي يعكس هذا التصميم تجاه تطوير حالة من السلام الحقيقي في المنطقة، يأتي على المشكلة من جذورها، طالما أن العرب مصرون على مبادرتهم السلمية، وفقاً لترتيب عناصر معلدلتها، بأن يكون التطبيع مع إسرائيل، بعد تحقيق أهداف العرب الاستراتيجية من إدارة الصراع المتمثلة في استعادة الأراضي العربية المحتلة.. واستيفاء حقوق الشعب الفلسطيني كاملة في قيام دولته المستقلة المتصلة القابلة للحياة، وإيجاد حل عادل منصف لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بضمان حق العودة لهم أو تعويضهم بما يرفع ظلم إقامة إسرائيل على أرضهم.
مؤتمر السلام، إن عُقد وإلى أن يُعقد، لن يخرج عن كونه حلبة لصراع الإرادات ومضماراً لتنافس المبادرات. المهم أن تنتصر، في النهاية، إرادة السلام... وهذا لن يتحقق إلا إذا تمسك العربُ بمبادرتهم وفقاً لترتيب أولويات معادلتها.