مفهوم «حدود القوة» كما يتجلى في الأزمة التركية- العراقية
الثلاثاء / 11 / شوال / 1428 هـ الثلاثاء 23 أكتوبر 2007 19:36
توفيق السيف
يعرف الاتراك ان دخول العراق ليس كالخروج منه. وهذه احدى مفارقات السياسة. دول مدججة بالسلاح تعجز عن حماية اراضيها، ودول بحكومات مهلهلة تعيد الغازي الى بلاده مجللا بالهزيمة والعار. في نهاية 1991 ارسلت واشنطن قوات المارينز لفرض السلام على الميليشيات المتقاتلة في الصومال بعد سقوط حكومته. لكن هذه الميليشيات نفسها الحقت الهزيمة بقوات الدولة العظمى واخرجتها. وفي 2006 اجتاحت القوات الاسرائيلية جنوب لبنان الذي تقوده حكومة مهلهلة، ونعرف ماذا جرى بعد تلك الغزوة. ونعرف ايضا ان الجيش السوفيتي قد اجبر في 1989على الخروج من افغانستان على يد ميليشيات بسيطة التسليح والتدريب. وعلى العكس من ذلك فان الجيش التركي قام في عقد التسعينات اي في ظل صدام حسين وحكومته الجبارة باربع عمليات كبيرة في شمال العراق وخرج منها منتصرا، دون ان ينتظر موافقة احد.
الواضح ان الحكومة التركية مترددة اليوم في اتخاذ قرار نهائي باجتياح كردستان العراق، او انها على الاقل لا تعتبر الاجتياح خيارا فوريا، رغم التفويض القوي من قبل البرلمان وضغط الشارع. خلال الاسبوع الجاري تحدث المراقبون عن عملية محدودة تتمثل في قصف مدفعي وضربات جوية، خلافا لما كان متصورا في اواخر رمضان حين حشدت ثلاث فرق قتالية قرب الحدود العراقية. والمفهوم ان القصف الجوي والمدفعي يستهدف في المقام الاول الضغط على حكومة اقليم كردستان ولا يحقق الهدف المعلن اي استئصال ميليشيات حزب العمال. عملية كهذه لن تكون جراحة على الساخن كما يقال، بل جزء من عملية تفاوض سياسي مع اكراد العراق.
رغم الوضع السياسي والامني الضعيف في العراق، الا ان جميع الاطراف تخشى جديا من انفراط كامل في المنطقة الشمالية. تستطيع حكومة اقليم كردستان تقديم ضمانات بالتعاون الكامل في تجميد حزب العمل ومنع مقاتليه من اتخاذ اراضيها كمنطلق لعملياتهم ضد تركيا، وربما تحصل على دعم القوات الامريكية والحكومة الايرانية التي تواجه نفس المشكلة على حدودها الغربية. لكنها لا تستطيع الدخول في معركة شاملة مع ذلك الحزب. لان معركة كهذه سوف تضعف شرعيتها السياسية كممثل للطموحات القومية للشعب الكردي. طيلة القرن الماضي تعرض الاكراد لقمع منظم على يد الحكومات المجاورة، فتضاءلت الهوية الوطنية وتعززت الرابطة العرقية-القومية كجوهر لهوية الفرد الكردي. القمع المزمن حول الهوية الكردية الى تضامن اجتماعي داخلي وارتباط بارض كردستان وليس بالدولة الوطنية القائمة، وهذا هو السبب الذي يجعل اكراد العراق حريصين على استقلالية اقليمهم رغم انزعاج العرب، وهو نفسه السبب وراء استمرار حزب العمال في محاربة تركيا رغم اعلان زعيمه عبد الله اوجلان في 1999 عن انهاء العمليات المسلحة.
اذا دخل الجيش التركي فسوف تضطر حكومة كردستان العراق الى مقاومته او غض النظر عن مقاومة شعبية له. وعندئذ فان هذا الجيش سيضطر الى خوض عمليات غير تلك التي اعتادها في ظل حكومة صدام حسين. واذا طال امد الحرب فربما تنتشر الى الجنوب التركي، الامر الذي يحبط كثيرا من انجازات الحكومات التركية المتعاقبة، التي اثمرت حتى الان عن تخفيف ملموس للتوتر في هذه المنطقة.
الى ذلك فان الامريكيين يخشون جديا من انهيار التنظيم السياسي – الامني القائم في شمال العراق، لانهم سيضطرون حينها الى نشر قوات اضافية هناك، في الوقت الذي تتصاعد الضغوط لسحب جزء من القوات المرابطة في الوسط والجنوب. على صعيد الداخل العراقي فان تهديد تركيا بعمليات عسكرية سوف يؤثر جديا على الجدل الدائر حول مصير مدينة كركوك، التي ينظر اليها الاتراك كمركز للتركمان العراقيين، حلفائهم الطبيعيين في مواجهة الاكراد، بينما يريد هؤلاء ضمها الى كردستان. وثمة اتفاق سابق بان يحسم مصير المدينة قبل نهاية العام الجاري. وبالطبع فانه لا يمكن للاكراد تجاهل الانعكاسات السياسية للتهديد التركي على وضع كركوك.
المشهد الحالي يكشف بجلاء عما يسمى في علم السياسة بحدود القوة. الاتراك يريدون الحرب لكن الامر ليس بيدهم تماما، الاكراد يريدون كركوك، لكنهم يخشون من رد فعل تركي، الامريكيون يريدون تأمين كردستان لكن الضغوط السياسية الداخلية تمنعهم من ارسال قوات كبيرة اليها. اي ان الاقوياء جميعا غير قادرين على الحسم. مفهوم «حدود القوة» هذا هو الذي يجبر الناس على اللجوء الى المفاوضات والوساطات والبحث عن صفقات متوازنة، باعتبارها المخرج الوحيد الممكن من الازمة.
talsaif@yahoo.com
الواضح ان الحكومة التركية مترددة اليوم في اتخاذ قرار نهائي باجتياح كردستان العراق، او انها على الاقل لا تعتبر الاجتياح خيارا فوريا، رغم التفويض القوي من قبل البرلمان وضغط الشارع. خلال الاسبوع الجاري تحدث المراقبون عن عملية محدودة تتمثل في قصف مدفعي وضربات جوية، خلافا لما كان متصورا في اواخر رمضان حين حشدت ثلاث فرق قتالية قرب الحدود العراقية. والمفهوم ان القصف الجوي والمدفعي يستهدف في المقام الاول الضغط على حكومة اقليم كردستان ولا يحقق الهدف المعلن اي استئصال ميليشيات حزب العمال. عملية كهذه لن تكون جراحة على الساخن كما يقال، بل جزء من عملية تفاوض سياسي مع اكراد العراق.
رغم الوضع السياسي والامني الضعيف في العراق، الا ان جميع الاطراف تخشى جديا من انفراط كامل في المنطقة الشمالية. تستطيع حكومة اقليم كردستان تقديم ضمانات بالتعاون الكامل في تجميد حزب العمل ومنع مقاتليه من اتخاذ اراضيها كمنطلق لعملياتهم ضد تركيا، وربما تحصل على دعم القوات الامريكية والحكومة الايرانية التي تواجه نفس المشكلة على حدودها الغربية. لكنها لا تستطيع الدخول في معركة شاملة مع ذلك الحزب. لان معركة كهذه سوف تضعف شرعيتها السياسية كممثل للطموحات القومية للشعب الكردي. طيلة القرن الماضي تعرض الاكراد لقمع منظم على يد الحكومات المجاورة، فتضاءلت الهوية الوطنية وتعززت الرابطة العرقية-القومية كجوهر لهوية الفرد الكردي. القمع المزمن حول الهوية الكردية الى تضامن اجتماعي داخلي وارتباط بارض كردستان وليس بالدولة الوطنية القائمة، وهذا هو السبب الذي يجعل اكراد العراق حريصين على استقلالية اقليمهم رغم انزعاج العرب، وهو نفسه السبب وراء استمرار حزب العمال في محاربة تركيا رغم اعلان زعيمه عبد الله اوجلان في 1999 عن انهاء العمليات المسلحة.
اذا دخل الجيش التركي فسوف تضطر حكومة كردستان العراق الى مقاومته او غض النظر عن مقاومة شعبية له. وعندئذ فان هذا الجيش سيضطر الى خوض عمليات غير تلك التي اعتادها في ظل حكومة صدام حسين. واذا طال امد الحرب فربما تنتشر الى الجنوب التركي، الامر الذي يحبط كثيرا من انجازات الحكومات التركية المتعاقبة، التي اثمرت حتى الان عن تخفيف ملموس للتوتر في هذه المنطقة.
الى ذلك فان الامريكيين يخشون جديا من انهيار التنظيم السياسي – الامني القائم في شمال العراق، لانهم سيضطرون حينها الى نشر قوات اضافية هناك، في الوقت الذي تتصاعد الضغوط لسحب جزء من القوات المرابطة في الوسط والجنوب. على صعيد الداخل العراقي فان تهديد تركيا بعمليات عسكرية سوف يؤثر جديا على الجدل الدائر حول مصير مدينة كركوك، التي ينظر اليها الاتراك كمركز للتركمان العراقيين، حلفائهم الطبيعيين في مواجهة الاكراد، بينما يريد هؤلاء ضمها الى كردستان. وثمة اتفاق سابق بان يحسم مصير المدينة قبل نهاية العام الجاري. وبالطبع فانه لا يمكن للاكراد تجاهل الانعكاسات السياسية للتهديد التركي على وضع كركوك.
المشهد الحالي يكشف بجلاء عما يسمى في علم السياسة بحدود القوة. الاتراك يريدون الحرب لكن الامر ليس بيدهم تماما، الاكراد يريدون كركوك، لكنهم يخشون من رد فعل تركي، الامريكيون يريدون تأمين كردستان لكن الضغوط السياسية الداخلية تمنعهم من ارسال قوات كبيرة اليها. اي ان الاقوياء جميعا غير قادرين على الحسم. مفهوم «حدود القوة» هذا هو الذي يجبر الناس على اللجوء الى المفاوضات والوساطات والبحث عن صفقات متوازنة، باعتبارها المخرج الوحيد الممكن من الازمة.
talsaif@yahoo.com