كل شيء تزداد قيمته إلا الإنسان

وليد احمد فتيحي

كلما سمعت من يقول بأن الغلاء قد استشرى وكل شيء زادت قيمته وارتفع سعره، دار في خلدي حديث النفس للنفس فأجيب نفسي قائلاً.. نعم كل شيء زادت قيمته إلاَّ الإنسان، ومع الأيام وعلى كثرة ما أرى من تناقضات بدأ يترسخ عندي هذا الاعتقاد. ولأقدم للقارئ الكريم دليلاً واقعيّاً حيّاً لا يقبل الجدل أو المناقشة، فانني سأعرض مثالاً واحداً من صُلب تخصصي «الصحة» ولينظر كل منا في مجال تخصصه ليجد أمثله أخرى واقعية تدعم الحقيقة المأساوية التي نعيشها وهي أن كل شيء تزداد قيمته إلاَّ الانسان.
ولكي تكون المقارنة موضوعية فإنني سأدعم مقارنتي بالأرقام التي لا تقبل الشك أو التخمين، ومثالي هنا هو عن «التأمين» فالتأمين يعكس دائماً قيمة الأشياء، فكلما ازدادت قيمة الشيء ازدادت تكلفة تأمينه، فالثمين الغالي تكلفة تأمينه عالية وباهظة، والرخيص الزهيد تكلفة تأمينه منخفضة ومتواضعة، وعند النظر في تكلفة التأمين الصحي للإنسان «أقدس ما في الأرض وأثمنه وأغلاه والذي خُلقت السموات والأرض من أجله» مقارنة بالتأمين الصحي للسيارة «وسيلة المواصلات والتي صنعها الإنسان من حديد»، نجد ان التأمين الصحي للفرد لدى شركات التأمين في بلادنا تتراوح ما بين 800 إلى 3000 ريال سعودي في السنة وقد تزداد أو تنقص قليلاً عن هذه الأرقام على حسب نوع التغطية والبطاقة التي لها تصنيفات تختلف من شركة إلى أخرى، وأسماء مختلفة مثل البطاقة الخضراء والفضية والذهبية وغيرها. نعم.. تأمين إنسان بلحمه ودمه وعظمه بثمانمائة ريال فقط في السنة..
بل وتأمين رئيس تنفيذي ورئيس مجلس إدارة أكبر شركات في بلادنا في كثير من الأحيان أقل من ثلاثة آلاف ريال فقط في السنة.. في حين أن تأمين أرخص سيارة يتعدى ثلاثة آلاف ريال في السنة..
ولكي أقرِّب المعنى أكثر.. فقد يكون التأمين الصحي السنوي لرئيس تنفيذي لشركة من شركات السيارات مع أفضل شركات التأمين الصحي في بلادنا أقل تكلفة من تأمين أرخص سيارة يبيعها في شركته!!.
لدى الأمم الواعية المُدركة لقيمة الإنسان في بناء الحضارة تجد أن موارد المجتمع تصب في الصحة والتعليم، فتجد العائلة في هذه الدول والمجتمعات تسعى لتوفير أفضل تأمين صحي وتعليم لأبنائها ومن ثم تنفق ما تبقى على البيت والسيارة والمأكل والمشرب والملبس والكماليات بصورها المختلفة.
أما المجتمعات المتأخرة فتنقلب عندها الموازين فتبدأ بالبيت والسيارة والتلفاز والتليفونات الثابتة والجوال واللباس والأكل والشراب والترفيه ثم ينفق ما تبقى في التعليم، أما أمر الصحة «فلا يُحسب لها أي حساب»، ويوم يأتي المرض يبدأ السؤال من هنا وهناك وطلب المساعدة لتغطية مصاريف العلاج.
عائلة كاملة مكونة من خمسة أفراد تأمينها الصحي في العام كله أقل من تكلفة فواتير الجوالات النقالة سنوياً لمجموع أفراد العائلة نفسها.
وبهذه المعادلة الصعبة تضع كثير من شركات التأمين الضغط على الأطباء أن يروا عدداً كبيراً من المرضى بأسعار زهيدة تصل إلى 50 ريالاً سعودياً وأقل للزيارة الواحدة، أي بمعنى آخر يُدفع للطبيب أقل من الحلاَّق.
وهنا يأتي التحدي الكبير عند الأطباء ذوي الضمائر الحية، والمستشفيات التي لا تقبل أن تنزلق إلى هذا المنزلق الخطير، والتي تعطي لكل مريض حقه في الوقت الذي يصل إلى قرابة الساعة الكاملة للزيارة الأولى، كيف يكون لهؤلاء أن يرضوا ضمائرهم ويتقنوا عملهم ويقدموا جودة عالية في الرعاية الصحية، فاذا أعطي الطبيب ساعته التي يحتاجها المريض لتحقيق دقة التشخيص والعلاج لكان تعويض شركات التأمين لهذه الزيادة بعد أشهر طوال ومماطلة أقل بكثير من ساعة الحلاَّق والذي يُدفع له آنياً بل وقبل الحلاقة في بعض الاحيان، واني لا أُحقِّرُ هنا من مهنة الحلاقة ولكن الطبيب الذي يتعامل مع أخطر وأثمن ما في الأرض وأنفق عمره لتحصيل هذا العلم الشاق لن يكون مرتبه الشهري مثل مرتب الحلاَّق، وهذا شيء مفروغ منه ومُسلَّم به وبديهي، ولا يستحق التبرير على الإطلاق.
ولكي لا نذهب بعيداً نجد أن شركات التأمين الصحي في دبي تدفع من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف ما يُدفع لعلاج المريض في بلادنا، وقيمة ساعة الطبيب في البلاد المتحضرة أضعاف قيمتها في البلاد الأخرى، ثم نتساءل بعد كل هذا لم تتدهور الخدمات الصحية.. فهل لي الحق أن أعتقد بأن كل شيء زادت قيمته إلاَّ الإنسان؟!..
أترك الإجابة للقارئ الكريم.
* طبيب استشاري ورئيس مجلس إدارة المركز الطبي الدولي
فاكس: 6509659 - okazreaders@imc.med.sa