الباب يكشف أسرار تجربة العصيمي القلقة

قراءة : سعيد الزهراني

تعمدت ترك عدد ما سأتناوله من التجارب مبهما ، أولا/ حسب الظروف، وثانيا/ فقد لا تحفزني مغامرتي الأولى للاستمرار، وثالثا/ فربما أن هناك تجارب تنتمي الى الطائف لم أضعها في الحسبان لجهلي بها، فالتجارب التي أعلم بانتمائها وفقا لهذه الصفة للشعراء الحميدي الثقفي، صالح العلاوة، عبدالله الحارثي، عيضة السفياني وهي التي قررت مبدئيا قراءتها بالإضافة إلى تجربة الشاعر عواض العصيمي كبداية لهذه القراءات. رغم عدم قناعتي بأن هناك علاقة بين المكان والظواهر التي تشهدها منطقة دون أخرى، إلا أن الظاهرة الشعرية التي فرضت نفسها على أبناء الطائف، تشير إلى أن هناك ما يجعلها متفردة عن غيرها ويميز شعراءها عن الآخرين. قد أكون متجاوزا في هذه الرؤية، ولكنها لا تعني منح الطائف خصوصية معينة، فمن الإجحاف ربط تميز الأفراد بالبيئة أو المحيط الاجتماعي، لأن الطبيعة والفكر الجمعي لا يختلفان في أي منطقة من بلادنا إلا في أنماط فرعية ومحدودة جدا، كما أن موهبة نظم الشعر مرتبطة بالفطرة، فما يمنحه الله لعبيد يهبه لزيد، ولذلك فلا سبيل لحصر تأثير المعطيات العامة في نطاق جغرافي دون آخر لمجرد تفوق أفراده في مجال محدد.
الواقع يشير إلى وجود عوامل فردية خاصة جعلت من أغلب شعراء الطائف رموزا في الساحة الشعبية وروادا للشعر الحديث، ويمكن القول إن هناك دافعا ذاتيا للحرص على التفوق والتميز عن الآخرين، ولو نظرنا لتجارب هؤلاء الشعراء فلن نجد في نصوصهم ما يسمى البدايات، وكأنها ولدت كاملة وناضجة وجاهزة للظهور، ولا يعني ذلك أن كل ما كتبه هؤلاء يحمل المواصفات نفسها من حيث القوة والجمال، ولكن ورغم حرصهم على التواصل الإعلامي إلا أن بحثهم عن التميز دفعهم إلى التريث في نشر قصائدهم للملأ حتى يجدوا ما يحقق لهم الظهور المشرف.
وتبقى الوسيلة التي تحقق هذا الهدف وتظهر من خلال آراء وكتابات الشعراء أنفسهم وتشير إلى اقتران أهدافهم بالعمل وتهيئة كل الوسائل لتحقيقها، وما توافر لدي من هذه الآراء قليل ولكنه مهم جدا، فهو لأبرز رمزين من شعراء الطائف، فقد قرأت رأيا للشاعر الحميدي الثقفي يشير فيه إلى أهمية القراءة في صقل الموهبة الشعرية ، كما تعزز كتابات الشاعر عواض العصيمي هذا الرأي ليشمل تأثير القراءة مجالات الكتابة الأدبية بشكل عام وظهر ذلك في كتابات العصيمي واضحا وهو يستشهد بأقوال الأدباء والروائيين في معظم كتاباته النقدية.
وإذا كانت القراءة قد تسهم في صقل الموهبة وتنمية الفكر إلا أنها لا تبدو كافية ما لم تكن الأرضية الأدبية مهيأة للتخصيب، وقد لا تكون القراءة مؤثرة إذا غاب الحافز الداخلي كعامل رئيس يسهم في التركيز والاستيعاب والتطبيق، ويظهر هذا العامل من خلال النص الذي ينتمي للطائف انه الطموح ولا شيء سواه، فيشير إليه الشاعر عواض العصيمي:
ذيك المطامح وانا في مقعدي غافي
كما يقول الشاعر صالح العلاوة:
لي طموح ولي جروح ولي قضية تختلف
وبما أن الحديث عن الشعر فإنه لا يكتمل دون المرور على بعض تجارب الشعراء الناضجة أو التي ما زالت في طور التكوين، وهي قراءة عابرة جدا تنظر للإطار العام للتجربة وليس التفصيل.
تجربة العصيمي
جاءت تجربة الشاعر عواض العصيمي انعكاسا لظروف الفترة التي كتبت فيها وتناولت فكرة واحدة تصف تحوله من كتابة الشعر إلى اعتزاله متجها للرواية والنقد.
ورغم أن هذه الفترة شهدت انطلاقته الأولى للكتابة إلا أنها تعد مرحلة انتقالية في حياة الشاعر، ولذلك فقد تعمد أن تكون تجربته بيانا شعريا عنها، وربما احتفظ بقصائد أخرى لا تتناسب مع هذه الفكرة، خاصة أنه بيت النية _مسبقا_ للاعتزال، وتعامل مع التجربة وفقا لمقتضى الحال في المرحلة التي يعيشها وبما يمهد له طريق المرحلة القادمة ليحقق ما يصبو إليه:
قال احطبه واسنده واذا اشتكى باشكي
ذيك المطامح وانا في مقعدي غافـي
ويشير الشاعر إلى ذلك حين يكشف أن تجربته موجهة نحو خدمة هدف معين ظهر من خلال نصوصه التي حملت مضمونا واحدا يتحدث فيه عن طموحاته الأدبية ممثلة في كتابة الرواية وممارسة النقد:
عنك باحكي كلما مديـت للهاجـس  قلـم
كلما فاض الشفق بالورد واحمر  النقـاش
عنك باحكـي كلمـا للقافيـة قلتـي نعـم
وانجب اسمك من زناد الذاكرة زخة فراش
ويضعنا هذا الأمر أمام فرضية المراوغة «الحميدة» من جانب الشاعر للفت الأنظار إليه وترك بصمته الأدبية من خلال استغلال المعطيات المرحلية، فظهر كشاعر في الفترة التي كان الشعر فيها “الكل في الكل” وسيطر خلالها على الحياة الأدبية في الخليج، وبمجرد انتهاء مهمته أخذ الشاعر يلوح بالاعتزال، مشيرا إلى أن السنوات التسع التي وضع خلالها علامة له لم تروِ ظمأه للكتابة:
يا ضحى اللي في خلايا القلب باني لك هرم
زل برق الوسم فوق التاسعة واحنا  عطاش
أما البداية الحقيقية وفقا للتجربة فتشير إلى أن الشاعر لم يبدأ من الجدب وأن تجربته الشعرية توسطت حياته الأدبية حيث يظهر الشاعر في نصوصه ممسكا عصا الكتابة من منتصفها وهو يحدد المحطات التي ينطلق منها لكتابة القصيدة، وفي الغالب فإنه يبدو محصورا بين أمرين تتباين طبيعة كل منهما تباينا تاما.
مكانيا، يحدد الشاعر موقعه كما في نص “ملاحظات” متوسطا الصحراء والبحر فيقف على الساحل/الشعر ويصف صراعه وحيرته وهو يحاول ترويضه للوصول إلى الماء/الطموح الأدبي في ظل العوائق المتعددة:
ما اشد من ذا الجفاف الا ذراع اخطبوط
بيني وبينه حـروب الساحـل مداولـة
انا اقرب الموج للصحرا ورمل الشطوط
ما عندي الا بيـاض اسلافـي ازاولـه
كما تشير تجربة العصيمي إلى اقتران كتابتها بالوسط القلق زمنيا، فيشبه لحظات كتابة القصيدة بفترة كتابة التجربة، ويجمع بينهما من خلال تصوير حالة الانتظار لما تسفر عنه الفترات المتسارعة منذ قدوم الهاجس إلى الانتهاء من النص، ليجعلها صورة مصغرة لتعامله مع التجربة، فبدت تجربته كحلقة وصل زمنية قصيرة تنقله بين عشية وضحاها من مرحلة إلى أخرى.
ويمثل نص «الباب» نموذجا عاما لكل التحولات التي شهدتها تجربة العصيمي، ولنجعله كما أراده فقد كان محور الارتكاز لتجربته الشعرية ونقطة التحول الرئيسة في مسيرته الأدبية، فالباب/الكتابة الذي وقف أمامه منتظرا الدخول:
عنوان «الباب» كان المدخل إلى النص والتجربة والكتابة، فهو يبادر في مطلع البيت الأول موحيا بعميلة الدخول، ويبدو أن الأمر يتجاوز ذلك فاقتران “كان” بالباب يفتح المجال لاحتمالات أخرى وكأنها تحاول إعادة هيكلة الشعر بدلالتها القصصية، كما يكشف وقوعها خلف الباب مباشرة عن حالة الدخول الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ينذر بالخطر فاللون الأحمر ينبئ بقدوم شاعر يرى من نفسه فارسا مغوارا قدم مشهرا سيف الشعر للأخذ بثأر الكتابة:
الباب كان وموجة الصبح في الكف
تختال بيضا والثرى كله  جـروح
وبتكرار الإنذار الأحمر في أكثر من مطلع تظهر صفة “الأنا” لتشير إلى جزء من شخصية العصيمي:
عنك باحكي كلما مديت للهاجس  قلـم
كلما فاض الشفق بالورد واحمر النقاش
...
دمه ثرى وبقلبه الصبـح  مدفـوق
غصن البياض اللي لبس دمعته تاج
وأمام شاعر بهذه المواصفات فإن الباب لا يعد حاجزا رغم أن تكرار الباب في مطلع أكثر من بيت يوحي بهذا المعنى، ولكنه يبقى من وجهة نظر الشاعر «المختلف» مجرد مدخل يكشف به عن تميزه:
واعرف اني تهورت ونسفت جروح مندملـة
ومن زهوي رفضت المدخل الهين مع اندادي
ولكن لماذا تكرار “الباب كان” وما الدلالة التي يحملها والشاعر قد نجح في الدخول وحسم أمر الكتابة مبكرا؟.
الباب كان وكاسـر الغيـث مـا كـف
حتى اشتعل وجه الشجر في فضا الروح
يبدو أن الدافع الإشارة إلى أن الدخول ليس كافيا لممارسة الكتابة شعرا، فالأجواء غير مهيأة، والشعر لا يحقق طموح العصيمي في ظل القيود المفروضة عليه، فكلما تحسس أفق البوح مشرعا أحلامه ليحلق في سماء الكتابة حال دونه ضيق مجال القصيدة:
عساس كنت ومثلك الطير فالشف
يدنيك سطر وتزعلك ضيقة اللوح
في هذه اللحظة يبدأ الشاعر في تغيير وجهته مكتفيا بجس نبض الأوضاع الشعرية التي وجدها لا تناسبه، فيتشبث بأحلامه لتحمله من الظلام/النص إلى الشمس/الرواية والضوح/النقد:
وامسيت ترقب كوكب فالشفق جـف
عنه اليدين اختارت الشمس والضوح
وتظهر «كان» مقترنة بالباب للمرة الثالثة ولكن بطابع افتراضي منح القصيدة بعدا روائيا تحول معه النص إلى حبكة قصصية وتحولت فيه “كان” لوصفة سحرية لزيادة مساحة التشويق والتساؤلات، فجعل منها الشاعر محورا لـ «العقدة» الشعرية التي يحاول حلها من خلال الإجابة عن سؤاله:
الباب كان وترعبك وحشة  الرف
كيف المغيب المنطفي يشعل البوح
كان الحل بالنسبة للشاعر اعتزال كتابة الشعر ولكنه يظل حلا خاصا به لأن لديه البديل، فيبدأ في الخروج تدريجيا من خلال الإيحاء بأنه لا يعيش الحالة الشعرية كما يجب لأنه يجد نفسه خارج النص أثناء كتابته وفي أرض أدبية أخرى ملكت كل جوارحه، فكلما حاول “الاندماج” أخذته أحلام اليقظة إلى معشوقته ونقلته من أعماق القصيدة الضيقة إلى آفاق الكتابة الرحبة:
اذكر سألتك واسمر الوبل ما  خف
وطيور وجهك تقبل اسراب وتروح
حدث الخروج ولكنه يبقى صوريا ولا شعوريا وفي العقل الباطن للشاعر فالقرار لا يزال ينتظر التطبيق الفعلي، وعندما يحدث ذلك سنكتشف أن كتابة الشعر لم تكن سوى خطوة أولى في مسيرته الأدبية:
قلت المطر وافرد لك الهاجس العف
شمس المكان وخاطر الغيم  مسفوح
وسنكتشف أن الدافع وراء كل هذا هو البحث عن التميز في مجال أدبي واسع بدلا من الانخراط في صفوف الشعراء والانحصار في محيط القصيدة الضيق، وحرص الشاعر على إنهاء قصيدته من حيث بدأها فـ «كان» المقترنة بـ «الباب» تحضر في الختام أيضا ولكنها لم تعد تفتح مجالا للافتراضات فالشاعر يؤكد أنه شرع في حياته الأدبية وأنهى مسيرته الشعرية، أما تكرارها النهائي فهدفه إضفاء لمساته القصصية والإشارة إلى وجهته النهائية، فهي التي فتحت الطريق أمام حكايات ألف ليلة وليلة وهي التي جعلت من قصيدته سيرة ذاتية له خلال مرحلة معينة، ولكن المفاجأة أن “العقدة” التي تمحور حولها النص لم يكن حلها مستعصيا ولا خاصا بالشاعر ولكنه أراده كذلك لإثبات مقدرته الشعرية وتفوقه الروائي، ولم يكلف نفسه سوى الاتكاء على “كان” لتحمله من البداية إلى النهاية في تسلل قصصي يحكم إغلاق الباب حتى تضيق كل الاحتمالات بفتحه ثم يفاجئ الجميع بأن الباب كان مفتوحا:
فالبال بدو وقفوا للمطـر  صـف
والباب كان لخاشع الصوت مفتوح
هكذا جاءت التجربة محطة للفصل والوصل نقلت الشاعر من مرحلة إلى أخرى، وحفلت نصوصها بالثنائيات الدلالية تضادا وترادفا للمقارنة بين ما كان وصار، كما اعتمد الشاعر على التدرج اللوني لرصد تأثير العامل الزمني والكشف عن كافة تفاصيل التمرحل، ولا غرابة أن تحفل تجربة العصيمي بكل هذه المفارقات فهي في نظره مجرد مطية زمكانية، ينتقل بواسطتها من زمن قديم ، تقليدي ، محدود إلى حاضر حديث متجدد ومن مكان ضيق مجدب إلى آخر واسع معشب، حتى ولو كان كل ذلك مجرد احتمال:
اعرف اني فرشت البال ضحكة بنت  محتملـة
ذخرت لها الزكي من الجهد واعذرت من زادي