ثقافة وفن

فلسفة السرد الشعري في «نقوش الخميسي»

مستورة العُرابي*



إن العودة إلى شعرية السرد يمثل حنينًا إلى الشعر، ذلك الوطن الأول الذي يسكننا في ارتباطه بالرؤية التي يطرحها، ومن ثم كان البحث عن المشترك بين الفلسفة والشعر من داخل الإبداع نفسه، ولعل فلسفة السرد في القصة القصيرة جدًا من أهم ما يضطلع به الناقد، إذ نحن أمام نوع أدبي جديد إلى حد ما لا نستطيع أن نحاكمه بمعاييرنا النقدية الثابتة التي نتناول بها النصوص الأخرى، ولذلك فإن أنجع وسيلة للمقاربة هي استنطاق النصوص، وجعلها تفصح عن ذاتها في إطار فلسفي جمالي؛ فإذا أردنا الولوج إلى طبقات المتن السردي في المجموعة القصصية للقاص ساعد الخميسي؛ فإن العنوان أول ما يواجهنا، كونه يحرّض لسحب القارئ إلى مساءلة النص؛ فعنوان هذه المجموعة «نقوش» والنقوش سمة قديمة مرتبطة بتاريخ الصحراء العربية إلى جانب ارتباطها بتاريخ الكتابة العربية، وهي إبداع يبحث بحرية في واقع البداوة، وبلغة شعرية متميزة عن أشكال جديدة ضمن عوالم محفوفة بهمسات شعرية، وبمطالعة أبعد إلى العناوين الداخلية تتوزع ما بين نقوش حائرة تندرج تحتها نقوش أدق «حيرة، أنف، تحليق مقرر، غواية، انحناءة، جدار الدهشة، إعصار، غزو، لُحمة، سيرورة، زحزحة ليل» ومن تلك الحيرة تتوالى أحداث الفراق والانقلاب والصعود والعتق.

أما «النقوش الدائرة»؛ فتتراوح ما بين الأفعال العنيفة «صدمة، المجنون، اقتصاص، خلط، ضياع، ضنكا، فزع، مقاومة» والأفعال الهادئة «وثيقة، لغتان، فخ، تجاوز مشروع، تأجيل، اتفاقية، تلقي، رحلة للنجاة، إشارة، زيف، بلابل»؛ ففي نص «لغتان» يبحث المبدع وسط روائح الكتب، لتأتيه عروس من عرائس اللغة وتتزين له، فلا يستطيع أن يضمها إلى لسان العرب، فهو يكشف عن عجز اللغة في أن تفصح عن الجمال «عفوًا.. لسان العرب لا يتسع» وهنا تتجلى اللغتان لغة الجمال ولغة الحروف، والنقش الثالث «نقشٌ شخصي» في الغلاف الخاتمة نقش فيه سيرته الذاتية ومشاركاته الإبداعية. وإذا ما تجاوزنا قليلا؛ فإن الشخصية أهم عنصر حبيس في هذا الداخل المغلق؛ لأنها تتخفّى خلف العناصر الأخرى من الضمائر، وبنية الأفعال، والتراكيب اللغوية، ونظرة إلى عناصر الشخصية نجدها ما بين شخصية واحدة تحتل مساحة كبيرة في المجموعة كما في نص «تحليق مقرر» حيث يرتكز البناء الفني على شخصية واحدة تحلّق وتهبط وتقرر، وأخرى جمعية تتجلى فيها شخوص، أو يتمثل المجموع في شخص واحد، ويتجلى ذلك في نص «وسائط» في عباراته «أحد المتجمهرين، تشاجره مع شخص آخر أتلف هاتفه حتى لا ينقل الحادث، وإذا به في اليوم التالي يجد زملاءه يتحدثون عن كل هذه التفاصيل كشريط سينيمائي مختزل».

وتنقلنا الشخصية إلى الكيان الذي يجمعها مع عناصر أخرى، وهي الوحدة السردية التي تعد عنصرًا أساسيًّا في مكونات السرد القصصي؛ ففي القصة القصيرة وحدات سردية تعد متواليات تتعانق فيما بينها، أما في «نقوش» فنحن أمام وحدة سردية واحدة، وقد تجلّت لنا القصة القصيرة جدا في هذا الإطار في شكل يذكرنا بالبيت العربي القديم الذي عده النقاد وحدة مستقلة في القصيدة، كما نجد ذلك في نص «متواليات» الذي يعيد إلى الذاكرة أبيات أبي ذؤيب الهذلي في عينيته الشهيرة التي يرثي بها أبناءه الخمسة فتغيّر أحداث الزمن، ومطاردة الفريسة، والموت الحتمي الذي يلحق البطل يشكل مجموعة هذه المتواليات.

والدهر لا يبقى على حدثانه

شبب أفزّته الكلاب مروّع

فتحفز القوس، وضعف سرعة الطريدة من جانب، وسرعة الموت الذي يمضي كالسهم من جانب آخر يصل إلى مأساة البطل في النصين الشعري والسردي معا، وإن كان بيت أبي ذؤيب يفتح الباب أمام صور الموت الأخرى، وليست قضية الدلالة هي الفيصل، ولكن خصوصية هذه الوحدة السردية في تعبيرها عن حدث واحد يعطيها هذا التصنيف الجمالي بحيث نقول قياسًا على ما قيل عن القصة القصيرة بأنها القصة القصيدة، فيمكن أن يقال هنا القصة البيت شعري.

الوحدة السردية التي اقترنت في قصرها وتركيزها بالشعر تنقلنا إلى شعرية النص القصصي وجماليات البنية اللغوية في داخله من الصوت إلى البناء التركيبي إلى تراتب الأفعال وتواقتها في هذه النقوش؛ ففي قصة «عتق»، «عودة البدء» يقف فيها البطل أمام مرآة لا تعكس الصور، ويرفع قبعته ويدخل أصابعه في شعره متسائلا عن أين وكيف الحكاية؟! منسابة بمونولوج يبوتق طقس النص منداحاً وعصيًّا على الاستكانة أشبه برياح الصحراء وتنقلات البدو، طازجاً مكتنزًا بالحيوية رغم قتامة وضجيج حياة لاهثة تتداخل مع الذوات الأخرى لشخوص تأتي في سياق السرد الذي تكثر في متنه الجمل السريعة ذوات الأفعال الآنية المباشرة.

وثمة ظاهرة تلفت الانتباه في هذه المجموعة هي اللازمكانية، ومن المعروف أن الزمكانية عنصر فاعل في السرد، وقد نتج عن اللاتحديد في عنصري الزمان والمكان ـ غالبًا ـ وإذا ظهرت الزمكانية على استحياء؛ فإنها لا تقوم بدور أساسي في النص إلا ما ندر؛ ففي نص «غزو» نجد تصريحا زمنيا لافتا وهو الرغبة في تأريخ الخرافة و«موجة زمنية» «دب البياض في جدائلهم» «في إشارة إلى تقدم العمر» وخلدتهم مضاجع الخرف في صورة شعرية دالة على الفناء.

وتتجلى المكانية في نص «تأخر» مصرحا به أحيانا مضارب القبيلة، الحصى، الحجارة، المدينة، الاسفلت، وإيحائية أحيانا في «وصلوا»؛ لأن الوصول يكون إلى مكان، وهنا تتجلى فلسفة الرفض حيث تعيش الذات القاصة مرحلة صراع مع المدينة وقيمها وأوضاعها، فهروبه إلى حياة البداوة إنما يعبر عن موقف نفسي يعتبر المدينة واقعا مسطحا يعكس حالة التوتر الوجودي بينه وبين روح المدينة وإيقاعها الصاخب.

ولعل تكثيف الحدث في هذه النصوص أدى إلى بروز البنية الرمزية أحيانًا، والرؤية الفلسفية أحيانا أخرى؛ فذلك الذي يحاول في نص «جدار الدهشة» كسر الرتابة، وخلق الدهشة؛ فيكسر يده، وتتحول الدهشة إلى قطرات دم نازفة، وإن كان يضمّن الحكمة العربية القديمة المتجلية في بيت شعري يشكل الوحدة السردية التي أشرنا إليها سابقًا، وتتضمن المعنى الذي قاله الشاعر القديم «كناطح صخرة يومًا ليوهنها.. فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل» فهنا تعاضدت البنيتان الرمزية والفلسفية في خلق هذه الوحدة السردية الشعرية، وهنا تكمن الرؤية في توجيه دفة السرد رغم قتامتها.

إن لهذه التجربة «نقوش» طابعا لا يخلو من إثارة الانتباه، ذلك أنها تعمل جاهدة إلى تحقيق عملية التجاوز، وإن كان هذا التجاوز يختلف من مبدع إلى آخر، ومن تجربة إبداعية إلى أخرى؛ بل ومن نص إلى آخر، وهذا الاختلاف في ممارسة التجاوز عن طريق البحث عن الأشكال الجديدة والطرائق والرؤية الجديدتين في الكتابة القصصية هو ما يميز تجربة ساعد الخميسي، ولعل هذه المقاربة تسهم في إلقاء الضوء على هذه النقوش، وتفتح آفاقًا أخرى للتلقي وتأويل النصوص.

*ناقدة وأكاديمية سعودية