كتاب ومقالات

مقبّل الريح!

عزيزة المانع

هبت شمال فقيل من بلد

أنتِ به، طاب ذلك البلد

يقبّل الريح من صبابته

ما قبّل الريح قبله من أحد

الإبداع الأدبي سواء كان شعرا أم نثرا، يستمد جزءا كبيرا من جماله ومتعته مما يكون فيه من الابتكار الجميل والجدة، سواء كان ابتكارا في اشتقاق اللفظ أو تفتيق المعاني، أو رسم الصور الذهنية، أو غير ذلك. وقائل هذا البيت شاعر مجهول جاء بمعنى لم يسبقه إليه أحد، وقال ما لم يقله عاشق قبله، قال إنه (يقبل الريح) لأنه سمع من يقول إنها آتية من بلد تقطنه الحبيبة!!

هل سمعتم أحدا قبل هذا يدعي تقبيل الريح؟! سمعنا عن تقبيل الجدران ولكن تقبيل الريح!! هذه المرة الأولى!! تقبيل الجدران من الأشياء الممكنة واقعا، لكن تقبيل الريح!!! من الذي يتسنى له تقبيل الريح؟!! لا بد لخيالك أن ينشط فيأخذ في تجسيد الريح لتكون شيئا ملموسا مرئيا حتى يمكن تقبيلها.

تفتيق المعانى، هو أمر يرتبط بالخيال المدعم بالذكاء، أكثر مما يرتبط بالمعرفة، لكن الخيال يحتاج إلى محرض كي ينطلق هائما في فضائه الذي لا يحده شيء. ووجود الحاجة أو الرغبة مصحوبة بالعجز عن النوال، هي إحدى أشد محرضات الخيال، فحين تشتد الحاجة وتضطرم الرغبة ولا مجال لإشباع شيء منها، يكون البديل ركوب الخيال، وربما لهذا تكثر أحلام اليقظة في سن المراهقة حيث تضطرم الرغبات التي تصطدم بعجز المراهق عن إشباعها، فيتدفق خياله يرسم البدائل العذبة.

يقول غازي القصيبي رحمه الله عن مواصفات الشعر الجميل: «ليس من الضروري أن يأتي الشعر الجميل بابتكار مذهل. التجربة اليومية، في يد الشاعر المبدع، يمكن أن تتحول إلى لوحة مذهلة»، وهذا بالضبط ما فعله شاعرنا المجهول. بيت بسيط مباشر، ليس فيه فلسفة المعري ولا حكم المتنبي، لكنه يرسم بوضوح تجربة إنسانية يمر بها بعضنا، فيبعث الطرب في الأذن.

هذا الشاعر أراه مبدعا حقا، يتمتع بموهبة شعرية جميلة، ولا أدري لم بقي مجهولا مغمورا رغم أن كثيرا من الشعراء ممن يقلون عنه في جمال الشعر طار صيتهم وعرفهم الناس؟ أهو الحظ، كما يقال عادة في مثل هذه الأحوال؟ أم هو العزوف عن الظهور والزهد في الشهرة؟