ثقافة وفن

«عنكريزي بوتيلة عساه يموت الليلة».. قصة خاتون حليمة

كويتيات ينتظرن الدخول على «الخاتونة» لعلاجهن في عام 1917

عبدالله المدني*

مهما كان رأينا في الإرساليات الأجنبية التي جاءت إلى منطقة الخليج ما بين نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فإن مما لا جدال فيه هو أنها قدمت خدمات طبية جليلة لرجال ونساء وأطفال المنطقة في وقت كانت الأمراض والأوبئة تفتك بأجسادهم، وكانت أعداد الوفيات في صفوفهم في ازدياد بسبب عدم وجود أطباء أو عيادات أو أدوية متاحة آنذاك، دعك من الجهل وانعدام ثقافة الوقاية والعناية. إذ أن الناس في ذلك الزمن كانوا يعتمدون في الاستشفاء على الطب الشعبي الذي لم يكن يجدي في الكثير من الحالات، ولاسيما حالات الأوبئة المستعصية مثل السل والطاعون والجدري التي ضربت منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية في العشرينات.

ومثلما حدث في البصرة ولاحقا في البحرين ومسقط فقد ظهرت في الكويت إرسالية أمريكية أخذت على عاتقها تقديم خدمات تعليمية وطبية لعموم الناس. أما مستشفى هذه الإرسالية فترجع فكرته إلى عام 1909 حينما زار الشيخ مبارك الصباح المحمرة للقاء أميرها الشيخ خزعل بن مردوا الكعبي فصادف أن رأى رئيس البعثة الطبية الأمريكية في البصرة الدكتور«أرثور بينيت Arthur Bennett» فطلب منه القدوم إلى الكويت لمعالجة ابنته التي كانت تشكو من مرض في عينها. وأثناء تواجده في الكويت في عام 1910 منحه الحاكم قطعة أرض قبالة البحر لإقامة مستشفى وطلب منه استقدام الأطباء والممرضين للعمل معه. وبالفعل تم تشييد المستشفى بالخرسانة المسلحة لأول مرة في البلاد بتكلفة ستة آلاف دولار وافتتح في عام 1913 وأطلق عليه المستشفى الأمريكي أو «الأمريكاني».

وفي حالة الكويت لم يقتصر دور هذا المستشفى على حماية الناس وعلاجهم من الأمراض والأوبئة الفتاكة، وإنما لعب أيضا دورا مشرفا في علاج المئات من جرحى معركتي الجهراء والرقعي. لكن بالرغم من هذا لم يعر الكويتيون ــ شأنهم في ذلك شأن بقية إخوتهم في الخليج ــ في بادئ الأمر اهتماما بهذا الإنجاز وظلوا يتوجسون من المستشفى ومن فيه، وكان أكثر الناس ترددا لجهة الاستفادة من خدماته العلاجية هم النساء بسبب الأمية والجهل والعادات والتقاليد المحافظة. لذا عمدت الإرسالية الأمريكية إلى بناء مركز طبي منفصل لتقديم الخدمات الصحية للنساء حصريا، وقد افتتح هذا المركز في عام 1917 وأدارته وأشرفت عليه الطبيبة الأمريكية «إلينور كالفرلي» زوجة القس «أدوين كالفرلي» الذي كان يدير آنذاك أول مدرسة لتعليم اللغة الإنجليزية في الكويت، وهي المدرسة التي أطلق عليها الأهالي مدرسة الأمريكاني. فمن هو القس كالفرلي؟ ومن هي زوجته الدكتورة إلينور التي عاشت في الكويت من عام 1912 إلى عام 1932 وأطلق عليها الحاكم الشيخ مبارك الصباح اسم الخاتون حليمة؟ علما بأن «خاتون» لقب احترام كان يستخدم قديما في المحمرة والعراق ويقابلها «مدام» بالفرنسية. في عام 1905 تزوج القس إدوين كالفرلي، الحاصل على درجة الماجستير في الدراسات اللاهوتية في عام 1909 من جامعة برنستون الأمريكية الراقية، من الآنسة إلينور جين تايلور التي واصلت دراستها في كلية طب البنات إلى أن تخرجت منها طبيبة في عام 1908. وفي العام التالي التحق الزوجان كالفرلي بالكنيسة الإصلاحية الأمريكية، هو كمعلم وهي كطبيبة. ولأنهما قدما نفسيهما لتلك الكنيسة كمهتمين بالإسلام وأحوال معتنقيه، تم إرسالهما إلى البحرين أولا، ثم إلى البصرة والعمارة في العراق لينتهي بهما المطاف في الكويت.

والحقيقة أن القس كالفرلي لم يعمل في الكويت معلما فحسب وإنما كان أيضا يقدم المساعدة لزوجته الطبيبة، أولا أثناء عملها في العيادة الصغيرة التي افتتحتها الإرسالية في يناير 1912 في ديوانية بودي بعد استئجارها، ثم أثناء عملها في مبنى مستشفى الإرسالية بعد اكتمال بنائه. إضافة إلى هاتين الوظيفتين كان كالفرلي طالب علم أيضا! إذ بذل جهدا كبيرا وقضى وقتا طويلا لتعلم اللغة العربية، تحدثا وقراءة وكتابة، كي يتمكن من قراءة القرآن وكل الكتب المفسرة لآياته الكريمة ويقارنها بما ورد في الكتاب المقدس للمسيحيين. كما كان يريد من وراء تعلمه العربية الاطلاع على كتب الفلسفة والتاريخ والرحلات والسير التي كتبها المسلمون الأوائل، وخصوصا مؤلفات الإمام الغزالي التي توقف عندها وترجمها وشرحها بالإنجليزية لاحقا. أما زوجته إلينور، فبالإضافة إلى أعمالها الإنسانية في مجال الطب وتقديم الرعايا الصحية، ساعدت زوجها في مدرسته، كما بذلت هي الأخرى جهدا كبيرا للتقرب إلى المحيط الاجتماعي التي كانت تعمل وسطه، ودراسة طبائع ناسه وتقاليدهم وعاداتهم وأفكارهم، وغير ذلك مما دونته في كتاب نشرته بعد عودتها إلى بلادها تحت عنوان «أيامي ولياليي العربية: إرسالية طبية في الكويت القديمة، وهو الكتاب الذي قام بترجمته إلى العربية عبدالله حاتم تحت عنوان آخر هو «كنت طبيبة في الكويت»، وقد ساعدها ذلك في تخطي الحواجز الكثيرة التي كانت النسوة في الكويت يضعنها بينها وبينهن، وبالتالي إقناعهن بفوائد العلاج الحديث في المستشفى وإجراء العمليات الجراحية دون رهبة أو خوف. وهكذا نجحت إلينور في إجراء أول عملية جراحية لامرأة في تاريخ الكويت وكانت لسيدة تدعى «عمشه بنت عبدالله». وتقول الأدبيات الكويتية الخاصة بتاريخ البلاد الطبي إنه حينما رحلت خاتون حليمة عائدة إلى بلادها بصحبة زوجها وبناتهم الثلاث: إليزابيث، غريس، وإلينور اللاتي أطلق عليهن الشيخ مبارك الصباح أسماء عربية هي: قماشة، نعيمة، ونورة على التوالي، خلفتها في العمل الدكتورة «ميري أليسن» المعروفة باسم «خاتون وسمية»، ثم جاءت بعدها الدكتورة «روث كراوس» المعروفة باسم «خاتون شفيقة». والجدير بالذكر هنا أن الابنة الصغرى إلينور أو نورة، التي اقتدت بأمها وصارت طبيبة، حينما جاءت إلى الكويت كان عمرها ست سنوات، وغادرتها وهي في السادسة والعشرين، ثم أتيحت لها فرصة زيارة الكويت في عام 1985 وقد شارفت على العقد السادس من عمرها. وفي هذه الزيارة أجرى المرحوم الأستاذ صالح شهاب مقابلة تلفزيونية معها تحدثت فيها عن الكثير من ذكريات طفولتها في الكويت فقالت مثلا: إن بنات الحي الذي كانوا يسكنون به كن يركضن وراءها صائحات «نورة.. نورة.. عطيني صورة»، وكن يقلن لأختها الكبرى «قماشة.. طماشة» ويقلن لأختها الوسطى «نعيمة.. يا حليمة». وتجمع الصبية الصغار وركضهم خلفنا وهم يرددون كلمات صرنا نسمعها كثيرا فيما بعد مثل: «عنكريزي بوتيلة عساه يموت الليلة»، وعلى غرار ما فعله الكثيرون من المستشرقين والرحالة الغربيين الذين زاروا أو أقاموا في الخليج والجزيرة العربية لجهة توثيق مشاهداتهم وانطباعاتهم ولقاءاتهم في كتب أو دراسات مطولة، فقد نشر القس إدوين كالفرلي بحثا في مجلة «ترافيل Travel» الأمريكية في عددها الصادر في أكتوبر 1916 بعنوان «الكويت مدينة اللؤلؤ والعطش». في هذا البحث الذي قامت دورية «رسالة الكويت» بترجمته إلى العربية ونشره في عددها رقم 19 الصادر في سنة 1980 أفاض كالفرلي في الحديث عن تفاصيل بناء مستشفى الإرسالية الأول في الكويت، وظروف البلاد السياسية، وأطماع الألمان فيها. كما وصف ميناء الكويت القديم وتطرق إلى أهميته، وتحدث عن الناس والأسواق والمقاهي والبيوت وقصر الشيخ مبارك الكبير.

فعن الشيخ مبارك والمستشفى الأمريكاني كتب ما نصه: «وقف الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت على قمة تل صغير على أطراف بلدته، ومن حوله وقف حراسه المسلحون، وعلى جانب آخر، ولكن في المؤخرة إلى حد ما، وقف القنصل البريطاني، وفي الأمام وقف بعض أعضاء الإرسالية الأمريكية، وعلى مسافة بعيدة وقف الجمهور العربي ينصت باهتمام كبير إلى كل كلمة، لأن هذه الخطبة ستقرر إذا كانوا سيواصلون إعاقة رجال الإرسالية أم لا. كان الأمريكيون يشعرون بالسرور، إذ أن الأرض التي سيحصلون عليها ستكبر بدرجة كبيرة بحيث تتسع لمستشفى الرجال ومستوصف النساء وكذلك لإقامة مدرسة للأطفال ولإقامة مبنيين آخرين في المستقبل». ثم كتب مضيفا أن الشيخ مبارك قال: «أما بالنسبة لأي أجانب آخرين فلن أسمح لهم بشراء أي أرض هنا، ولن أسمح لهم بالتجارة في هذا المكان، كما لن أسمح لهم بالنزول من السفينة التي وصلوا بها إلى هذا المكان لكي يقيموا فيه، ماعدا هؤلاء.. مواطني الحكومة النبيلة القوية.. حكومة القنصل (المقيم السياسي البريطاني ينحني شاكرا).. هؤلاء المواطنون نرحب بهم للتجارة في بلدنا، ولكن الأمر يختلف معكم أيها الأمريكيون.. أنتم محبون للخير.. أنتم هنا تعملون لخير شعبي.. أنا لن أبيع لكم الأرض التي تريدونها، بل سوف أعطيها لكم هدية مجانية».

* استاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين