كتاب ومقالات

من أبواب الستر.. الولد للفراش!

نجيب يماني

نشرت عكاظ العدد (18320) عن رفض تثبيت زواج عرفي لسيدة أعمال تزوجت سراً وأنجبت (مولودة) من ذلك الزواج، بمهر مسمى بينهما منذ ستة أعوام، بحجة عدم وجود ولي وشاهد وهما من شروط النكاح ولا يصح إلا بهما.

وهذا خِلاف الواقع فاختلاف الفتاوى في المسألة الواحدة إنما هو رحمة للعباد وسعة، يقول ابن تيمية النزاع في الأحكام قد يكون رحمة، و«أنه لا ينبغي لمن نشأ على مذهب معين أن يلزم الآخرين به، ولا يقول يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبي وأن أي مذهب خالف مذهبي كان باطلاً». ويقول عمر بن عبدالعزيز: «ما سرّني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنهم لو أجمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالًا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة».

فالمفتي إذا أفتى في المسألة فإنه لا يلزم الأخذ بها، وإنما يأخذ بها من شاء أو يأخذ بغيرها إن كان ذلك أيسر له. وقد كان الإمام أحمد يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها ويجيز له الأخذ بأيّهما شاء. وكل هذا من باب اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة عن الناس.

فهذا الزواج الذي تم إبطاله (نتيجته طفلة) بموجب هذا العقد، ونبي الرحمة علمنا أن الولد للفراش في قصة جارية زمعة التي أتت بولد لم يكن من صاحب الفراش وهو زمعة سيدها ومالكها بل من عتبة بن أبي وقاص إذ جاءت به بوطء غير مشروع مع ذلك فرسول الله ألحق النسب بصاحب الفراش وهو زمعة ونفى الفاحشة رغم علمه بوقوعها، وهذا من باب الستر والصون ومنع شيوع الفاحشة ونشر المنكرات. فما ذنب هذه الطفلة المولودة فعلا على فراش الزوجية أن تعيش حياة نكرة ونستطيع بما لدينا من أحكام إسلامية واسعة أن نلزم الأب بأبوته لها.

فمن قواعد الشريعة الأخذ بأسباب الستر والصون ومنع إشاعة الفاحشة وحمل تصرفات الناس وأحوالهم على الصلاح وحسن الظن بهم، لقد قال بعض العلماء إنه يجوز للمرأة أن تباشر عقد الزواج بنفسها دون ولي إذا كانت بالغة عاقلة فلها أن تنفرد باختيار الزوج وأن تنشئ العقد بنفسها بكراً كانت أم ثيباً ولا يحق لأحد الاعتراض عليها مستندين إلى قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) وفي قوله تعالى: (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) نسب الحق سبحانه وتعالى مباشرة العقد إلى المرأة نفسها وليس في الآيتين ذكر لوليها، ومن القواعد الأصولية أن مطلق القرآن لا يخصص بخبر الآحاد، يقول نبي الرحمة أن الأيم أحق بنفسها من وليها فجعل الحق الأكبر في الولاية للمرأة دون الولي.

لقد أبطل نبي الرحمة نكاحاً عقده الأب دون رضا ابنته، ثم جعل أمرها إليها، وقال لها: «لا نكاح لك اذهبي فانكحي من شئت» كما استدل القائلون بعدم شرط الولي لصحة النكاح بفعل السيدة عائشة، التي زوجت ابنة أخيها عبدالرحمن في غياب أبيها في اليمن. وعن قتادة أن امرأة قالت يا رسول الله، إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أُعلم النساء أنه ليس للآباء من الأمر من شيء.

فالأدلة اشترطت إذن المرأة وفي هذا معاني صحة العقد، إذا باشرته بنفسها، وبما أن لها مطلق الحرية في التصرف في مالها، فمن باب أولى لها حق التصرف في نفسها ورقبتها وجسدها، كما ثبتت أهليتها لجميع التكاليف الشرعية، والبضع (الفرج) حقها دون الولي، ولهذا يكون بذله لها، فقد تصرفت في خالص حقها، فجاز لها ذلك.

اختلف العلماء في مسألة الولاية فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يكون نكاح إلا بولي، وأنه شرط في صحة العقد، وقال أبوحنيفة وزفر والشيعي والزهري، إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز ذلك، وهذا يعني أن الزواج العرفي وغيره من الزيجات المستحدثة شرعية متى توافرت أركان الزواج المعتمدة. واختلفت شروطه بين الأئمة. فلهذا الزواج المرفوض مخارج شرعية نستطيع الأخذ بها وهذا من رحمة الدين وسعته.

إن مباشرة الولي للعقد هو الأفضل والأكمل في حق المرأة، ولكن ليس في هذا معنى بطلان العقد إذا باشرته بنفسها، وهي غالباً تضطر إلى فعل ذلك أمام استغلال الولي لها أو عضلها أو إرغامها على نكاح لا تريده. إن من يبطلون مثل هذه العقود لا شك أن مقاصدهم حفظ المجتمع إزاء التساهل في أمرٍ الأصل فيه وجوب إظهار خطره وعظيم شأنه وهو استباحة الفروج. ولكن إلغاء مثل هذا العقد يحمل معاني الاستدراك على المُشرّع الحكيم وهو سبحانه وتعالى وضع الشريعة ويعلم أحوال الناس إلى قيام الساعة. فلذلك فإنه من الأكمل الوقوف عند حدود النصوص من غير تحميل ولا توظيف ولا تطويع لغير ما سِيقت له. كما أنه من كمال وجمال هذه الفتاوى أيضاً ذكر ما في مسائلها من خِلاف بين أهل العلم ليكون في الأمر سعة للناس ويسر، فإن رفع الحرج ودفع المشقة من أكبر مقاصد الشريعة.