لماذا أخفى باروت النزاع بين «الحديث» و«الفقه» في سورية؟
الجمعة / 11 / صفر / 1438 هـ الجمعة 11 نوفمبر 2016 20:45
علي العميم
يكمن الخطأ والغلط في بحث محمد جمال باروت (المؤثرات الفكرية للسلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة) المقدم إلى ندوة (السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية) الذي عقده ورعاه معهد الدراسات الحكمية ببيروت في أمرين هما: تحامله الشديد على رشيد رضا وعلى السلفية الوهابية، وبناء أحكام وتعليلات إزاء سياقات واتجاهات وتحولات هو غير ملم بواقعها وتواريخها ووقائعها وملابساتها على نحو حسن. وهذا ما تصدينا إلى مناقشته بالتفصيل في مقالات مسلسلة كان آخرها القسم الأول من المقال الماضي وهأنذا أكمل ما بدأته
يقول باروت: «لقد قامت المدرسة الوهابية على إعادة بناء العقيدة في ضوء إحيائها لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وإضافتها عنصر مدرسة الحديث المواجهة لمدرسة العقل والرأي، التي ارتبطت باسم الإمام أحمد بن حنبل، والتي تشكل أولى البوادر المنظومية في بلورة مدرسة الحديث مقابل مدرسة الرأي في القرنين الثاني والثالث الهجريين. وما تختلف به السلفية النجدية عن السلفية التاريخية، هو أنها قد أدمجت اتجاه أهل الحديث بشكل عضوي في مسائلها الاعتقادية والعبادية، وهو ما تكرس في اندماج علماء الحديث في عصرنا مع السلفية... إلخ».
للتدقيق، فإن المدرسة المواجهة والمضادة لمدرسة العقل والرأي هي المدرسة الظاهرية وليست المدرسة الحنبلية، ومذهب الظاهرية هو الأنظومة التي اكتمل بناؤها منذ القديم في التضاد والمواجهة والمجابهة مع مدرسة العقل والرأي داخل الفكر السني.
وأهل الحديث كان حضورهم القوي والمتصل تاريخياً في العالم الإسلامي هو في الهند. أما في العالم العربي، فأهل الحديث لم يكن لهم وجود ملموس فيه لقرون، وتستثنى بلاد الشام من هذا الحكم، فأهل الحديث كان لهم وجود، وإن كان ضعيفاً ومحدوداً ومتقطعاً زمنياً. والحركة الوهابية، وإن كانت قريبة من مدرسة أهل الحديث ومن المذهب الظاهري، وتجمعها بهما الانضواء في المذهب السلفي إلا أنها لم تعن بعلم الحديث إلا في وقت متأخر من تاريخها، مع انتشار الطباعة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود.
إن الذي كان له الدور الأساس في ما ادعاه باروت، أو لأقل العناية بعلم الحديث، ونشر السلفية الحديثية في البلدان العربية (ومن ضمنها السعودية) هو المحدث محمد بن ناصر الدين الألباني لا المدرسة الوهابية. نشرها في هذه البلدان بدروسه ومؤلفاته وتحقيقاته وتسجيلاته وردوده ومناقشاته مع التيارات الدينية السنية وعبر تلاميذه.
والألباني من حيث التكوين والنشأة سوري. وهو من بيت ألباني حنفي المذهب. وأبوه الذي كان أستاذه الأول عالم حنفي، متعصب للتقليد الفقهي المذهبي ومناوئ لأهل الحديث. ولأنه كان كذلك حاول صرف ابنه عن القراءة في كتب الحديث. والابن في أول أمره كان حنفي المذهب. وقد تحول عن هذا المذهب إلى المذهب الظاهري فترة من حياته. والمذهب الظاهري كان هو القنطرة التي أفضت به إلى اعتناق اللا مذهبية في الفقه والدعوة إليها، ولم تكن تلك القنطرة لا التمذهب بمذهب أحمد بن حنبل ولا باتباع ابن تيمية واتباع المدرسة الوهابية.
مرّ بنا في مقال ماض (افتراء على طارق البشري وسرقة منه، الجزء الأول) أن باروت قسم السلفية إلى سلفية عامة مرنة أو مفتوحة وسلفية مذهبية صلبة أو مغلقة، استناداً إلى ثنائية المدينة والبادية. الأولى ازدهرت بنيتها في المناطق الحضرية العربية ــ الإسلامية، والأخرى تكونت في المناطق البدوية الصحراوية، ويعني بالأخيرة دعوة محمد بن عبدالوهاب السلفية التي كما قال: «تبلورت في البيئة النجدية البدوية في شبه الجزيرة العربية».
وأضيف هنا، أنه أورد ما هو مفهوم السلفية عند كل من محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد عمارة ومحمود الغزالي، وعدّ هؤلاء الثلاثة بفهمهم للسلفية يعبرون عن السلفية العامة المرنة المنفتحة على سبيل التمثيل لا الحصر وقال: إن نواة سلفيتهم الأساسية تقوم على نفي التمذهب. وقال عن ما أسماه بالسلفية المذهبية الصلبة المغلقة -ويعني بها السلفية الوهابية- أنها تحولت فعلياً إلى سلفية مذهبية مكتملة في حين أنها في مفهومها عن نفسها تنفي المذهبية.
الملحوظة النقدية التي أريد قولها هنا، أنه مع معرفته واطلاعه على الحياة العلمية الدينية وعلى كتب العلماء والمشايخ وترجماتهم وأدبيات التيارات الدينية في سورية إلا أنه أهمل في بحثه النزاع بين السلفيين الإصلاحيين والفقهاء المتمذهبين، المتعصبين والجامدين الذى كان فصله الأول بدأ في آخر القرن التاسع عشر سنة 1896، أيام كانت سورية ولاية عثمانية. في سنة 1968 صدر كتاب (الاجتهاد والمجتهدون وضرورة العمل بمذاهب الأئمة الأربعة وخطر اللامذهبية). الكتاب قائم على سؤال وجهة أحمد عزالدين البيانوني لمجموعة من العلماء عن رأيهم في أهل الحديث أو من يسمون بدعاة اللامذهبية، فالكتاب من جمعه وإعداده وأسهم هو فيه بمقالة، وضمّن هذا الكتاب رسالة اسمها (لزوم اتباع مذهب الأئمة حسماً للفوضى الدينية) كتبها محمد الحامد إمام وخطيب جامع السلطان بحماة. والرسالة كانت اجابة عن سؤاله المؤرخ بــ21 من صفر 1378هـ(!). وصدر بعد هذا الكتاب كتاب لمحمد سعيد رمضان البوطي اسمه (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) في سنة 1969. هذان الكتابان عبارة عن رد على المحدث ناصر الدين الألباني وعلى تلامذته بسبب إعادة نشرهما لكتاب (هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان، أو هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟) لمحمد بن سلطان المعصومي. فألف تلميذه محمد عيد عباسي كتاباً ضخماً اسمه (المذهبية المتعصبة هي البدعة، أو بدعة التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين)، ردّاً على كتاب البوطي وعلى رسالة الحامد. أهمل هذه المعركة في سورية مع أنها كانت أول شجار علني في العالم العربي بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة الفقهاء. أهملها للأسباب التالية:
أن تلك المعركة من ناحية الجغرافيا الإقليمية كانت معركة سورية. أنها تشير إلى أن مدرسة أهل الحديث أو السلفية الحديثية أينعت ونضجت ثمارها -على مستوى العالم العربي- في سورية وليس في السعودية، وذلك بفضل الألباني. أنه من جهة أنصار الاتباع والتقليد الفقهي لم يجر ذكر الوهابية ولا السعودية. أن ما ذكرناه سابقاً يطيح بتقسيمه السلفية إلى سلفية المناطق الحضرية العربية ــ الإسلامية وسلفية المناطق البدوية الصحراوية، ليس من جهة أهل الحديث السوريين وحسب، بل من جهة أنصار الاتباع والتقليد الفقهي. فمحمد الحامد، الفقيه الحنفي -على سبيل المثال- كان يحرّم حلق اللحية ويحرم الموسيقى، وله أراء كثيرة متشددة ومنغلقة، ولقد عارض كتاب (اشتراكية الإسلام) لمصطفى السباعي الذي هو مثال باروت الأثير على (انفتاح) الإخوان المسلمين وعلى (تقدميتهم ) في فترة ما يسميها بمرحلة الأباء المؤسسين.
كذلك البوطي يتعذر القول بأنه استمرار لـ(استنارة) محمد عبده، فهو مجانب لهذه المدرسة ومتحفظ على بعض أرائها العقلية وفتاواها في المجال الاقتصادي، وهو لا يخلو من تزمتات الإسلاميين ومغالطاتهم المعتادة والمعهودة عنهم. كما أنه لا يتمتع بفهم واقعي وعقلاني لواقعة التعدد والاختلاف الفكري. فعلى سبيل المثال، في معركته تلك مع السلفيين يعتبرهم يخدمون دعوة المستشرفين المسلمين إلى فصل الدين عن الحياة، ويخدمون اليساريين في ترويج تفسيرهم المادي للإسلام ولتاريخه!!!
إن إسقاطه لاسم الألباني من بحثه مع ما له من دور أساس في نشر السلفية الحديثية في البلدان العربية وأثر كبير في نشوء التيار الحديثي، كان خطأً فادحاً وغلطاً شنيعاً. ولا أستعبد أنه فعل ذلك متعمداً، لأن استحضاره هذا الاسم أو الوقوف عنده يتناقض وادعائه بأن نوع السلفية يحددها نوع البيئة ونوع الجغرافيا.
ومع أنه في حديثه عن السلفية الحديثية طمس تاريخها وأخفى معاركها مع مدرسة التقليد الفقهي المذهبي في سورية التي ظهرت في أواخر ستينات القرن الماضي إلا أنه -وهو العلماني- زج نفسه فيها، فاصطف مع مدرسة التقليد الفقهي وحاج عنها جدلياً ضد مدرسة أهل الحديث، إذ نفى عن الأولى التمذهب، وأتبت التمذهب على الأخرى، وإن نفته عن نفسها.
المذهبية واللامذهبية في الخلاف بين هاتين المدرستين، له مفهوم محدد ومعين وليس هذا المفهوم عاماً وإطلاقياً، وفي ما يبدو لي أنه في محاجته الجدلية تلك وازى بين هذا المفهوم ومفهوم الأيديولوجيا واللاأيديولوجيا. إن البوطي ليس بحاجة إلى محاجته الجدلية التي تنفي عنه التمذهب. فالفقهاء والمتبعون والمقلدون للمذاهب الأربعة لا يعدون التمذهب منقصة، بل هو عندهم ضرورة لازبة. والبوطي كان من أبرز الفقهاء المتأخرين الذين نافحوا عن التمذهب وحاربوا اللامذهبية.
ومما تقدم عرضه من أقوال باروت، قد يلحظ المختصون أنه يخلط ما بين الوهابيين الحنابلة وأهل الحديث، وأميل إلى أن خلطه هذا كان عن تحامل وليس عن عدم دراية. فكما هو معروف أن الوهابية ومشايخها طيلة القرون الماضية وإلى يومنا هذا، هم متمذهبون فقهياً.
يقول باروت: «لقد قامت المدرسة الوهابية على إعادة بناء العقيدة في ضوء إحيائها لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وإضافتها عنصر مدرسة الحديث المواجهة لمدرسة العقل والرأي، التي ارتبطت باسم الإمام أحمد بن حنبل، والتي تشكل أولى البوادر المنظومية في بلورة مدرسة الحديث مقابل مدرسة الرأي في القرنين الثاني والثالث الهجريين. وما تختلف به السلفية النجدية عن السلفية التاريخية، هو أنها قد أدمجت اتجاه أهل الحديث بشكل عضوي في مسائلها الاعتقادية والعبادية، وهو ما تكرس في اندماج علماء الحديث في عصرنا مع السلفية... إلخ».
للتدقيق، فإن المدرسة المواجهة والمضادة لمدرسة العقل والرأي هي المدرسة الظاهرية وليست المدرسة الحنبلية، ومذهب الظاهرية هو الأنظومة التي اكتمل بناؤها منذ القديم في التضاد والمواجهة والمجابهة مع مدرسة العقل والرأي داخل الفكر السني.
وأهل الحديث كان حضورهم القوي والمتصل تاريخياً في العالم الإسلامي هو في الهند. أما في العالم العربي، فأهل الحديث لم يكن لهم وجود ملموس فيه لقرون، وتستثنى بلاد الشام من هذا الحكم، فأهل الحديث كان لهم وجود، وإن كان ضعيفاً ومحدوداً ومتقطعاً زمنياً. والحركة الوهابية، وإن كانت قريبة من مدرسة أهل الحديث ومن المذهب الظاهري، وتجمعها بهما الانضواء في المذهب السلفي إلا أنها لم تعن بعلم الحديث إلا في وقت متأخر من تاريخها، مع انتشار الطباعة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود.
إن الذي كان له الدور الأساس في ما ادعاه باروت، أو لأقل العناية بعلم الحديث، ونشر السلفية الحديثية في البلدان العربية (ومن ضمنها السعودية) هو المحدث محمد بن ناصر الدين الألباني لا المدرسة الوهابية. نشرها في هذه البلدان بدروسه ومؤلفاته وتحقيقاته وتسجيلاته وردوده ومناقشاته مع التيارات الدينية السنية وعبر تلاميذه.
والألباني من حيث التكوين والنشأة سوري. وهو من بيت ألباني حنفي المذهب. وأبوه الذي كان أستاذه الأول عالم حنفي، متعصب للتقليد الفقهي المذهبي ومناوئ لأهل الحديث. ولأنه كان كذلك حاول صرف ابنه عن القراءة في كتب الحديث. والابن في أول أمره كان حنفي المذهب. وقد تحول عن هذا المذهب إلى المذهب الظاهري فترة من حياته. والمذهب الظاهري كان هو القنطرة التي أفضت به إلى اعتناق اللا مذهبية في الفقه والدعوة إليها، ولم تكن تلك القنطرة لا التمذهب بمذهب أحمد بن حنبل ولا باتباع ابن تيمية واتباع المدرسة الوهابية.
مرّ بنا في مقال ماض (افتراء على طارق البشري وسرقة منه، الجزء الأول) أن باروت قسم السلفية إلى سلفية عامة مرنة أو مفتوحة وسلفية مذهبية صلبة أو مغلقة، استناداً إلى ثنائية المدينة والبادية. الأولى ازدهرت بنيتها في المناطق الحضرية العربية ــ الإسلامية، والأخرى تكونت في المناطق البدوية الصحراوية، ويعني بالأخيرة دعوة محمد بن عبدالوهاب السلفية التي كما قال: «تبلورت في البيئة النجدية البدوية في شبه الجزيرة العربية».
وأضيف هنا، أنه أورد ما هو مفهوم السلفية عند كل من محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد عمارة ومحمود الغزالي، وعدّ هؤلاء الثلاثة بفهمهم للسلفية يعبرون عن السلفية العامة المرنة المنفتحة على سبيل التمثيل لا الحصر وقال: إن نواة سلفيتهم الأساسية تقوم على نفي التمذهب. وقال عن ما أسماه بالسلفية المذهبية الصلبة المغلقة -ويعني بها السلفية الوهابية- أنها تحولت فعلياً إلى سلفية مذهبية مكتملة في حين أنها في مفهومها عن نفسها تنفي المذهبية.
الملحوظة النقدية التي أريد قولها هنا، أنه مع معرفته واطلاعه على الحياة العلمية الدينية وعلى كتب العلماء والمشايخ وترجماتهم وأدبيات التيارات الدينية في سورية إلا أنه أهمل في بحثه النزاع بين السلفيين الإصلاحيين والفقهاء المتمذهبين، المتعصبين والجامدين الذى كان فصله الأول بدأ في آخر القرن التاسع عشر سنة 1896، أيام كانت سورية ولاية عثمانية. في سنة 1968 صدر كتاب (الاجتهاد والمجتهدون وضرورة العمل بمذاهب الأئمة الأربعة وخطر اللامذهبية). الكتاب قائم على سؤال وجهة أحمد عزالدين البيانوني لمجموعة من العلماء عن رأيهم في أهل الحديث أو من يسمون بدعاة اللامذهبية، فالكتاب من جمعه وإعداده وأسهم هو فيه بمقالة، وضمّن هذا الكتاب رسالة اسمها (لزوم اتباع مذهب الأئمة حسماً للفوضى الدينية) كتبها محمد الحامد إمام وخطيب جامع السلطان بحماة. والرسالة كانت اجابة عن سؤاله المؤرخ بــ21 من صفر 1378هـ(!). وصدر بعد هذا الكتاب كتاب لمحمد سعيد رمضان البوطي اسمه (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) في سنة 1969. هذان الكتابان عبارة عن رد على المحدث ناصر الدين الألباني وعلى تلامذته بسبب إعادة نشرهما لكتاب (هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان، أو هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟) لمحمد بن سلطان المعصومي. فألف تلميذه محمد عيد عباسي كتاباً ضخماً اسمه (المذهبية المتعصبة هي البدعة، أو بدعة التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين)، ردّاً على كتاب البوطي وعلى رسالة الحامد. أهمل هذه المعركة في سورية مع أنها كانت أول شجار علني في العالم العربي بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة الفقهاء. أهملها للأسباب التالية:
أن تلك المعركة من ناحية الجغرافيا الإقليمية كانت معركة سورية. أنها تشير إلى أن مدرسة أهل الحديث أو السلفية الحديثية أينعت ونضجت ثمارها -على مستوى العالم العربي- في سورية وليس في السعودية، وذلك بفضل الألباني. أنه من جهة أنصار الاتباع والتقليد الفقهي لم يجر ذكر الوهابية ولا السعودية. أن ما ذكرناه سابقاً يطيح بتقسيمه السلفية إلى سلفية المناطق الحضرية العربية ــ الإسلامية وسلفية المناطق البدوية الصحراوية، ليس من جهة أهل الحديث السوريين وحسب، بل من جهة أنصار الاتباع والتقليد الفقهي. فمحمد الحامد، الفقيه الحنفي -على سبيل المثال- كان يحرّم حلق اللحية ويحرم الموسيقى، وله أراء كثيرة متشددة ومنغلقة، ولقد عارض كتاب (اشتراكية الإسلام) لمصطفى السباعي الذي هو مثال باروت الأثير على (انفتاح) الإخوان المسلمين وعلى (تقدميتهم ) في فترة ما يسميها بمرحلة الأباء المؤسسين.
كذلك البوطي يتعذر القول بأنه استمرار لـ(استنارة) محمد عبده، فهو مجانب لهذه المدرسة ومتحفظ على بعض أرائها العقلية وفتاواها في المجال الاقتصادي، وهو لا يخلو من تزمتات الإسلاميين ومغالطاتهم المعتادة والمعهودة عنهم. كما أنه لا يتمتع بفهم واقعي وعقلاني لواقعة التعدد والاختلاف الفكري. فعلى سبيل المثال، في معركته تلك مع السلفيين يعتبرهم يخدمون دعوة المستشرفين المسلمين إلى فصل الدين عن الحياة، ويخدمون اليساريين في ترويج تفسيرهم المادي للإسلام ولتاريخه!!!
إن إسقاطه لاسم الألباني من بحثه مع ما له من دور أساس في نشر السلفية الحديثية في البلدان العربية وأثر كبير في نشوء التيار الحديثي، كان خطأً فادحاً وغلطاً شنيعاً. ولا أستعبد أنه فعل ذلك متعمداً، لأن استحضاره هذا الاسم أو الوقوف عنده يتناقض وادعائه بأن نوع السلفية يحددها نوع البيئة ونوع الجغرافيا.
ومع أنه في حديثه عن السلفية الحديثية طمس تاريخها وأخفى معاركها مع مدرسة التقليد الفقهي المذهبي في سورية التي ظهرت في أواخر ستينات القرن الماضي إلا أنه -وهو العلماني- زج نفسه فيها، فاصطف مع مدرسة التقليد الفقهي وحاج عنها جدلياً ضد مدرسة أهل الحديث، إذ نفى عن الأولى التمذهب، وأتبت التمذهب على الأخرى، وإن نفته عن نفسها.
المذهبية واللامذهبية في الخلاف بين هاتين المدرستين، له مفهوم محدد ومعين وليس هذا المفهوم عاماً وإطلاقياً، وفي ما يبدو لي أنه في محاجته الجدلية تلك وازى بين هذا المفهوم ومفهوم الأيديولوجيا واللاأيديولوجيا. إن البوطي ليس بحاجة إلى محاجته الجدلية التي تنفي عنه التمذهب. فالفقهاء والمتبعون والمقلدون للمذاهب الأربعة لا يعدون التمذهب منقصة، بل هو عندهم ضرورة لازبة. والبوطي كان من أبرز الفقهاء المتأخرين الذين نافحوا عن التمذهب وحاربوا اللامذهبية.
ومما تقدم عرضه من أقوال باروت، قد يلحظ المختصون أنه يخلط ما بين الوهابيين الحنابلة وأهل الحديث، وأميل إلى أن خلطه هذا كان عن تحامل وليس عن عدم دراية. فكما هو معروف أن الوهابية ومشايخها طيلة القرون الماضية وإلى يومنا هذا، هم متمذهبون فقهياً.