كتاب ومقالات

شرعية المتغير الخارجي

طلال صالح بنان

من أين تستقي الأنظمة السياسية شرعيتها السياسية. سؤال محوري في النظرية السياسية سيطر على الفكر والممارسة السياسية منذ أن ظهرت أول أدبيات علم السياسة المكتوبة في تراث الإغريق القدماء، قبل ٢٥ قرناً. الإغريق القدماء يحسب لهم أنهم أول من درس السياسة كعلم بشري وثيق الصلة بسلوك الإنسان وتوجهه وإرادته، بعيداً عن الأساطير والغيبيات، التي كانت تفسر الظاهرة السياسية كونها مسلمة قدرية.

لم ينقطع تأكيد هذا التوجه البشري للنظرية السياسية، وعلم السياسة بصورة عامة، إلا في العصور الوسطى، عندما تدخلت الكنيسة في تفسير علاقات السلطة في المجتمعات الغربية، وفقاً لنظرية الحق الأعلى (Divine Rright)، لما يقرب من عشرة قرون، منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية بداية القرن الخامس، حتى عصر النهضة منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.

بحلول عصر النهضة: لم يقتصر التقدم العلمي على العلوم الطبيعية، بل أيضاً طال النظرية السياسية، بإعادة الاهتمام بمناهج البحث العلمية، التي سبق وأرساها تراث الإغريق القدماء، بهدف إيجاد تفسيرات حقيقية للظواهر الطبيعية، وكذا للسلوك الإنساني. وقد تأصَّل هذا في نظريات العقد الاجتماعي، التي أرجعت متغيرات ظاهرة السلطة إلى أصولها الطبيعية كونها ظاهرة بشرية بامتياز، تعتمد أساساً على إرادة الناس واختياراتهم السياسية، بعيداً عن أية قوى غيبية «ميتافيزيقية»، بالذات في ما يخص حركة الصراع السياسي على السلطة. وقد توج كل ذلك، من حيث الممارسة، بقيام الدولة القومية الحديثة، منتصف القرن السابع عشر.

منذ ذلك الحين والدراسات في أدبيات علم السياسية تركز على المتغير الداخلي في قياس الشرعية السياسية لأي نظام سياسي، في ما إذا كان يمثل إرادة الناس الحرة وقناعاتهم ورضاهم، أو أن يتجاوز ذلك، لتأسيس شرعيته على غير ذلك. من ثم جرى هذا التقسيم التقليدي بين الأنظمة الديموقراطية والأنظمة الشمولية السلطوية. في الأولى يمثل واقع السلطة هرماً مقلوباً تحدد قاعدته مصير قمته. بينما في الحالة الثانية تمثل: هرماً قائماً تسيطر قمته على قاعدته، بموجب شرعية سياسية، لا يشترط أن تكون نتاجا لحراك أو إرادة قاعدته، وإن يحدث أن يراعى ذلك، من الناحية الشكلية، على الأقل.

إلا أن هذه النظرية التقليدية لشرعية الأنظمة السياسية، ومن ثم محاولة تصنيفها، سواء كونها أنظمة ديموقراطية أو شمولية، لا تعكس الصورة الفعلية للشرعية السياسية في أي نظام سياسي، لخطأ منهجي وعملي خطير، ألا وهو: افتراض أن مصادر الشرعية السياسية، لأي نظام سياسي، هي مكونات داخلية محلية، بصورة حصرية. ومما كرس التركيز على الإقليمية المحلية هذه للنظر في حقيقة الشرعية السياسية، لأي نظام سياسي، خطأ منهجي آخر وثيق الصلة بمفهوم الدولة القومية الحديثة، وذلك في افتراض: أن وجود نظام سياسي وطني يتمتع بالسيادة ويحتكر السلطة وأدواتها في المجتمع، بعيداً عن أية مؤثرات أو تدخلات إقليمية أو دولية، يمكن أن يكون لها دور في تشكيل وضعية الشرعية السياسية، لأي نظام سياسي، بغض النظر عن درجة ومستوى التنمية السياسية التي وصل إليها. ساهم في ترسيخ فكرة هذه السيادة المطلقة للدول: قواعد القانون الدولي.. وأسس التعامل الدولي بين الدول، بل حتى حديثاً يفترض ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته ويؤكد على ذلك في مواده، من أن الدول تتمتع بالسيادة المطلقة، حتى بما يفوق التزاماتها الدولية بموجب الميثاق!

لكن في حقيقة الأمر وواقع الحراك المحلي لمجتمعات الدول الحديثة.. وكذا الحراك الإقليمي والدولي، في مجال حركة الظاهرة السياسية الخارجي، يؤكد أن للمتغير الخارجي دورا في تحديد شكل، بل وحتى في تحديد مصير حركة السلطة في مجتمعات الدول، بما قد يفوق أحياناً تأثير المتغيرات الداخلية. التاريخ الحديث مليء بمحاولات عبث الدول الكبرى والغنية في تحديد شكل ونوعية النخب السياسية، في كثير من دول العالم الثالث... بل حتى فرض ودعم أنظمة لا يمكن القول بأنها تمثل الإرادة الحقيقية لشعوبها. الولايات المتحدة، على سبيل المثال: كثيراً ما أتت بالعسكر ودعمتهم، في كثيرٍ من دول أمريكا اللاتينية، بل حتى فرضتهم بالقوة على شعوبهم، كما هو حال تاريخ الانقلابات العسكرية في تشيلي والأرجنتين. بريطانيا وفرنسا عملت نفس الشيء في دول أفريقية عدة.. بل إن الغرب أقام دولاً بأكملها على حساب شعوب بأكملها، مثل ما هو الحال في فلسطين.. وقبل ذلك في الأنظمة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا، وقت الحكم العنصري الأبيض، الذي قام على أساس (الابارتايد).

لعبة الدول الكبرى في تجاوز إرادة الشعوب وفرض نخب سياسية «وطنية» تستمد شرعيتها أساساً من تلك الدول الخارجية، وليس بالضرورة تعبيراً عن إرادة شعوبها الحرة لم تنته، ولن تنتهي، طالما أن هناك نزعة إمبريالية استعمارية، تتحكم في سلوك السياسة الخارجية للدول الكبرى، مهما بلغ تمتع حكوماتها داخلياً بشرعية سياسية تعكس إرادة شعوبها الحرة.. ومهما بلغ تشدقها بدعاوى نشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، في العالم.

هذا التوجه للدول الكبرى في التنكر لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس حكراً على دول الغرب، بزعامة الولايات المتحدة فقط، لكن ذلك كان سلوك الاتحاد السوفيتي السابق، الذي ورث النزعة التوسعية لروسيا القيصرية، واستعادتها روسيا الاتحادية، ولكن بصورة أكثر شراسةً واستعاراً، كما حال تدخل موسكو السافر في سورية، لدعم نظام بشار الأسد، الذي لفظه الشعب السوري، بينما يصر الأسد على بقائه في السلطة، حتى ولم يبق في سورية أحد يحكمه! بل إن الأمر بات مثار تقليد من قوى إقليمية تتملكها نزعات توسعية.. وتدفعها أيديولوجيات متطرفة، وثارات تاريخية حاقدة، كما هو سلوك إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

هذا التدخل في إرادة الشعوب وخياراتها النابعة من مصالحها، بفرض أنظمة سياسية لا تعكس شرعيتها إرادة هذه الشعوب الحرة، هو من أكثر عوامل عدم الاستقرار الداخلي لكثير من الدول.. ومن أهم أسباب ما تعانيه المنطقة من توتر وعدم استقرار، بل وأدعى للإضرار بسلام العالم وأمنه.