ثقافة وفن

الشاعر بول سيلان.. وعي شعري فريد وأصيل

غلاف الكتاب.

سعيد بوكرامي (الدار البيضاء)

خصصت مجلة أوروبا الأدبية الشهيرة عددها مزدوج سبتمبر وأكتوبر للشاعر الألماني الكبير بول سيلان.

يمثل بول سيلان كل ما يبدو مستحيلا: كتابة الشعر بعد الحرب، ولكن الكتابة «في» اليباب والرماد، والهدف تحقيق قصيدة مختلفة تستثمر الإبادة بينما تتجاوز الإحباط. «تجربة شعرية منطوقة ضد الموت. وهذا هو الهدف الأساسي منها» كما يقول خوسيه أنخيل فالنتي في النص المنشور في العدد الجديد من أوروبا. تعيد اليوم مجلة أوروبا مجد القصيدة الألمانية بعدما كانت منذ 15 عاما قد خصت الشاعر بول سيلان بعدد كامل نقدا وشعرا ها هي مرة أخرى تستعيد وهجه بقراءات نقدية وشاعرية وتوثيقية ونصوص شعرية وبمشاركة جماعة من أفضل النقاد والأدباء نذكر منهم: جون إي جاكسون وبول أودي وبرنارد بوشنستين وخوسيه أنخيل فالنتي واستير تيليرمان وجان بيير لوفيبر ومارتين برودا ودينيس ثوارد وبيتر تراوني ودانييل كوهين-يفيناس وبرتراند باديو وأندريا لوتروين وأندريه دو بوشيه وكليمنت لايت وباربرا ويدمان وأرناو بونس وكليمنت فرادان...

ينحدر صوت بول سيلان من تخوم الليل، ويقتفي الأدراج اللانهائية للظلال الخفية، أو الصامتة، لابتكار كلمة جديدة، وكشفا جديدا. لكن عند بول سيلان ستكون هذه الولادة رهيبة، وشاقة. رسالته مشفرة وعسيرة المنال تحمل في طياتها ضوءا خافتا من الأمل وكأنها داخل قنينة ملقاة في بحر. قد تصل إلى الجهة الأخرى، حيث اليد والنظرة والإصغاء المختلف.

ترحل كلماته إلينا كلمة، كلمة، لتعيش معنا من جديد. رغم اللغة التجريدية، لا يحظر علينا المعنى يحضر بقوة من أسره وعتمته مضيئا بشغفه الممهور بالحرية والرغبة في حياة إنسانية أفضل. من داخل بستان الشعر الألماني المعاصر يبزغ شعر بول سيلان مشرقا من أعماق وعي شعري فريد وأصيل، لهذا السبب ما زال يُنشد معينه وتُنشد قصائده في كل مكان. شهرته الآن عالمية. والدليل على ذلك قصائده الكثيرة، التي تحولت إلى أثر شعري لا يسري في شرايين الشعر الألماني، فحسب وإنما في جسد القصيدة الأوروبية. في العقد الأخير تحول شعره إلى موسيقى ونشرت مراسلاته وترجم أثره الأدبي من الألمانية إلى لغات عديدة، وبذلك ازداد شعره توهجا واسمه انتشارا.

يحاول سيلان في أغلب نصوصه أن يواجه رعب التاريخ والحرب بالشعر فارضا لغته الشعرية وشهادته عن جنون العهد النازي. «لا استسلام أمام العدم» كانت هذه رسالته ومعركته. يجب على الشعر أن يقدم شهادته عن الذات والعالم وإجابته عن كل هذه الفظاعات التي يقترفها البشر باسم الحرب. يقول سيلان إن قصائده كلها «تقف إلى جانب الموت، والموتى لم يكونوا أبدا وحدهم».. كانت أصواتهم حاضرة بقوة في شعره، لهذا كان الشعر لا يكتب غير أصداء الغائبين والمنسييين والمهمشين.

قصائد سيلان هي ارتداد إلى الذات صوب الذات، لكن هذه الحوارات الذاتية كانت في الغالب تدفعه نحو العدم والاغتراب المطلق.

يقول الشاعر:

«الليل

لا يحتاج إلى نجوم، فلا أحد

يهتم بنا». في قصائد بول سيلان يتردد صدى هايدغر، أدورنو، ماندلستام، هاينه... وغيرهم من الملهمين. ورغم الغموض الشديد المترسب في قصائده، كحجاب سميك. يمنع القارئ من اختراق عوالمه الشعرية، إلا أنه تمكن بفضل قصائد محددة مثل قصيدة «هروب الموت» التي كتبها عام 1947 من تحقيق شهرة كبيرة في أوروبا. وفي وقت لاحق في أنحاء العالم. اسم بول سيلان الحقيقي هو بول بيساش أنتسشيل أو أنسيل بالرومانية. ولد في 20 نوفمبر 1920 بتشيرنوفيتش الرومانية التابعة حينذاك لألمانيا. حصل على الجنسية الفرنسية عام 1955. ويعتبر وبالإجماع أعظم شاعر باللغة الألمانية ما بعد الحرب العالمية. لم يفهم الشاعر في الأوساط الثقافية الألمانية عامة وبين مثقفي جماعة 47 خاصة الذين كانوا ينظرون إليه بازدراء. لكن تدريجيا نمت دائرة الاهتمام به، وذلك بفضل أندريه دو بوشيه ومارتين برودا، ولكن في عام 1970 قرر الصمت بطريقة درامية ملقيا نفسه في نهر السين بباريس في أحد أيام أبريل. ربما في ليلة 19 أو 20 أبريل 1970. وفي جيبه تذكرتان غير مستعملتين لحضور عرض مسرحية «في انتظار غودو». شعر سيلان ما زال حاضرا بقوة في الكثير من التجارب الشعرية العالمية، كضوء يسبح في تجاه مريدي العمق الشعري مزيج من دماء الحرب ومياه الأحزان البشرية.

ولا بد من الإشارة إلى أن سيلان كان مترجما فذا لـ(ماندلستام، ميشو، شار، أونغاريتي، ألكسندر بلوك، سيرجي يسنين...)، مؤكدا أن الشاعر لا يعرف حدود المستحيل، فبنقله هذه التجارب الشعرية إلى اللغة الألمانية قدم مجهودا ثقافيا حقيقيا لأن القصائد هدايا فريدة عن مصير الإنسان الذي يرى بحواسه المرهفة والمتيقظة ما لا يراه الكثيرون، يجوس نبض العالم وينسج تاريخا من الحواس والكلمات والجمال. يقول سيلان:

لقد حان الأوان لنعرف

لقد حان الأوان للحجر أن يعتاد الإزهرار

وأن يستريح القلب من اللاطمأنينة

لقد حان الأوان أن يصير الزمن

ذلك الأوان.