كتاب ومقالات

من جفف ينابيع الخيال ومحفزات التخيل؟

عبداللطيف الضويحي

الكل يتحدث هذه الأيام عن الإبداع، الصغار الكبار، النساء الرجال، رجال الأعمال الجدد، السياسيون، التربويون، الأكاديميون، الكتاب، المهندسون، الأطباء، الطباخون، جميع المهنيين على اختلاف مهنهم يحدثونك عن الإبداع ويربطون الإبداع بالمنافسة والنجاح.

لا شك، أن حمى الإبداع هذه ارتبطت ارتباطا وثيقا بثورة الاتصالات ومعطياتها خاصة الأجهزة الذكية ارتباطا مباشرا أو غير مباشر. انعكس ذلك على القيم الثقافية المجتمعية والعلاقات الاجتماعية والبشرية وأحدثت تحولات كبيرة في المفاهيم الحياتية.

لكن كل ما قدمته حمى الإبداع هذه لم ينجح بتحويل السلوك الاستهلاكي لدى الفرد والمجتمع إلى سلوك إنتاجي. لقد وقف هذا الحراك عاجزاً أمام حمى الاستهلاك. فلم يتمكن من اختراق وتغيير القيم الاستهلاكية إلى قيم إنتاجية، ولم ينجح في استزراع قيم العمل المهني والصناعي والتقني.

لا يزال السعوديون في غالبيتهم يتكدسون في الأعمال الإدارية الحكومية الروتينية وبعض الأعمال التجارية ولم ينجحوا في اختراق الكثير من الأعمال المهنية والتقنية والصناعية، ولا يزال نظام الخدمة المدنية بعيدا عن الإبداع التعامل مع العاملين في الجهاز الحكومي بعيدا عن روتين الوظيفة وليس المهنة والحرفة، ولا تزال النقابة المهنية والعمالية غير مطلوبة ضمن شروط التقدم للعمل في الجهاز الحكومي والقطاع الخاص، ولا تزال الأسرة السعودية تعتمد في غالبيتها اعتمادا كبيرا على العاملات المنزليات والسائقين، ولا تزال مدارسنا بعيدة عن الإبداع في استخدام التقنية والأجهزة الذكية وتوظيفها بذكاء وبطريقة بديلة عن الاستخدام التعليمي التقليدي، ولا تزال الحكومة الإلكترونية بعيدة عن الإبداع وتعمل في اتجاه واحد فقط أو متعثرة، ناهيك عن عدم التغلب على كمية الإجراءات والأعمال الروتينية التي تفتقر للحد الأدنى من الإبداع والابتكار.

نحن بحاجة لتغيير الكثير من التشريعات لتستجيب لثورة الإبداع المتزامن لثورة التقنية، يجب أن يكون أحد أهداف التشريعات الجديدة والمجددة هو تقبل مفهوم الإبداع والابتكار، يجب أن نأخذ بالاعتبار المفاهيم الجديدة عند أي إجراء جديد لتستجيب الأنظمة والتشريعات لهذا الزخم بمفهوم الإبداع والابتكار والنأي عن الروتين القاتل المنفر من العمل والنجاح.

يجب تفكيك قيم الاستهلاك التي ترى المال هو الحل لكل مشكلاتنا والمفتاح لكل العقبات التي تواجهنا. لقد عشنا عقودا من الزمن، الحكومة والشعب بالاعتماد على المال حلاً لكل مشكلة ومفتاحا لكل معضلة وقد حان الوقت لتبني منهجيات تتجاوز المال وتلجأ لبدائل، فقد أفسد المال كل الحلول وعطل التفكير الطبيعي للتعامل مع المشكلات والفرص، حتى رسم الآخرون عنا هذه الصورة وأصبحوا يتعاملون معنا بهذا المفهوم وبهذه الثقافة.

أصبحت قيم الاستهلاك مقدمة على قيم الإنتاج لدى الفرد السعودي ولدى المجتمع ولدى المؤسسات السعودية، وذلك لأسباب أهمها وأبرزها توفر المال وسهولة الاعتماد على الغير، وانعدام المبادرة الفردية، وبسبب جلاميد العقليات البيروقراطية والأنظمة الروتينية، وتوفر العنصر البشري غير المهني وغير المدرب.

نحن بحاجة للاعتناء بالخيال واستنطاق ملكة التخيل لكي يكتمل المعنى الحقيقي للإبداع والابتكار والخلق والنجاح. لا يمكن أن يؤتي الإبداع ثماره من دون العمل الجاد والمستمر على الخيال بين كافة الأجيال. الخيال هو جذوة الابتكار وشعلة الإبداع ونبراس الخلق. الكتابة بحاجة إلى الخيال للإبداع بكتابة الرواية والقصة والمقالة والدراسات والبحوث. الصناعة بحاجة إلى الخيال للإبداع والتفنن بمجالات الصناعة والتصنيع والتجارة بحاجة للخيال للإبداع في مجالات التجارة والأعمال والاستثمار، والإدارة بحاجة للخيال لابتكار آفاق مهمة وحيوية لرفع قيم العمل ورفع الإنتاجية وتحسين جودة المنتج والمنافسة.

يقول إنشتاين إن الخيال أهم من المعرفة. والخيال أو التخيل موجات تتدفق داخل العقل إما من تجارب الإنسان أو من أوهامه وإلهاماته، تغذيها حواسنا الخمس، وهذا يعني أن الفرد وليس المؤسسة هي مبعث نجاحات المؤسسات وهذا يعني كذلك ضرورة إنعاش مصادر الخيال والتخيل في البيت وفي المدرسة وفي العمل. للأسف وقع الغالبية فريسة للأفكار الجاهزة التي نتلقاها معلبة دون إتاحة المجال للخيال.

علينا أن ندرك بداية حجم المشكلة المترتبة على تجفيف ينابيع الخيال، لكي ندرك ضرورة تخصيص أوقات وأدوات إنعاش وإحياء قدرة الفرد على الخيال والتخيل. نحن لا نخصص أي وقت في منازلنا لتدريب أبنائنا على الخيال والتخيل ولا نتيح أي إمكانية لتفعيل الخيال لديهم. على الأسرة أن تهتم بهذه القدرات لدى الأطفال بشكل أساسي وتخصيص الوقت والمكان والأدوات التي تغذي الخيال وتستنطق هذه الملكة لدى الفرد. أما المدارس فلا أعرف مدرسة واحدة أو مؤسسة تعليمية واحدة تعير هذا الموضوع اهتماما. يجب أن نعرف أن التلفزيون يعيق الخيال لدى المتلقي عكس الاستماع. وكلنا يعرف حجم المشاهدة التي يتعرض لها الأطفال. ناهيك عن غياب الاستماع تماما بعدما زاحمت المادة المشاهدة نظيرتها المسموعة. لقد فقدنا الكثير من قيمة الاستماع بسبب الإدمان على المشاهدة.