الإسلام الحنبلي ضُبطت ساعته على التوقيت التركي!
السبت / 25 / ربيع الأول / 1438 هـ السبت 24 ديسمبر 2016 02:04
عرض: فاروق عيتاني *
صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، كتاب (الإسلام الحنبلي) لجورج مقدسي، ترجمة سعود المولى، مراجعة وتقديم رضوان السيد، 128 صفحة،2017.
كتاب عبارة عن أربع محاضرات كان المستشرق الأمريكي المولد اللبناني الأصل جورج مقدسي قد ألقاها في الكوليج دي فرانس في ديسمبر1969 وفي مقالتين نشرتهما مجلة الدراسات الإسلامية الفرنسية في سنتي 1974 و1975، المجلدين 42 و43، العددين 2 و1 على التوالي.(l’jslam Hanbalisant) – Revue des e’tudes islamiques.
وتناولت المحاضرات المواضيع الأربعة التالية (الاستشراق الغربي والتاريخ الديني الإسلامي، مؤسسات التعليم والحركات الدينية، الصوفية والحنبلية، الأورثوذكسية الإسلامية).
حكاية ترجمة المقالتين ونشرهما: سنة 1983 كان المناضل اليساري اللبناني الدكتور المولي سنة 1983 موجودا في باريس، فارتأى تقديم ترجمة للمقالتين في إطار التدليل على تسامح الإمام أحمد ورفع مفاهيم خاطئة ألصقت به ومنتشرة عنه ودفع بالترجمة حينها إلى الدكتور رضوان السيد ليراجعها ويقدم لها تزكية باعتبار صاحبهما مستشرق مسيحي ومثقف شيعي إثنى عشري بالولادة.
كان الدكتور رضوان يتعاون يومها مع معهد الإنماء الوثيق الصلة بليبيا القذافي، وكان قد سبق له حينها أن ترجم كتاباً عن ابن حنبل. وكان من المفترض أن يعيد أوراق الترجمة إلى المولى لكنه أضاعها. وهكذا بقيت ترجمة المولى ضائعة عند الدكتور رضوان إلى أن عثر عليها بعد 33 سنة! فكتب تقديما لها وعمل على نشرها في الشبكة العربية للأبحاث والنشر السعودية التي سبق لرضوان أن راجع وقدم لها على كتاب [M1] نيمرود هوريتز المنشور فيها تحت اسم (أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي... الورع في السلطة) ترجمة غسان علم الدين (صحيفة الشرق الأوسط 16 نوفمبر2010، مقال رضوان السيد، أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي). يشير الدكتور رضوان في نهاية تقديمه لهذا العمل إلى «أن عمل جورج مقدسي الصغير هذا عمل مبدع، وفيه أفكار كثيرة تستحق الاهتمام والنقاش. وقد قام الصديق الأستاذ سعود المولى بترجمة العمل ترجمة متقنة، وزوده بتعليقات كثيرة ومفيدة. ولأنني أحببت المقالة مذ قرأتها قبل 30 عاما، فقد استجبت بسرعة لطلب الصديق أن أقوم بالمراجعة والتقديم...». وكان قد تناول الباحث السعودي سعود السرحان موضوع موقف الاستشراق من الحنابلة والإمام أحمد، في جريدة «عكاظ» مفصلا في خمس حلقات نشرت بعنوان: الحنبلية المبكرة في الدراسات الاستشراقية أهداها - كما قال - إلى «أستاذي الدكتور رضوان السيد الذي خرَّجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة».
ضبط الساعة على التوقيت الأوروبي.. ضبط الساعة على التقويم الأوروبي عبارة المقصود فيها أننا في المشرق نعلي مفكراً إن أعلاه الغرب ونحط من شأنه إن حط الغرب من شأنه وكذا في موضوع المفاهيم. هكذا حصل مع ابن خلدون وابن رشد وغيرهما وهكذا حصل ويحصل في كل المواضيع الثقافية. لكن في موضوع أحمد بن حنبل فإن الغرب ضبط ساعته على التوقيت التركي، فمن المعروف أن الأتراك كانوا على عداء تام مع حركة محمد بن عبدالوهاب ولما كانت تعنيه في منتصف القرن 19 من محاولة إقامة خلافة عربية تقف في وجه الاندفاع الغربي. ولا ننسى في هذا السياق وكذا حملة طومسون باشا العسكرية نحو الدرعية. وقد توارث الأتراك هذا الموقف وصولا إلى الحرب العالمية الأولى، فمحمد كرد علي رئيس تحرير صحيفة (الشرق) الناطقة باسم الجيش الرابع العثماني يصف حركة الشريف حسين بأنها حركة وهابية! وعبدالقادر الجزائري الصوفي، شيخ الطريقة التيجانية، وحامل الجنسية الفرنسية، والمتلقي لراتبه من دولة فرنسا حرص خلال إقامته منفياً من قبل فرنسا إلى الشام على جمع مخطوطات ابن تيمية وحرقها. من هنا نظر الغرب والمستشرق جولدزيهر إلى الحنبلية كمذهب ثانوي لكن ومع الدخول الأمريكي إلى المنطقة عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت تتغير النظرة إيجاباً إلى الحنبلية، فانتشرت رؤية هنري لاووست الإيجابية إلى الحنبلية وتبعه تلميذه جورج مقدسي مدللين على أن في الحنبلية اتجاها عقليا وتسامحا وتصوفا. وهذه حقيقة موجودة إلى حد كبير وأبرز مفكريهم ابن تيمية الذي يجري تجاهله باستمرار. أما التصوف، فلعل الغرب خلط بين مفهوم الزهد والتصوف الحلولي أو الاتحادي. وما لاحظته أن المقدسي وإن كان في مقالتيه قد ركز على توضيح وإزالة الكثير من اللبس عن المدرسة النظامية إلا أنه لم يتطرق إلى منهج الحنابلة في التأويل القائم على السياق ورفض المجاز في فهم النصوص. وهو ما ميز الحنابلة بشكل أساسي كما أرى. لم يهتم الحنابلة بالإعجاز القرآني كما لاحظت من دراسة الإعجاز، ذاك أن البحث عن الإعجاز في حقيقته يعكس إلحاح النفس بالشك.. ومن هنا فدراسة الإعجاز هي دراسة أشعرية، فالأشاعرة يصح القول فيهم «قد شبهوه بخلقه وتخوفوا سقط الورى فهم..» والقول هنا هو للمعتزلة وهو أيضا ينطبق عليهم في فهم العدل الإلهي... لقد شكل الحنابلة عبر التاريخ ما يمكن وصفه «بمركز الثقافة العالمة في الفكر الإسلامي» وبخط الدفاع النهائي عن الإسلام الصحيح (ما العلم؟ العلم قال الله وقال الرسول) وفقههم يقوم على مصلحة الجماعة المسلمة. لا مقاصد الشريعة ولا الاستصلاح ولا الاستحسان. واتسم سلوكهم بالورع والزهد. إن تمسك الحنابلة بالأسماء والصفات في الذات جعلت منهم أكثر المذاهب بعداً عن التجريد. وهيغل يقول إن العنف مرتبط بالتجريد.
في النهاية فقراءة كتاب الإسلام الحنبلي «فرض عين» على كل مثقف - كما قال - بهذا المفكر والباحث اللبناني وسام سعادة في تعليقه على الكتاب بصفحته على الفيسبوك.
* كاتب لبناني
كتاب عبارة عن أربع محاضرات كان المستشرق الأمريكي المولد اللبناني الأصل جورج مقدسي قد ألقاها في الكوليج دي فرانس في ديسمبر1969 وفي مقالتين نشرتهما مجلة الدراسات الإسلامية الفرنسية في سنتي 1974 و1975، المجلدين 42 و43، العددين 2 و1 على التوالي.(l’jslam Hanbalisant) – Revue des e’tudes islamiques.
وتناولت المحاضرات المواضيع الأربعة التالية (الاستشراق الغربي والتاريخ الديني الإسلامي، مؤسسات التعليم والحركات الدينية، الصوفية والحنبلية، الأورثوذكسية الإسلامية).
حكاية ترجمة المقالتين ونشرهما: سنة 1983 كان المناضل اليساري اللبناني الدكتور المولي سنة 1983 موجودا في باريس، فارتأى تقديم ترجمة للمقالتين في إطار التدليل على تسامح الإمام أحمد ورفع مفاهيم خاطئة ألصقت به ومنتشرة عنه ودفع بالترجمة حينها إلى الدكتور رضوان السيد ليراجعها ويقدم لها تزكية باعتبار صاحبهما مستشرق مسيحي ومثقف شيعي إثنى عشري بالولادة.
كان الدكتور رضوان يتعاون يومها مع معهد الإنماء الوثيق الصلة بليبيا القذافي، وكان قد سبق له حينها أن ترجم كتاباً عن ابن حنبل. وكان من المفترض أن يعيد أوراق الترجمة إلى المولى لكنه أضاعها. وهكذا بقيت ترجمة المولى ضائعة عند الدكتور رضوان إلى أن عثر عليها بعد 33 سنة! فكتب تقديما لها وعمل على نشرها في الشبكة العربية للأبحاث والنشر السعودية التي سبق لرضوان أن راجع وقدم لها على كتاب [M1] نيمرود هوريتز المنشور فيها تحت اسم (أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي... الورع في السلطة) ترجمة غسان علم الدين (صحيفة الشرق الأوسط 16 نوفمبر2010، مقال رضوان السيد، أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي). يشير الدكتور رضوان في نهاية تقديمه لهذا العمل إلى «أن عمل جورج مقدسي الصغير هذا عمل مبدع، وفيه أفكار كثيرة تستحق الاهتمام والنقاش. وقد قام الصديق الأستاذ سعود المولى بترجمة العمل ترجمة متقنة، وزوده بتعليقات كثيرة ومفيدة. ولأنني أحببت المقالة مذ قرأتها قبل 30 عاما، فقد استجبت بسرعة لطلب الصديق أن أقوم بالمراجعة والتقديم...». وكان قد تناول الباحث السعودي سعود السرحان موضوع موقف الاستشراق من الحنابلة والإمام أحمد، في جريدة «عكاظ» مفصلا في خمس حلقات نشرت بعنوان: الحنبلية المبكرة في الدراسات الاستشراقية أهداها - كما قال - إلى «أستاذي الدكتور رضوان السيد الذي خرَّجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة».
ضبط الساعة على التوقيت الأوروبي.. ضبط الساعة على التقويم الأوروبي عبارة المقصود فيها أننا في المشرق نعلي مفكراً إن أعلاه الغرب ونحط من شأنه إن حط الغرب من شأنه وكذا في موضوع المفاهيم. هكذا حصل مع ابن خلدون وابن رشد وغيرهما وهكذا حصل ويحصل في كل المواضيع الثقافية. لكن في موضوع أحمد بن حنبل فإن الغرب ضبط ساعته على التوقيت التركي، فمن المعروف أن الأتراك كانوا على عداء تام مع حركة محمد بن عبدالوهاب ولما كانت تعنيه في منتصف القرن 19 من محاولة إقامة خلافة عربية تقف في وجه الاندفاع الغربي. ولا ننسى في هذا السياق وكذا حملة طومسون باشا العسكرية نحو الدرعية. وقد توارث الأتراك هذا الموقف وصولا إلى الحرب العالمية الأولى، فمحمد كرد علي رئيس تحرير صحيفة (الشرق) الناطقة باسم الجيش الرابع العثماني يصف حركة الشريف حسين بأنها حركة وهابية! وعبدالقادر الجزائري الصوفي، شيخ الطريقة التيجانية، وحامل الجنسية الفرنسية، والمتلقي لراتبه من دولة فرنسا حرص خلال إقامته منفياً من قبل فرنسا إلى الشام على جمع مخطوطات ابن تيمية وحرقها. من هنا نظر الغرب والمستشرق جولدزيهر إلى الحنبلية كمذهب ثانوي لكن ومع الدخول الأمريكي إلى المنطقة عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت تتغير النظرة إيجاباً إلى الحنبلية، فانتشرت رؤية هنري لاووست الإيجابية إلى الحنبلية وتبعه تلميذه جورج مقدسي مدللين على أن في الحنبلية اتجاها عقليا وتسامحا وتصوفا. وهذه حقيقة موجودة إلى حد كبير وأبرز مفكريهم ابن تيمية الذي يجري تجاهله باستمرار. أما التصوف، فلعل الغرب خلط بين مفهوم الزهد والتصوف الحلولي أو الاتحادي. وما لاحظته أن المقدسي وإن كان في مقالتيه قد ركز على توضيح وإزالة الكثير من اللبس عن المدرسة النظامية إلا أنه لم يتطرق إلى منهج الحنابلة في التأويل القائم على السياق ورفض المجاز في فهم النصوص. وهو ما ميز الحنابلة بشكل أساسي كما أرى. لم يهتم الحنابلة بالإعجاز القرآني كما لاحظت من دراسة الإعجاز، ذاك أن البحث عن الإعجاز في حقيقته يعكس إلحاح النفس بالشك.. ومن هنا فدراسة الإعجاز هي دراسة أشعرية، فالأشاعرة يصح القول فيهم «قد شبهوه بخلقه وتخوفوا سقط الورى فهم..» والقول هنا هو للمعتزلة وهو أيضا ينطبق عليهم في فهم العدل الإلهي... لقد شكل الحنابلة عبر التاريخ ما يمكن وصفه «بمركز الثقافة العالمة في الفكر الإسلامي» وبخط الدفاع النهائي عن الإسلام الصحيح (ما العلم؟ العلم قال الله وقال الرسول) وفقههم يقوم على مصلحة الجماعة المسلمة. لا مقاصد الشريعة ولا الاستصلاح ولا الاستحسان. واتسم سلوكهم بالورع والزهد. إن تمسك الحنابلة بالأسماء والصفات في الذات جعلت منهم أكثر المذاهب بعداً عن التجريد. وهيغل يقول إن العنف مرتبط بالتجريد.
في النهاية فقراءة كتاب الإسلام الحنبلي «فرض عين» على كل مثقف - كما قال - بهذا المفكر والباحث اللبناني وسام سعادة في تعليقه على الكتاب بصفحته على الفيسبوك.
* كاتب لبناني