تعال يا زمان!
الأربعاء / 06 / ربيع الثاني / 1438 هـ الأربعاء 04 يناير 2017 02:11
فؤاد مصطفى عزب
ضباب الصباح الرقيق في يناير. الأشجار في الخارج عارية من الورق لكنها مكللة بأضواء صغيرة كجيد حسناء. الغيوم تفرش فستانها الأبيض في مملكة السماء معلنة زفاف مطر قريب. القرية تعوم في أضواء قزحية ترسم لوحة بديعة على وجه الزجاج. يحتضن الضوء كل شيء هنا. في أول العام ثمة رغبة تسرقني إلى الخارج. أرتدي معطفي الثقيل وأقطف الشال الكشميري لألف به عنقي. أعشق البرد وأخشاه. بحثت في كل الزوايا عن نظارتي بدون جدوى.. لم يكن أمامي سوى أن أضع المعطف وأنزل إلى الشارع الجميل ذي البنايات القرمدية الأسطح وصفوف أشجار الكستناء المنزوعة الأوراق. كان الطريق شبه مهجور. مشيت ما يقارب ثلاثمائة متر بوجه الريح القارص والضباب لأجد الدكان الذي قصدته مغلقاً. وجهت أدراجي نحو مقهى قريب كنت متأكد أنه سيوفر لي قليلا من الدفء وبعض الموسيقى الريفية وقبل كل شيء القهوة. مشيت وأنا أرتعش شارعاً بعد شارع. فجأة هطل المطر.. هذا الساحر الذي يجعلني أذكر كل ما نسيت لأنسى بعض ما أريد.. عثرت أخيراً على نظارتي في جيب معطفي الرمادي فرحت بالنظارة فرحتي بالمطر أخذت أتأمل المطر بعد أن احتميت بالمقهى. المطر هنا إن نزل لاينفع معه نوح ولا سفينة.. كان المطر في الباحة حيث أراه يتساقط كشبكة متقطعة أو ستارة رهيفة على الزجاج ينساب أفقياً على درابزين النوافذ ليتدلى كأنه ملبس حلوى ويسقط على السطح الصغير من الزنك أمامي يسيل على شكل شرشف رقيق مموج كانت مزاريب المبني الملاصق للمقهى تنهال فجأة مجدولة بسمك كاف على الأرض وتتكسر على شكل شرائط متألقة!! عجيب الطقس في هذه القرية كلما تبسم النهار قليلاً ترفع سحابة يدها وتصيح رعداً كنت أشرب القهوة وأتأمل النادل السارح في تأملاته ربما يحصي الكراسي الفارغة امرأة بالخارج تزوبع في ثوبها الريح فتحتمي بشجرة جُلدت جذوعها وأوراقها على الرصيف وأخرى بالداخل عجوز لم تعد عذراء منذ دهر تحملق في تمثال إغريقي عارِ انتصب في وسط نافورة بالمقهى ضخم مقطوع الرأس والذراع اليسرى والساق الأيمن جلست في مواجهتي وانكفأت على لائحة الطعام لم ينتبه النادل على ما يبدو إلى ما قد طلبته بالتحديد فقد كانت تترنح بين القائمة والتمثال جاءها أخيراً بفخذ دجاجة مشوية وقدح من الشراب وملعقة وشوكة ذكريات كانت موسيقى بصوت ((كاني روجر)) تصدح ((لقد اخترتِ الوقت المناسب لتتركيني لوسيلا الحقل حان حصاده والأطفال صغار)) أفقت من عتاب ((كاني روجر على لوسيلا)) على وجه صديق مر من أمامي كقهوة في عزاء حرضني على مرافقته في مسيره بالعربة عبر الشوارع العاصفة كنت مستسلماً لفكرة الذهاب بعيداً. فلمَ الرفض. أخذني بسيارته عبر طريق يخترق الوادي. هذا الوادي الذي طالما حلمت أن أكون حجراً في أسفله.. قلت له إلي أين نحن ذاهبون قال إلى حيث تركتني أعيش مع والدتي حتى الآن!! قلت له ألم يحن الوقت أن تمتلك بيتاً لنفسك قال لي وبسمة باهتة على شفتيه في الستين يا دكتور ما تحتاجه في الحياة صندوق بريد وتلفون نقال وإنسان يحبك ولا يحتاج منك سوى محبتك وتحلقنا حول طاولة المطبخ ثلاثتنا أنا وصديقي الأشقر كالتين المطبوخ وأمه التي لفت نفسها بمعطف نبيذي تلمع أزاريره كربع دولار ومنديل أسود على رأسها وتنورة أسكتلندية مخططة كأنها تلف بها الزمان.. كان المنزل كرتونة خشبية مربعة مغطاه بالثلج والبرد والمطر وضعت العجوز أبريق القهوة بيننا وقدمت لنا شكولاته وبعض الفطائر كنت أمازحها بسؤالي عن مصير القلب الأشقر إن كان مازال يدق مع أجراس الكنائس كل أحد قالت لي تركته في الخزانه مع الثياب واواني البيت بعد ان تركه ((جف)) كلنا ماضون ولكن ((جف)) مازال حياً إنه ينتظرني في الجنه لقد شغلت نفسي بسماع الأخبار والعراك مع تراب الحديقه والغناء وأحفادي العشرة لابد أن أهادن الزمان فهو كالماء لا يقضم إلا النبات العجوز لقد ذهب طائري الذي يستحق الحب وترك نصف طائر ينتظر بارودة الصياد فوق غصن الحياة.. قطع حديثنا صغير يقهقه وحوله صغار يسحبون طفل يتعثر في لحيته الصناعية البيضاء الطويلة ينادون على بعض ((جنكل بيل.جنكل بيل أول ذا واي))!!