العقل العربي.. الخروج من دائرة «الاجترار» إلى فضاء «الابتكار»
الأربعاء / 20 / ربيع الثاني / 1438 هـ الأربعاء 18 يناير 2017 01:47
نجيب يماني
مع التّسليم المطلق بأنّ الفكر العربي يعيش إشكاليات حقيقية منذ أمد ليس بالقصير، تتمثّل إجمالاً في جموده وتكلسه، وعدم قدرته على مواجهة التحدّيات العصرية، والإسهام بالقدر المأمول في معادلة التنمية العالمية، وتجاوز عقبات التخلّف في كلّ مناحي الحياة العربية؛ فإنّ هذا الواقع البئيس حري بأن يشغل بال المعنيين بالأمر، للذهاب أبعد من توصيف العلة توصيفًا سطحيًا؛ بل الذهاب عميقا لاستقصاء الجذور المحتملة التي أفضت إلى هذه الإشكاليات، مهما كانت درجة تشابكها، والمحاذير التي تحوطها، وشراسة «حرّاس» الأفكار البالية والمحنطة.
ويحمد للأمير خالد الفيصل مبادراته بإنشاء مؤسسة الفكر العربي، وتسنمه رئاستها، فقد دأبت هذه المؤسسة في كلّ مؤتمراتها، التي بلغت 15 مؤتمرا، على تحليل واقع الثقافة والفكر العربي بشكل مفصّل وموثق بالأرقام والإحصائيات التي لا تكذب، وهو جهد مقدر، وعمل مشكور، غير أنّي أرى أنّه يصرف جلّ جهده في توصيف العلة بأكثر من طرحه لأفق الحل، والدليل على ذلك أنّ معظم - إن لم يكن كلّ - الإشكاليات التي أشارت إليها مؤتمرات الفكر العربي، وآخرها «فكر 15»، ظلّت في تفاقم مستمر، وفق الأرقام والإحصائيات، ولم تبرز للسطح أيّ علامات لحلول متبناة توقف من نمو هذه الإشكاليات، ناهيك أن تقضي عليها لصالح الوجه الإيجابي المأمول.. ويعود ذلك إلى غياب العقل العربي عن إنتاج أفكار موضوعية، لا تتعامل مع القضايا بشكل آني، ومعالجات تخديرية أو إسعافية، بقدر ما تطرح فكرا متجدّدا؛ أبرز سماته استيعابه الواعي للتاريخ والحضارة والثقافة العربية قديمًا وحديثًا بشكل يعصمها من ترحيل القديم بكل تبعاته وأخطائه، مع قدرته الواعية لمسايرة الحاضر بروح العصر، والمساهمة في معادلة التنمية بطرح أفكار منسجمة مع الواقع المعيش، فضلاً عن استشرافها لآفاق المستقبل بعقول نافذة، وقراءات بصيرة، وذكاء وقّاد.. وهذا الأمر أشار إليه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، في كلمته التي افتتح بها «فكر 15» مؤخرا، حين قال:
«إلى متى نبقى أسرى معادلة عقيمة..
إمَّا التكفير، أو التغريب.. إمَّا الأصالة أو المعاصرة..
إمَّا التشدد، أو الانحلال؟
لماذا لا نخرج ببديل.. مبني على دليل؟
لماذا لا نطرح فكر نهج جديد..
بالعلم والعمل والرأي السديد؟»
إن هذه الإشارة عميقة الدلالة، كونها تشير إلى العلّة الأساسية التي أقعدت العقل العربي عن التحرر من إسار ثنائية الأضداد، التي وسمت حياته في كلّ مناحيها ردحا من الزمن، حتى أصبح العقل العربي في مجمله عقلا تنميطيًا، لديه خانات وقوالب جاهزة سلفًا، يسعى بخفّة لا يحسد عليها إلى الفرز السريع، والتصنيف المتعجل، ووضع ما يلقى عليها في هذه الخانات الضيقة، ذات الأسقف المنخفضة، بما يشي برغبة في تعطيل مساحات التفكير والتأمل، ومناقشة القضايا والأفكار من كل زواياها، وتمحيصها بحيث تخرج من قوالب الـ«ضد» والـ«مع»، لتقبل مبدأ المشاركة والمحاورة على قاعدة التفاعل، والبحث عن القواسم المشتركة مع الأفكار الأخرى، وصولا إلى أقصى احتمالات تعايش الأفكار من خلال التأسيس لقاعدة «الاتفاق على كيفية الاختلاف»، يقينا بأن الاختلاف سنّة الحياة، والضرورة الأساسية فيها، إذ لولا هذا الاختلاف لسار الناس على نهج واحد، وهذا عكس الفطرة البشرية.
إن هذه السمة الغالبة في العقل العربي التي جعلته أقرب إلى العقل التنميطي التقليدي، أكاد أوقن أن مسبباتها في عصرنا الحاضر تعود بالدرجة الأولى إلى ماهية التعليم لدينا في الوطن العربي بعامة، إذ تنوب عملية التلقين بمحركات الحفظ، وتروس الاسترجاع، عن عملية تحريك العقل وإعمال الذهن في ما يتلقاه من دروس وعلوم ومعارف، وهي عملية تتجاوز المساق الأدبي إلى العلمي أيضًا، فالمُتعلّم في كل مراحل الدراسة منذ التمهيدي وحتى الجامعة في جهد متصل نحو تنمية قدراته الحفظية بأكثر من تحريك غرفات عقله في مجادلة ومحاورة ما يلقى عليه، والخروج بفكرة جديدة.. ولهذا فإن هذا النمط من التعليم والتربية لن يفضي إلى تكوين شخص قادر على إنتاج أفكار بعيدا عن عملية استهلاك أفكار الآخرين، ودونكم كل رسائل الماجستير والدكتوراه، ستجدونها محشوة باستشهادات الآخرين بأكثر مما يطرحه الباحث نفسه في الغالب، هذا في مجال الأدب، الذي هو حرفتنا التي نظن أننا نتقنها، أما فيما يتصل بالعلوم التطبيقية، فلا أثر لنا يذكر أو يشار إليه، اللهم إلا من جهود فردية لبعض العلماء، بشكل يوحي بأننا نفتقد الإستراتيجية السليمة لتحريك العقل العربي نحو التفكير المطلق غير المقيّد، وصولا لأفكار جديدة مواكبة ومعاصرة.. وهو أمر لا أتحرّج في القول بأنّه أقعدنا عن إيصال رسالة الإسلام نفسها، فحكمة الله قد جعلت هذه الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة، بما يعني بداهة أنها رسالة تملك كل أسباب المرونة المطلوبة لمسايرة الزمن في تقلباته المستمرة، وليست رسالة جامدة توقف عجلة التاريخ عند عصر محدد، وأفكار غير قابلة للانسجام مع الواقع المعيش والمتغير بداهة مع كل حقبة من الحقب، حيث ابتلي الإسلام بمسلمين، ولا أقول علماء، سرقوا لسان «الدين» وأوقفوه بتحجرهم في زمن ماضٍ غير قابل للزحزحة، ولهذا ظلت الدعوات عندنا الرجوع إلى الماضي، فيما خُطى العالم كله تسير إلى المستقبل.. ودونكم إشارة الأمير خالد الفيصل لهذه النقطة تحديدًا حين قال في كلمته التي أشرنا إليها آنفًا:
«... فلقد ظلمنا الإسلام وشوهنا صورة المسلمين
وخذلنا العروبة وهجّرنا العرب لاجئين
وكفّر المستشيخون علماءنا وسفّه المستغربون خطابنا
وصمتت الأكثرية..
هل خشي العلماء الأدعياء؟!
واستسلم الحكماء للجهلاء؟!»
صفوة القول، إن الحاجة اليوم ماسة لأن يتحرر العقل العربي من قيوده التي كبّل نفسه بها طائعا مختارا، عن غفلة منه وجهل، ولن يكون هذا التحرر مجانيًا أو سهلاً، فلا بد له من عزيمة وصبر وقدرة على احتمال «الأعراض الجانبية» من هذه العملية المهمة، كما أهمس في أذن المنتسبين لمؤسسة الفكر العربي بأن يفهموا الإشارة المهمة التي أطلقها الأمير خالد الفيصل باستفساره المحرض العميق: «لماذا لا نطرح فكر نهج جديد..؟»، فهذا الاستفسار لم أفهمه إلا على اعتباره مرحلة انطلاق للمؤسسة للخروج من دائرة «الاجترار» إلى فضاء «الابتكار»، وقد رفع سموه السقف لذلك عاليا.. فهل من محلّق طوّاف؟!
ويحمد للأمير خالد الفيصل مبادراته بإنشاء مؤسسة الفكر العربي، وتسنمه رئاستها، فقد دأبت هذه المؤسسة في كلّ مؤتمراتها، التي بلغت 15 مؤتمرا، على تحليل واقع الثقافة والفكر العربي بشكل مفصّل وموثق بالأرقام والإحصائيات التي لا تكذب، وهو جهد مقدر، وعمل مشكور، غير أنّي أرى أنّه يصرف جلّ جهده في توصيف العلة بأكثر من طرحه لأفق الحل، والدليل على ذلك أنّ معظم - إن لم يكن كلّ - الإشكاليات التي أشارت إليها مؤتمرات الفكر العربي، وآخرها «فكر 15»، ظلّت في تفاقم مستمر، وفق الأرقام والإحصائيات، ولم تبرز للسطح أيّ علامات لحلول متبناة توقف من نمو هذه الإشكاليات، ناهيك أن تقضي عليها لصالح الوجه الإيجابي المأمول.. ويعود ذلك إلى غياب العقل العربي عن إنتاج أفكار موضوعية، لا تتعامل مع القضايا بشكل آني، ومعالجات تخديرية أو إسعافية، بقدر ما تطرح فكرا متجدّدا؛ أبرز سماته استيعابه الواعي للتاريخ والحضارة والثقافة العربية قديمًا وحديثًا بشكل يعصمها من ترحيل القديم بكل تبعاته وأخطائه، مع قدرته الواعية لمسايرة الحاضر بروح العصر، والمساهمة في معادلة التنمية بطرح أفكار منسجمة مع الواقع المعيش، فضلاً عن استشرافها لآفاق المستقبل بعقول نافذة، وقراءات بصيرة، وذكاء وقّاد.. وهذا الأمر أشار إليه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، في كلمته التي افتتح بها «فكر 15» مؤخرا، حين قال:
«إلى متى نبقى أسرى معادلة عقيمة..
إمَّا التكفير، أو التغريب.. إمَّا الأصالة أو المعاصرة..
إمَّا التشدد، أو الانحلال؟
لماذا لا نخرج ببديل.. مبني على دليل؟
لماذا لا نطرح فكر نهج جديد..
بالعلم والعمل والرأي السديد؟»
إن هذه الإشارة عميقة الدلالة، كونها تشير إلى العلّة الأساسية التي أقعدت العقل العربي عن التحرر من إسار ثنائية الأضداد، التي وسمت حياته في كلّ مناحيها ردحا من الزمن، حتى أصبح العقل العربي في مجمله عقلا تنميطيًا، لديه خانات وقوالب جاهزة سلفًا، يسعى بخفّة لا يحسد عليها إلى الفرز السريع، والتصنيف المتعجل، ووضع ما يلقى عليها في هذه الخانات الضيقة، ذات الأسقف المنخفضة، بما يشي برغبة في تعطيل مساحات التفكير والتأمل، ومناقشة القضايا والأفكار من كل زواياها، وتمحيصها بحيث تخرج من قوالب الـ«ضد» والـ«مع»، لتقبل مبدأ المشاركة والمحاورة على قاعدة التفاعل، والبحث عن القواسم المشتركة مع الأفكار الأخرى، وصولا إلى أقصى احتمالات تعايش الأفكار من خلال التأسيس لقاعدة «الاتفاق على كيفية الاختلاف»، يقينا بأن الاختلاف سنّة الحياة، والضرورة الأساسية فيها، إذ لولا هذا الاختلاف لسار الناس على نهج واحد، وهذا عكس الفطرة البشرية.
إن هذه السمة الغالبة في العقل العربي التي جعلته أقرب إلى العقل التنميطي التقليدي، أكاد أوقن أن مسبباتها في عصرنا الحاضر تعود بالدرجة الأولى إلى ماهية التعليم لدينا في الوطن العربي بعامة، إذ تنوب عملية التلقين بمحركات الحفظ، وتروس الاسترجاع، عن عملية تحريك العقل وإعمال الذهن في ما يتلقاه من دروس وعلوم ومعارف، وهي عملية تتجاوز المساق الأدبي إلى العلمي أيضًا، فالمُتعلّم في كل مراحل الدراسة منذ التمهيدي وحتى الجامعة في جهد متصل نحو تنمية قدراته الحفظية بأكثر من تحريك غرفات عقله في مجادلة ومحاورة ما يلقى عليه، والخروج بفكرة جديدة.. ولهذا فإن هذا النمط من التعليم والتربية لن يفضي إلى تكوين شخص قادر على إنتاج أفكار بعيدا عن عملية استهلاك أفكار الآخرين، ودونكم كل رسائل الماجستير والدكتوراه، ستجدونها محشوة باستشهادات الآخرين بأكثر مما يطرحه الباحث نفسه في الغالب، هذا في مجال الأدب، الذي هو حرفتنا التي نظن أننا نتقنها، أما فيما يتصل بالعلوم التطبيقية، فلا أثر لنا يذكر أو يشار إليه، اللهم إلا من جهود فردية لبعض العلماء، بشكل يوحي بأننا نفتقد الإستراتيجية السليمة لتحريك العقل العربي نحو التفكير المطلق غير المقيّد، وصولا لأفكار جديدة مواكبة ومعاصرة.. وهو أمر لا أتحرّج في القول بأنّه أقعدنا عن إيصال رسالة الإسلام نفسها، فحكمة الله قد جعلت هذه الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة، بما يعني بداهة أنها رسالة تملك كل أسباب المرونة المطلوبة لمسايرة الزمن في تقلباته المستمرة، وليست رسالة جامدة توقف عجلة التاريخ عند عصر محدد، وأفكار غير قابلة للانسجام مع الواقع المعيش والمتغير بداهة مع كل حقبة من الحقب، حيث ابتلي الإسلام بمسلمين، ولا أقول علماء، سرقوا لسان «الدين» وأوقفوه بتحجرهم في زمن ماضٍ غير قابل للزحزحة، ولهذا ظلت الدعوات عندنا الرجوع إلى الماضي، فيما خُطى العالم كله تسير إلى المستقبل.. ودونكم إشارة الأمير خالد الفيصل لهذه النقطة تحديدًا حين قال في كلمته التي أشرنا إليها آنفًا:
«... فلقد ظلمنا الإسلام وشوهنا صورة المسلمين
وخذلنا العروبة وهجّرنا العرب لاجئين
وكفّر المستشيخون علماءنا وسفّه المستغربون خطابنا
وصمتت الأكثرية..
هل خشي العلماء الأدعياء؟!
واستسلم الحكماء للجهلاء؟!»
صفوة القول، إن الحاجة اليوم ماسة لأن يتحرر العقل العربي من قيوده التي كبّل نفسه بها طائعا مختارا، عن غفلة منه وجهل، ولن يكون هذا التحرر مجانيًا أو سهلاً، فلا بد له من عزيمة وصبر وقدرة على احتمال «الأعراض الجانبية» من هذه العملية المهمة، كما أهمس في أذن المنتسبين لمؤسسة الفكر العربي بأن يفهموا الإشارة المهمة التي أطلقها الأمير خالد الفيصل باستفساره المحرض العميق: «لماذا لا نطرح فكر نهج جديد..؟»، فهذا الاستفسار لم أفهمه إلا على اعتباره مرحلة انطلاق للمؤسسة للخروج من دائرة «الاجترار» إلى فضاء «الابتكار»، وقد رفع سموه السقف لذلك عاليا.. فهل من محلّق طوّاف؟!