أخبار

المساعيد.. «مردوخ» الكويت وعميد صحافتها

عبدالعزيز المساعيد

قراءة د. عبدالله المدني *

حينما تُذكر الصحافة في الكويت الحديثة فإن أول اسم يخطر على البال هو اسم «عبدالعزيز المساعيد»، فهو عميدها دون منازع، وواضع لبناتها الحديثة، والجندي الذي أسهم في انتشارها إلى ما وراء الحدود، يوم أن أسس مع بزوغ فجر الاستقلال في 1961 أول صحيفة يومية كويتية تحت اسم «الرأي العام»، جالبا لها المتاح من الأقلام الكويتية، وكتابا ومحررين سوريين وفلسطينيين ومصريين، إضافة إلى نظرائهم اللبنانيين الذين تقطعت بهم السبل في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات.

لكن من هو المساعيد.. وكيف كانت بداياته؟

عبدالعزيز بن فهد المساعيد ولد بمنطقة الجبلة في الكويت عام 1915 ابنا لعائلة معروفة ذات مصاهرات مع العديد من العائلات الكويتية العريقة. وكان والده فهد بن عبدالعزيز مثل غيره من رجالات الكويت والخليج في حقبة ما قبل النفط يقتات من العمل في صيد وتجارة اللؤلؤ.

تعلم المساعيد القراءة والكتابة والحساب والقرآن ومسك الدفاتر في «مدرسة الملا زكريا»، ثم عند الشيخين عبدالعزيز حمادة وعطية الأثري. بعدها توجه إلى البصرة، حيث درس في مدرستها الثانوية لغاية 1927، وهي السنة التي عاد فيها إلى الكويت ليركب البحر، كما فعل والده من قبل، مع كبار نواخذة ذلك الزمن. فتعرف على أسواق اللؤلؤ في الهند مبكرا وتعامل فيها واستمر كذلك حتى 1953. لكن مع كساد تجارة اللؤلؤ الطبيعي اضطر عبدالعزيز المساعيد (أبويوسف) لدخول مجال التجارة العامة واستيراد السلع والبضائع من المدن الهندية وتسويقها من خلال دكان استأجره في «سوق الغربللي» الشعبي، كما اشتغل بتجارة الذهب ونقله إلى أسواق الهند على نحو ما كان يفعله الكثيرون في بدايات اكتشاف النفط في الكويت والبحرين.

بالنسبة لـ«أبويوسف» كانت تلك مجرد مرحلة انتقالية لأن طموحه كان أكبر من ذلك، وبمعنى آخر كانت تلك التجارة وسيلته لتحقيق طموحاته في الوصول إلى مرتبة التجار الكويتيين الكبار. وبالفعل تحقق للرجل ما أراد، فخلال سنوات قصيرة راكم ثروة استطاع بها المساهمة في النهضة التي كانت تشهدها بلاده، فمثلا استثمر أمواله في تنشيط الحركة السياحية من خلال بناء الفنادق وتوفير الخدمات الفندقية الراقية في الكويت، ثم تجاوزت استثماراته الفندقية حدود بلاده إلى دبي ولبنان وفرنسا، كما شارك في تأسيس البنك الأهلي الكويتي في 1967، إضافة إلى قيامه في عقد الستينات ببناء مصنع للألمنيوم وآخر للجلود والأحذية.

لم يدخل المساعيد بلاط الصحافة من فراغ، وإنما دخله من باب العشق الذي نجد تجلياته في اشتراكه في 1952 مع أحمد العدواني، وحمد الرجيب، وعيسى الحمد، في إصدار مجلة «الرائد» كناطقة باسم نادي المعلمين، ونجد تجلياته أيضا في تطوعه للعمل كمراسل لصحيفة «الحياة» اللبنانية، إعجابا بخطها السياسي ومواقف صاحبها «كامل مروة» الجريئة ضد التيارات اليسارية الثورية الانقلابية. أما اسم «الرأي العام» الذي اختاره المساعيد لصحيفته الأم فقد كان تيمنا بصحيفة «الرأي العام» الدمشقية التي كان لها شأن كبير في سورية في أوائل الخمسينات.

ومن ناحية أخرى كان اقتحام المساعيد لعالم الصحافة مستندا إلى فكر وثقافة عامة كان قد اكتسبهما في سنوات شبابه من انخراطه في النقاشات الفكرية التي كان مسرحها أندية الكويت الرياضية في الخمسينات، تلك النقاشات التي جعلته أكثر اهتماما بالسياسة وما يدور في العالم، بدليل أنه كان مواظبا على قراءة الصحف القادمة من مصر، والاستماع للمحطات الإذاعية أثناء عمله في دكانه بسوق الغربللي الشعبي. في تلك المرحلة تحديدا راح الرجل يتساءل لماذا لا تكون للكويت صحافتها اليومية الخاصة، وراح يحلم باليوم الذي يتمكن فيه من تحقيق ذلك. وفي هذا السياق سجل عنه قوله في 26 فبراير 1961 خلال أول اجتماع لأسرة الرأي العام «نريد جريدة للكويت تخدم شعب الكويت وتنطق بلسانه وتتولى مهمة النقد الملتزم بأمانة. لا يهمني أن تحقق الجريدة ربحا فأنا على استعداد للتضحية، حتى بنفسي إذا لزم الأمر فأنا من هذا الوطن ولهذا الوطن»، وذلك طبقا لما كتبه «أحمد سيدو» في صحيفة النهار الكويتية (12/‏10/‏2012) عن ذكرياته أثناء عمله مع المساعيد في «الرأي العام».

لم يكن المال عائقا أمام صدور «الرأي العام»، فالمساعيد كان ثريا وكان بإمكانه أيضا أن يجذب مساهمات تجار محليين كبار إن لزم الأمر. العوائق تمثلت أولا في الحصول على ترخيص لإصدار الصحيفة من وزارة كانت بالكاد تشق طريقها وتنظم إداراتها وأعمالها آنذاك، وتمثلت ثانيا في عدم وجود كوادر محلية كافية للاضطلاع بالأدوار التي تتطلبها الصحافة اليومية، وتمثلت ثالثا في عدم وجود المطابع الصحفية المناسبة في الكويت آنذاك، فمثلا لم تكن في الكويت كلها مطبعة واحدة قادرة على إصدار صحيفة، حتى لو كانت أسبوعية. يقول أحمد سيدو إن حماس المساعيد لوجود صحافة يومية في الكويت جاء من قناعته بأن النهضة العمرانية والتعليمية التي تشهدها الكويت لا بد وأن تصاحبها نهضة صحفية. ويضيف ما مفاده أن المساعيد كلما رأى الأخطاء ترافق تنفيذ المشاريع الحكومية كان يزداد قناعة بضرورة وأهمية الصحافة كي تتولى عملية الرقابة على المشاريع، وتنير دروب الخير والحق، وتعكس آمال المواطن، وتحارب الأخطاء والأخطار الاجتماعية، وتصون وحدة المجتمع الكويتي وقيمه.

وهكذا كان لا بد من قيامه بمبادرة على هذا الصعيد مع زملائه التجار، فسافر مدعوما منهم إلى لبنان «بلد أهل الصحافة والفكر والقلم والمطابع»، وتعاقد هناك مع محررين للعمل في صحيفته المرتقبة، مراعيا في اختيارهم الكفاءة والخبرة العملية والسيرة الخلقية الحسنة.

تاجر ركض صحفياً وخاض غمار السياسة برلمانياً

عن مرحلة بدايات إطلاق صحيفته تحدث المساعيد إلى الصحفي أحمد سيدو الذي عمل معه ومع ابنيه المرحوم يوسف المساعيد وفهد المساعيد لمدة ربع قرن قائلا: «ما من شك أننا حين بدأنا، كانت تنقصنا الخبرة.. ولم يكن لدينا مطابع ولا محررون، لذا اتفقت مع أحد المحررين اللبنانيين أن يعمل معي.. كنا نجمع الأخبار، وآخذ المواد كل خميس وأذهب بها إلى لبنان حيث تطبع الجريدة هناك، وأحضرها يوم السبت، لهذا السبب كانت الرأي العام في بداية نشأتها تصدر أسبوعية، وقد استمر هذا الإطار مدة أربعة شهور كفترة تجريبية، بعدها أحضرنا ماكينة طباعة من ألمانيا، وأنشأنا مطبعة صغيرة وبدأتُ في طبع الجريدة هنا وإصدارها يوميا في ثماني صفحات وقد تدرجت المطبعة شيئا فشيئا حتى ضمت عدة ماكينات أكبر حجما وأكثر تطورا، وبالجهد والمتابعة استمرت الرأي العام في تطورها حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، لم أكن أنام أربع ساعات في اليوم وكان العمل بالصحيفة يستولي على عقلي بشكل يومي.. صار شيئا في دمي يسري معه في كياني، فباتت هي يومي وليلي، أكتب مقالاتها وأباشر أبوابها من أخبار وتعليقات وغيره حتى فكرة الكاريكاتير».

صدر العدد الأول من «الرأي العام» في 16 أبريل 1961، وصادف ذلك اليوم زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز للكويت، وبيعت النسخة الواحدة منها بخمسين فلسا. تولى رئاسة التحرير صاحبها عبدالعزيز المساعيد، أما منصب مدير الإدارة فقد ذهب للبناني عبدالله شعيتو. اتخذت الصحيفة مكاتب لها في بناية الأمير بسوق التجار، وكان رقم هاتفها هو 4161. اختار المساعيد عبارة «الكويت ــ بلاد العرب» لتعلو صفحتها الأولى دائما، علما بأن العدد الأول كان من ثماني صفحات، الأخيرة منها خصصت للتتمات مع إعلان ربع صفحة لمؤسسة عبدالعزيز فهد المساعيد.. سجل تجاري رقم 1.. وتتعاطى التجارة العامة والاستيراد والتصدير. وكان هناك في الصفحة الخامسة من العدد تعليق بقلم يوسف المساعيد، وتقرير حول أسباب وأبعاد فصل المذيع حمد المؤمن من الإذاعة، وترحيب بقرار الحكومة بفتح المجال أمام صدور الصحف.

وقد قيل في أسباب نجاح المساعيد في بناء قلعة صامدة ومدرسة صحفية تخرج فيها إعلاميون كويتيون كثر (منهم أحمد الجارالله صاحب جريدة السياسة، وهداية سلطان السالم صاحبة مجلة المجالس)، إنه ليس ناجما فقط عن عشقه الطويل للصحافة، وليس ناجما عن كثرة المثقفين ومحبي القراءة الصحفية في الكويت، ولم يكن سببه الحريات الواسعة الممنوحة من الدولة، وإنما ناجم أيضا عن عقلية المساعيد التجارية والصناعية، كونه نشأ كرجل أعمال واستمر كذلك إلى أن توفاه الله. ولعل من دلائل هذا أن الصحافة كانت في رأيه صناعة لابد أن تـُغذى على الدوام بالجديد من الأفكار وفنون الإخراج والمطابع الحديثة، لأن عكس ذلك سيؤدي إلى موتها «كالماء الذي إذا ما تــُرك في مكان معين دون تحريك تبخر».

وفي هذا السياق يشبه المساعيد «كيث روبرت مردوخ» رجل الأعمال الأسترالي الأمريكي الذي يعتبر قطبا من أقطاب التجارة والإعلام العالمي، وبالتالي لم يكن غريبا أن يــُطلق عليه لقب «مردوخ الكويت» إلى جانب لقب «عميد الصحافة الكويتية».

كيف واجه «رفض الإخوان» لتمثال السالم؟

لا بد من الإشارة إلى المحبة القوية المتبادلة بين المساعيد وأبي الاستقلال الشيخ عبدالله السالم الصباح. تلك المحبة التي دفعت المساعيد للبحث عن طريقة يخلد بها ذكرى هذه الشخصية العظيمة، فكان أن اهتدى إلى فكرة صناعة تمثال له ينصبه أمام مبنى «الرأي العام» في شارع الصحافة. وبالفعل كلف المساعيد النحات الكويتي سامي محمد بالمهمة التي قام بها الأخير خير قيام في غضون سنة. لكن جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في جمعية الإصلاح اعترضت على فكرة نصب التمثال وهددت بوقفه من خلال ما كانت تملكه من نفوذ في البلدية، بدعوى أن نصب التماثيل مخالف للدين والعادات. ويقول الفنان سامي محمد في موقعه الإلكتروني أن المساعيد لملم الموضوع وحال دون تفاقمه بوضع التمثال في مدخل دار «الرأي العام»، وذلك خوفا من تكسيره مثلما تم تكسير تماثيل سور الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية في 1967.

لم يكن المساعيد رجل صحافة وإعلام وتجارة فقط، وإنما كان فوق ذلك سياسيا جريئا يصدح بالكلمة المعبرة عن مواقفه دون خوف أو تردد. فالسياسة كانت تجري في دمه منذ شبابه حينما شارك في مظاهرات شعبية في 1938 للمطالبة بإجراء انتخابات نيابية محلية، ثم حينما وجد نفسه متعاطفا مع أفكار حزب الوفد المصري. ولذلك لم تكن السياسة مجرد هواية يتعلق بها أو مجرد خبر يجري وراءه كصحفي. وبكلام آخر أراد المساعيد أن يكون صانعا للحدث وليس مجرد ناقل لأخباره. ومن هنا قرر خوض غمار انتخابات مجلس الأمة الأول بمجرد بدء الحياة النيابية في الكويت.

تعثرت محاولاته الأولى للوصول إلى قبة البرلمان، لكنه لم ييأس، وظل متمسكا بمقولة «من سار على الدرب وصل»، وبالفعل وصل أبو يوسف في النهاية، وحصل على المقعد البرلماني لأول مرة في الانتخابات التكميلية التي أجريت في 1966. وظل محتفظا بهذا المقعد على مدى الفصول التشريعية الثلاثة التالية، لكنه حينما شارك في 1981 حل بالمركز الرابع فخسر مقعده.

وبسبب هذه الهزيمة غير المتوقعة ابتعد المساعيد عن دائرة الأضواء النيابية والسياسية لبعض الوقت، ليعود إلى الواجهة مجددا في 1990، وهي السنة التي قرر فيها الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح تأسيس «المجلس الوطني الكويتي» كبديل لمجلس الأمة الذي كان قد حله في 1986 بسبب مواجهات عاصفة بين نواب المعارضة والحكومة على خلفية رغبة النواب في فرض رقابة على البنك المركزي. وعلى حين اعتبرت قوى المعارضة الكويتية المجلس الوطني مجلسا غير شرعي، لم يكترث المساعيد بالأمر وشق طريقه نحو الفوز بمقعد عن دائرة الروضة، ومن ثمّ التنافس على رئاسة المجلس المذكور والفوز بها. وبتلك الصفة عومل المساعيد حتى تاريخ وفاته كرئيس سابق للبرلمان، وبالتالي كان يُستشار في مسألة اختيار رئيس الوزراء الجديد مع بدء كل فصل تشريعي لمجلس الأمة.

خلال سنوات عضويته في مجلس الأمة تولى أبو يوسف رئاسة العديد من اللجان البرلمانية، كما طرح عددا من الاقتراحات ذات الصبغة الليبرالية التي جوبهت بالرفض من قبل زملائه، خصوصا القوميين واليساريين منهم. وكان المساعيد هو السياسي الكويتي الوحيد الذي ألقى باللائمة على صدام حسين في التسبب باندلاع الحرب العراقية الإيرانية، واعتبر النظام العراقي هو المعتدي، فدفع ثمن هذا الموقف المبدئي في صورة تفجير استهدف مؤسسته الصحفية، وتسبب في مقتل بعض الأرواح البريئة وإحداث خسائر مادية تجاوزت قيمتها مليوني دينار.

وأثناء الاحتلال الكويتي لوطنه في 1990 لعب المساعيد دورا نشطا على الصعيدين الإعلامي والسياسي لإنهاء الاحتلال وحشد التأييد لقضية بلاده العادلة مستخدما في ذلك علاقاته الخارجية المتشعبة وقربه من القيادات الخليجية والعربية المعتدلة، غير أن انتهاء الاحتلال العراقي وعودة الحكومة الشرعية كان إيذانا بأفول نجمه السياسي، إذ شهدت حقبة ما بعد التحرير حل المجلس الوطني الذي كان يترأسه وانتخاب مجلس أمة جديد. وهكذا خرج من المشهد السياسي في 1992، وتزامن ذلك مع تعثر صدور «الرأي العام» خلال عقد التسعينات بسبب مشكلات مالية من جهة، وتردي صحة المساعيد من جهة أخرى. وهكذا راح حضور الرجل الإعلامي يضمر، من بعد ضمور حضوره السياسي، خصوصا في أعقاب قراره المفاجئ الذي لم يكن متوقعا منه وهو على قيد الحياة، ونقصد به قراره في عام 1995 ببيع 60% من أسهم صحيفة «الرأي العام» لعائلة «بودي» مالكة دار الجزيرة للصحافة والنشر، قبل أن يتراجع عن قراره بعد فوات الأوان. ولهذا السبب دخلت عملية البيع دوامة من الخلافات القضائية غير المسبوقة في الحياة الصحفية الكويتية، كان خلالها المساعيد وعائلة بودي يصدران «الرأي العام» في نسختين مختلفتين إلى أن انتهت المشكلة بقرار قضائي أوقف صدور «رأي عام» المساعيد، معتبرا أن «رأي عام» بودي هي الصحيفة الشرعية.

ومن مآثر المساعيد، الذي توفي في جنيف عن عمر ناهز الـ90 عاما بتاريخ 9 يوليو 2001، ودفن في مقبرة الصليبيخات بُعيد نقل جثمانه جوا بطائرة خاصة أمر بها الشيخ جابر الأحمد الصباح، أنه عمل مع آخرين من أجل تأسيس وإشهار جمعية الصحفيين الكويتيين في 1964، كما كان له دور مشهود في تأسيس نادي الكويت الرياضي في 1960.

* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين