نموذجنا الاقتصادي غير قابل للاستمرار
الاثنين / 02 / جمادى الأولى / 1438 هـ الاثنين 30 يناير 2017 02:36
عبدالعزيز الوذناني
اليوم تحتل كل من اليابان وألمانيا المركزين الثالث والرابع على التوالي في قائمة الدول السبع الأكبر اقتصادا في العالم، أو ما يعرف في اللغة الإنجليزية بمصطلح «the Big 7 (G7)» الحقيقة التاريخية التي يعلمها الجميع أن هاتين الدولتين هزمتا في الحرب العالمية الثانية وتم تدمير بنيتهما التحتية وتم إخضاعهما للحكم الأجنبي وفرضت عليهما شروط الحلفاء المنتصرين. السؤال الذي يطرح نفسه والذي يجب أن نتعلم منه الكثير هو كيف استطاعت كل من اليابان وألمانيا أن تتعافى من آثار السياسات الديكتاتورية والنازية وتعيد بناء ما دمرته الحرب وتصبح من ضمن أكبر خمس دول اقتصادية في العالم خلال عقد من الزمن فقط؟ للإجابة على هذا السؤال دعنا نأخذ ألمانيا كمثال ونلقي نظرة فاحصة على تاريخها خلال الثورة الصناعية وصولا للحرب العالمية الثانية. الجدير بالذكر بأن الثورة الصناعية في ألمانيا كانت متأخرة عن مثيلاتها في إنجلترا وفرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى بأكثر من 100 عام، إذ لم يتم توحيد ألمانيا في سوق واحدة إلا في 1833م وخلال الفترة من 1833م إلى 1870م كان هناك عدة محاولات لاستنساخ الثورات الصناعية التي قامت في أجزاء مختلفة من أوروبا دون نجاح يذكر لأن ألمانيا في ذلك الوقت تفتقر للخبرة والمعرفة التراكمية اللازمة لتوطين المعرفة وبناء تنمية مستدايمة. فالثورة الصناعية في ألمانيا لم تبدأ إلا مع نشأة الدولة الألمانية الحديثة في 1870م وتأثرت بالحرب العالمية الأولى 1914م – 1918م والركود الاقتصادي العظيم 1929م – 1939م وكذلك بالحرب العالمية الثانية 1939م – 1945م. فعندما انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء كانت البنية التحتية لألمانيا مُدمرة واقتصادها منهكا من الحرب ومن السياسات النازية وفوق هذا كله وضعت ألمانيا تحت سلطة الحلفاء وقسمت إلى دولتين: ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وخسرت أوروبا الشرقية كسوق وعمق تجاري واقتصادي واستمر العمل بالسياسات والقوانين النازية حتى سنة 1948م وكانت النتيجة كارثية ووصلت إلى حد المجاعة. وبعد هذا العام تغير الكثير من القوانين والسياسات وحدث التحول والمعجزة الاقتصادية الألمانية 1948م – 1960م، إذ كان متوسط معدل نمو الإنتاج الصناعي الألماني خلال هذه الفترة أكثر من 15% سنويا.
هذه حقيقة تاريخية ولكن الأهم هو كيف استطاعت ألمانيا أن تتعافى من آثار السياسات النازية وتعيد بناء ما دمرته الحرب وتصبح واحدة من أكبر أربع دول اقتصادية في العالم خلال عقد من الزمن؟ ألمانيا استطاعت النهوض في زمن قياسي، لأنها لم تبدأ من الصفر فلو بدأت من الصفر فلربما استغرقت قرنا من الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه خلال 10 سنوات فقط ولكن الذي جعل المعجزة الألمانية ممكنة هو أن ألمانيا تملك الخبرة والمعرفة التراكمية الضرورية لبناء ثورتها الاقتصاديه والمتمثلة في رأس المال البشري أي الإنسان الألماني المدرب وصاحب الخبرة والمعرفة التراكمية التي اكتسبت من خلال العمل الدؤوب والتجربة العملية ومع مرور الزمن أصبح أكثر كفاءة وفاعلية وإتقان لما يقوم به وهذا هو العامل الرئيسي الذي ساعد ألمانيا على النهوض في زمن قياسي. فألمانيا لم تستورد عاملة أجنبية لتشغيل مصانعها أو مستشارين أجانب لرسم خططها، بل صنعت مستقبلها بسواعد وعقول أبنائها وشقت طريقها للقيادة والريادة ومنافسة أمم الأرض والتفوق عليهم.
تجربة أخرى: اليابان البلد الذي دُمر في الحرب العالمية الثانية واستخدمت ضده أبشع الجرائم الإنسانية على الإطلاق وأذل وأهين وحُجم اقتصاديا وعسكريا ولكنه نهض من بين جثث الموتى وركام المدن المدمرة في ملحمة تاريخية تشبه الأسطورة الإغريقية لطائر الفونكس (Phoenix Bird) الذي يستعيد الحياة ويحلق طائرا من بين الأنقاض. قصة المعجزة الألمانية وقصة النهوض الأسطوري لليابان هي قصة الاستثمار في الإنسان. فيه أمثلة أخرى ولكن ربما هاتان التجربتان جديرتين بالدراسة والتوقف عندهما والاستفادة مهنما.
ما يستفاد من التجارب
يمكن تلخيص الدروس المستفادة من هاتين التجربتين في نقطتين رئيسيتين هما: أولا: تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في «الإنسان». ثانيا: مخزون الشعوب من الخبرة والمعرفه التراكمية أي رأس المال البشري هو الأساس الرئيسي الذي تبني عليه الشعوب تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة، فالإنسان هو محور هذين العنصرين: «الخبرة» «والمعرفة» التراكمية والإنسان هو الأساس في اكتساب المعرفة وكذلك هو الأساس في تكوين الخبرة البشرية التي تتراكم عبر الزمن، إذ يتعلم من خبراته السابقة ويطور مهاراته ومعارفه ويصقلها بتجربته العملية. فكلما زادت خبرته في أي مجال من المجالات يصبح أكثر مهارة واتقان حتى يصل إلى مرتبة «خبير» في مجاله. تشير التجارب والأبحاث العلمية أن الإنسان يحتاج إلى 10 آلاف ساعة من العمل الدؤوب والمركز لكي يصبح خبيرا في مجاله ونفس الشيء ممكن يقال عن الشعوب.
ماذا عنا في دول الخليج العربي؟ هل في تجربتي ألمانيا واليابان شيء ممكن نتعلم منه؟ هل استثمرنا في أبنائنا كما يجب؟ هل هيأنا لهم الفرص الممكنة لاكتساب المعرفة والخبرة التراكمية الضرورية لتقدم شعوبنا وبناء تنميتها المستدامة؟ هل أحسنا استغلال الثروات الطائلة التي أنعم الله بها علينا من البترول – المورد الإستراتيجي الناضب في بناء الإنسان الخليجي وتطوير رأس المال البشري الذي سوف يمكنا بعد الله عزوجل من منافسة الأمم وبناء مستقبلنا ومستقبل أبنائنا؟
الحق يُقال: نحن في دول الخليج العربي كنا مجتمعات بسيطة إلا من قيمنا وموروثنا الشعبي الأصيل وعقيدتنا الدينية لفترة من الزمن حتى تم اكتشاف البترول بشكل تجاري في النصف الأخير من القرن الماضي ومن ذلك التاريخ مرت علينا عدت طفرات اقتصادية وخصوصا مع بدايات الثلث الأخير من القرن الماضي وحدثت تحولات كبيرة في مجتمعنا الخليجي وفي قيمة وثقافته الاجتماعية وأصبح لدى دولنا موارد طائلة.
تم استثمار جزء كبير من هذه الأموال في التعليم الكمي وليس النوعي وربما كان هذا التوجه ضرورة وخصوصا في البدايات، ولكن التعليم النوعي لم يتم التركيز عليه كما يجب وأن كان هناك بعض المحاولات الخجولة؛ كذلك تم استخدام جزء من عوائد صادرات البترول في تأسيس بنية تحتية لأباس بها ولكن لم نحسن استغلال هذه الأموال الطائلة في بناء تنمية مستدامة تعتمد على ما تنتجه سواعد أبنائنا من سلع وخدمات وما تبتكره عقولهم من مخترعات لخدمة الحضارة البشرية وتطورها بل اعتمدنا إلى حد كبير على السواعد والعقول التي تأتي من وراء الحدود. فالعامل في مصانعنا أجنبي ومستشارنا أجنبي ومحل ثقتنا وراسم خططنا في الغالب أجنبي، ربما يعتقد البعض بأني قسوت ولكن المطلعين على بواطن الأمور يعرفون ما أقول جيدا.
هذا ليس مرده نقص في أبنائنا ولا نقص في كفاءاتهم وقدراتهم لا سمح الله فعندنا كفاءات تضاهي مثيلاتها في الدول الأخرى ولله الحمد، أنا لا أقول هذا الكلام من باب المبالغة أو المجاملة، بل من واقع معرفة ودراية فربما العشرين عاما التي قضيتها بين أمريكا وكندا كطالب ومن ثم كأستاذ جامعي لحوالي نصف هذه المدة تعطيني بعض المصداقية في هذا الجانب. إذن أين أساس المشكلة؟ على الرغم بأن الطبقة القيادية سواء أكانت في القطاع العام أو القطاع الخاص يتحملون اللوم الأكبر بحكم مواقعهم القياده وقدرتهم على توجيه السياسة العامة إلا أن من ينظر في هذا الأمر برؤية فاحصة يجد أن المشكلة أكبر وأعم من أن نحملها للطبقة القيادية لوحدها. فهؤلاء القادة هم أبناء المجتمع وثقافته الاجتماعية التي شجعت من غير قصد على عدم الثقة في أنفسنا وفي قدراتنا. فعلى سبيل المثال وليس الحصر رجل الأعمال يقول: الشباب السعودي «كسول ولا يعمل ولا يعتمد عليه» والأجنبي «يشبع ويشبعك معه أما السعودي وجه فقر» والوزير يقول: إنتاجية الموظف السعودي «لا تتجاوز ساعة واحدة في اليوم». فهذه ليست مشكلة فردية في التاجر أو الوزير على الرغم بأن اختيار ولي الأمر لبعض وزرائنا جعلهم يشعرون بالاصطفاء إلى درجة لم يعد يجدوا في البلد بطوله وعرضه من الكفاءات الوطنية التي تستطيع قراءة أفكارهم التطويرية وترجمتها على أرض الواقع مما اضطرهم لاستيراد مستشارين من وراء البحار بمبالغ هائلة تصل إلى مليارات الريالات ليضعوا لهم حلولا قد لا تمس للواقع بشيء ولكن المشكلة أكبر وأعمق كما ذكرت من حصرها في ثلة من الوزراء وكبار المسؤولين.
ثقافة مجتمعية
نحن لا نبرىء أنفسنا فجذور المشكلة تكمن في ثقافة مجتمعية تراكمية ناتجة عن نظرتنا لأنفسنا وفقدان الثقة في قدراتنا على صناعة مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وهذا يتجلى في تسابق كبار مسؤولينا على اختلاف مناصبهم من رؤساء شركات القطاع الخاص إلى وزراء الدولة ومسؤولي الهيئات الحكومية على استيراد الأجنبي وتفضيله على ابن البلد. السؤال هنا: لماذا هذا التسابق المحموم غير المبرر في كثير من الأحيان إن لم نقل أغلبها؟ هذا ليس لأن المسؤولين غير وطنيين أو أنهم لا يحبون أبناء بلدهم، بل لأن ثقافتنا الاجتماعية تعتبر الأجنبي خبيرا بصرف النظر عن مؤهلاته وخبراته وسيرته العلمية والعملية بينما ابن البلد دائما مشكوك في قدراته وإمكاناته لسبب بسيط وهو أن ابن البلد يشبهنا ويشبه الكثير من معارفنا ولهذا يعتقد المسؤولين بأن الاستعانة بالمستشار الأجنبي يجعلهم يبدأون أكثر ذكاء والمعية أمام المسؤولين الآخرين الأعلى منهم في التراتبية الإدارية فمثلا الرئيس التنفيذي لشركة في القطاع الخص يعتقد بأن الاستعانة بالمستشار الأجنبي يجعله يملأ عين رئيس مجلس إدارة الشركة وعيون السادة أعضاء المجلس ونفس الشيء ممكن يُقال عن المسؤولين الآخرين. وفي القطاع العام مثلا يحرص الوزيرعلى الاستعانة بالمستشارالأجنبي حتى يظهر لولي الأمر بأن خططه وأفكاره التطويرية متقدمة على فكر المجتمع ولايفهمها ويقدر على تحليها إلا خبير من وراء البحار ولهذا أصبح التسابق على المستشارين الأجانب «عدوى» في وزارات وهيئات القطاع العام فالوزير أو المسؤول الذي لا يستعين بمستشار أجنبي يصبح «ما فيه خير» وليس لديه قدرة على تطوير وزارته أو إدارته الحكومية.
ولكن الأمر المهم الذي غاب عن هؤلاء المسؤولين في خضم تسابقهم للظفر بالمستشارين الأجانب أنهم بعملهم هذا يرتكبون خطيئة لا تغتفر بحق وطنهم ومسيرته التنموية. فإذا لم نستثمر في أبنائنا ونشجعهم ونعطيهم الفرصة لاكتساب الخبرة والمعرفة التراكمية التي هي المطلب الرئيسي لتقدم الأمم وتطورها فمن ننتطر أن يستثمر في أبنائنا ويعطيهم الفرصة؟
سر قصة نجاح «أرامكو»
أنا لست ضد العامل الأجنبي أو الخبير الأجنبي أو المستشار الأجنبي فربما دعت الضرورة لذلك ومن يعتقد بأنه يمكن أن يستغني عن الآخرين فقد جانبه الصواب ولكن يجب أن نستثمر في أبنائنا ونشجعهم ونعطيهم الفرصة لاكتساب الخبرة والمعرفة التراكمية التي تأتي عن طريق التجربة العملية وتُصقل عن طريق العمل الدؤوب والتطبيق والتحسين المستمر.
وهنا تحضرني تجربة نجاح سعودية خالصة ألا وهي تجربة «أرامكو» شركة الطاقة الأكبر في العالم. عندما بدأت أرامكو كانت تُدار من قبل الأمريكيين من أعلى السلم الإداري في الشركة إلى مُشغل السنترال، واليوم ولله الحمد تتولى إدارة الشركة سواعد وعقول وطنية خالصة من رئيس مجلس الإدارة إلى أصغر مهندس في حقول البترول. كيف تمت هذه التجربة التي من الأحرى بنا استنساخها؟ نجاح هذه التجربة يعود بعد الله عزوجل إلى القيادات الوطنية المُخلصة التي آمنت بالشباب السعودي وأدركت ببعد نظرها أن مستقبل هذه البلاد يعتمد بعد الله عزوجل على سواعد وعقول أبنائها.
الله عزوجل قيض لشركة أرامكو ولوزارة البترول قيادات وطنية من الطراز الفريد، رجال يجب الاحتفاء بهم وسوف يُخلد التاريخ أسماءهم. فمن البدايات استثمرت أرامكو في الشباب السعودي وأعدتهم لتولي العمل في مفاصل الشركة من أعلى المناصب القيادية إلى أصغر موظف، إذ كانوا يعملون جنبا إلى جنب مع زملائهم الأمريكيين ويتعلمون منهم ويكتسبون الخبرة والمعرفة وتحت إشراف مباشر من وزير البترول في ذلك الوقت عبدالله الطريقي رحمه الله ومن بعده الدكتور أحمد زكي يماني متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر وبتوجيه ورعاية من ولاة الأمر رحمة الله عليهم جميعا.
فلا بأس من الاستعانة بالعامل الأجنبي والخبير الأجنبي والمستشار الأجنبي إذا دعت الضرورة ولكن أبناءنا يجب أن يكونوا القادة والعقول والمخططين والمنفذين والشركاء الحقيقيين في أي مشروع تنموي وليس مجرد ديكور لإعطاء المشاريع المليارية لمسة محلية عبارة عن إضافة ثلاثة أو أربعة من حديثي التخرج أوموظفي الصف الأخير من أجل «الغترة والعقال والعباءة والطرحة» بينما القادة والمفكرون والمخططون والآمر والناهي بيد الفريق الأجنبي. يفترض في مسؤولينا أن يكونوا أكثر فطنة وأن لا تنطلي عليهم هذه الإضافات الصورية.
* أستاذ المحاسبة المشاركرئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال / جامعة الفيصل - (الرياض)
wathnani@alfaisal.edu
هذه حقيقة تاريخية ولكن الأهم هو كيف استطاعت ألمانيا أن تتعافى من آثار السياسات النازية وتعيد بناء ما دمرته الحرب وتصبح واحدة من أكبر أربع دول اقتصادية في العالم خلال عقد من الزمن؟ ألمانيا استطاعت النهوض في زمن قياسي، لأنها لم تبدأ من الصفر فلو بدأت من الصفر فلربما استغرقت قرنا من الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه خلال 10 سنوات فقط ولكن الذي جعل المعجزة الألمانية ممكنة هو أن ألمانيا تملك الخبرة والمعرفة التراكمية الضرورية لبناء ثورتها الاقتصاديه والمتمثلة في رأس المال البشري أي الإنسان الألماني المدرب وصاحب الخبرة والمعرفة التراكمية التي اكتسبت من خلال العمل الدؤوب والتجربة العملية ومع مرور الزمن أصبح أكثر كفاءة وفاعلية وإتقان لما يقوم به وهذا هو العامل الرئيسي الذي ساعد ألمانيا على النهوض في زمن قياسي. فألمانيا لم تستورد عاملة أجنبية لتشغيل مصانعها أو مستشارين أجانب لرسم خططها، بل صنعت مستقبلها بسواعد وعقول أبنائها وشقت طريقها للقيادة والريادة ومنافسة أمم الأرض والتفوق عليهم.
تجربة أخرى: اليابان البلد الذي دُمر في الحرب العالمية الثانية واستخدمت ضده أبشع الجرائم الإنسانية على الإطلاق وأذل وأهين وحُجم اقتصاديا وعسكريا ولكنه نهض من بين جثث الموتى وركام المدن المدمرة في ملحمة تاريخية تشبه الأسطورة الإغريقية لطائر الفونكس (Phoenix Bird) الذي يستعيد الحياة ويحلق طائرا من بين الأنقاض. قصة المعجزة الألمانية وقصة النهوض الأسطوري لليابان هي قصة الاستثمار في الإنسان. فيه أمثلة أخرى ولكن ربما هاتان التجربتان جديرتين بالدراسة والتوقف عندهما والاستفادة مهنما.
ما يستفاد من التجارب
يمكن تلخيص الدروس المستفادة من هاتين التجربتين في نقطتين رئيسيتين هما: أولا: تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في «الإنسان». ثانيا: مخزون الشعوب من الخبرة والمعرفه التراكمية أي رأس المال البشري هو الأساس الرئيسي الذي تبني عليه الشعوب تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة، فالإنسان هو محور هذين العنصرين: «الخبرة» «والمعرفة» التراكمية والإنسان هو الأساس في اكتساب المعرفة وكذلك هو الأساس في تكوين الخبرة البشرية التي تتراكم عبر الزمن، إذ يتعلم من خبراته السابقة ويطور مهاراته ومعارفه ويصقلها بتجربته العملية. فكلما زادت خبرته في أي مجال من المجالات يصبح أكثر مهارة واتقان حتى يصل إلى مرتبة «خبير» في مجاله. تشير التجارب والأبحاث العلمية أن الإنسان يحتاج إلى 10 آلاف ساعة من العمل الدؤوب والمركز لكي يصبح خبيرا في مجاله ونفس الشيء ممكن يقال عن الشعوب.
ماذا عنا في دول الخليج العربي؟ هل في تجربتي ألمانيا واليابان شيء ممكن نتعلم منه؟ هل استثمرنا في أبنائنا كما يجب؟ هل هيأنا لهم الفرص الممكنة لاكتساب المعرفة والخبرة التراكمية الضرورية لتقدم شعوبنا وبناء تنميتها المستدامة؟ هل أحسنا استغلال الثروات الطائلة التي أنعم الله بها علينا من البترول – المورد الإستراتيجي الناضب في بناء الإنسان الخليجي وتطوير رأس المال البشري الذي سوف يمكنا بعد الله عزوجل من منافسة الأمم وبناء مستقبلنا ومستقبل أبنائنا؟
الحق يُقال: نحن في دول الخليج العربي كنا مجتمعات بسيطة إلا من قيمنا وموروثنا الشعبي الأصيل وعقيدتنا الدينية لفترة من الزمن حتى تم اكتشاف البترول بشكل تجاري في النصف الأخير من القرن الماضي ومن ذلك التاريخ مرت علينا عدت طفرات اقتصادية وخصوصا مع بدايات الثلث الأخير من القرن الماضي وحدثت تحولات كبيرة في مجتمعنا الخليجي وفي قيمة وثقافته الاجتماعية وأصبح لدى دولنا موارد طائلة.
تم استثمار جزء كبير من هذه الأموال في التعليم الكمي وليس النوعي وربما كان هذا التوجه ضرورة وخصوصا في البدايات، ولكن التعليم النوعي لم يتم التركيز عليه كما يجب وأن كان هناك بعض المحاولات الخجولة؛ كذلك تم استخدام جزء من عوائد صادرات البترول في تأسيس بنية تحتية لأباس بها ولكن لم نحسن استغلال هذه الأموال الطائلة في بناء تنمية مستدامة تعتمد على ما تنتجه سواعد أبنائنا من سلع وخدمات وما تبتكره عقولهم من مخترعات لخدمة الحضارة البشرية وتطورها بل اعتمدنا إلى حد كبير على السواعد والعقول التي تأتي من وراء الحدود. فالعامل في مصانعنا أجنبي ومستشارنا أجنبي ومحل ثقتنا وراسم خططنا في الغالب أجنبي، ربما يعتقد البعض بأني قسوت ولكن المطلعين على بواطن الأمور يعرفون ما أقول جيدا.
هذا ليس مرده نقص في أبنائنا ولا نقص في كفاءاتهم وقدراتهم لا سمح الله فعندنا كفاءات تضاهي مثيلاتها في الدول الأخرى ولله الحمد، أنا لا أقول هذا الكلام من باب المبالغة أو المجاملة، بل من واقع معرفة ودراية فربما العشرين عاما التي قضيتها بين أمريكا وكندا كطالب ومن ثم كأستاذ جامعي لحوالي نصف هذه المدة تعطيني بعض المصداقية في هذا الجانب. إذن أين أساس المشكلة؟ على الرغم بأن الطبقة القيادية سواء أكانت في القطاع العام أو القطاع الخاص يتحملون اللوم الأكبر بحكم مواقعهم القياده وقدرتهم على توجيه السياسة العامة إلا أن من ينظر في هذا الأمر برؤية فاحصة يجد أن المشكلة أكبر وأعم من أن نحملها للطبقة القيادية لوحدها. فهؤلاء القادة هم أبناء المجتمع وثقافته الاجتماعية التي شجعت من غير قصد على عدم الثقة في أنفسنا وفي قدراتنا. فعلى سبيل المثال وليس الحصر رجل الأعمال يقول: الشباب السعودي «كسول ولا يعمل ولا يعتمد عليه» والأجنبي «يشبع ويشبعك معه أما السعودي وجه فقر» والوزير يقول: إنتاجية الموظف السعودي «لا تتجاوز ساعة واحدة في اليوم». فهذه ليست مشكلة فردية في التاجر أو الوزير على الرغم بأن اختيار ولي الأمر لبعض وزرائنا جعلهم يشعرون بالاصطفاء إلى درجة لم يعد يجدوا في البلد بطوله وعرضه من الكفاءات الوطنية التي تستطيع قراءة أفكارهم التطويرية وترجمتها على أرض الواقع مما اضطرهم لاستيراد مستشارين من وراء البحار بمبالغ هائلة تصل إلى مليارات الريالات ليضعوا لهم حلولا قد لا تمس للواقع بشيء ولكن المشكلة أكبر وأعمق كما ذكرت من حصرها في ثلة من الوزراء وكبار المسؤولين.
ثقافة مجتمعية
نحن لا نبرىء أنفسنا فجذور المشكلة تكمن في ثقافة مجتمعية تراكمية ناتجة عن نظرتنا لأنفسنا وفقدان الثقة في قدراتنا على صناعة مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وهذا يتجلى في تسابق كبار مسؤولينا على اختلاف مناصبهم من رؤساء شركات القطاع الخاص إلى وزراء الدولة ومسؤولي الهيئات الحكومية على استيراد الأجنبي وتفضيله على ابن البلد. السؤال هنا: لماذا هذا التسابق المحموم غير المبرر في كثير من الأحيان إن لم نقل أغلبها؟ هذا ليس لأن المسؤولين غير وطنيين أو أنهم لا يحبون أبناء بلدهم، بل لأن ثقافتنا الاجتماعية تعتبر الأجنبي خبيرا بصرف النظر عن مؤهلاته وخبراته وسيرته العلمية والعملية بينما ابن البلد دائما مشكوك في قدراته وإمكاناته لسبب بسيط وهو أن ابن البلد يشبهنا ويشبه الكثير من معارفنا ولهذا يعتقد المسؤولين بأن الاستعانة بالمستشار الأجنبي يجعلهم يبدأون أكثر ذكاء والمعية أمام المسؤولين الآخرين الأعلى منهم في التراتبية الإدارية فمثلا الرئيس التنفيذي لشركة في القطاع الخص يعتقد بأن الاستعانة بالمستشار الأجنبي يجعله يملأ عين رئيس مجلس إدارة الشركة وعيون السادة أعضاء المجلس ونفس الشيء ممكن يُقال عن المسؤولين الآخرين. وفي القطاع العام مثلا يحرص الوزيرعلى الاستعانة بالمستشارالأجنبي حتى يظهر لولي الأمر بأن خططه وأفكاره التطويرية متقدمة على فكر المجتمع ولايفهمها ويقدر على تحليها إلا خبير من وراء البحار ولهذا أصبح التسابق على المستشارين الأجانب «عدوى» في وزارات وهيئات القطاع العام فالوزير أو المسؤول الذي لا يستعين بمستشار أجنبي يصبح «ما فيه خير» وليس لديه قدرة على تطوير وزارته أو إدارته الحكومية.
ولكن الأمر المهم الذي غاب عن هؤلاء المسؤولين في خضم تسابقهم للظفر بالمستشارين الأجانب أنهم بعملهم هذا يرتكبون خطيئة لا تغتفر بحق وطنهم ومسيرته التنموية. فإذا لم نستثمر في أبنائنا ونشجعهم ونعطيهم الفرصة لاكتساب الخبرة والمعرفة التراكمية التي هي المطلب الرئيسي لتقدم الأمم وتطورها فمن ننتطر أن يستثمر في أبنائنا ويعطيهم الفرصة؟
سر قصة نجاح «أرامكو»
أنا لست ضد العامل الأجنبي أو الخبير الأجنبي أو المستشار الأجنبي فربما دعت الضرورة لذلك ومن يعتقد بأنه يمكن أن يستغني عن الآخرين فقد جانبه الصواب ولكن يجب أن نستثمر في أبنائنا ونشجعهم ونعطيهم الفرصة لاكتساب الخبرة والمعرفة التراكمية التي تأتي عن طريق التجربة العملية وتُصقل عن طريق العمل الدؤوب والتطبيق والتحسين المستمر.
وهنا تحضرني تجربة نجاح سعودية خالصة ألا وهي تجربة «أرامكو» شركة الطاقة الأكبر في العالم. عندما بدأت أرامكو كانت تُدار من قبل الأمريكيين من أعلى السلم الإداري في الشركة إلى مُشغل السنترال، واليوم ولله الحمد تتولى إدارة الشركة سواعد وعقول وطنية خالصة من رئيس مجلس الإدارة إلى أصغر مهندس في حقول البترول. كيف تمت هذه التجربة التي من الأحرى بنا استنساخها؟ نجاح هذه التجربة يعود بعد الله عزوجل إلى القيادات الوطنية المُخلصة التي آمنت بالشباب السعودي وأدركت ببعد نظرها أن مستقبل هذه البلاد يعتمد بعد الله عزوجل على سواعد وعقول أبنائها.
الله عزوجل قيض لشركة أرامكو ولوزارة البترول قيادات وطنية من الطراز الفريد، رجال يجب الاحتفاء بهم وسوف يُخلد التاريخ أسماءهم. فمن البدايات استثمرت أرامكو في الشباب السعودي وأعدتهم لتولي العمل في مفاصل الشركة من أعلى المناصب القيادية إلى أصغر موظف، إذ كانوا يعملون جنبا إلى جنب مع زملائهم الأمريكيين ويتعلمون منهم ويكتسبون الخبرة والمعرفة وتحت إشراف مباشر من وزير البترول في ذلك الوقت عبدالله الطريقي رحمه الله ومن بعده الدكتور أحمد زكي يماني متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر وبتوجيه ورعاية من ولاة الأمر رحمة الله عليهم جميعا.
فلا بأس من الاستعانة بالعامل الأجنبي والخبير الأجنبي والمستشار الأجنبي إذا دعت الضرورة ولكن أبناءنا يجب أن يكونوا القادة والعقول والمخططين والمنفذين والشركاء الحقيقيين في أي مشروع تنموي وليس مجرد ديكور لإعطاء المشاريع المليارية لمسة محلية عبارة عن إضافة ثلاثة أو أربعة من حديثي التخرج أوموظفي الصف الأخير من أجل «الغترة والعقال والعباءة والطرحة» بينما القادة والمفكرون والمخططون والآمر والناهي بيد الفريق الأجنبي. يفترض في مسؤولينا أن يكونوا أكثر فطنة وأن لا تنطلي عليهم هذه الإضافات الصورية.
* أستاذ المحاسبة المشاركرئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال / جامعة الفيصل - (الرياض)
wathnani@alfaisal.edu