كتاب ومقالات

السينما في جدة زمان

أحلام محمد علاقي

أذكر جيدا ذلك اليوم. كان منزلنا مازال يعج بآثار النقل، فقبلها بأيام وصلت حاوية تحتوي على كل ممتلكاتنا المنقولة من آخر بلد سكناه (بحكم عمل والدي الدبلوماسي) إلى مدينتنا الجميلة جدة. وقتها خرجنا أنا وأخي لباب الحديقة لننظر بفضول إلى الطريق، فوجدنا حاوية موضوعة على سيارة ضخمة وقفت أمام باب منزلنا في الحمراء. الحي الذي كان وقتها فضاء مكانيا جميلا نستطيع أن نرى منه شاطئ البحر الأحمر إن صعدنا لسطح المنزل. نزل العمال ونقلوا ما ظننته مئات الصناديق ثم رحلوا ليتركوا الباقي على أهل المنزل.

كان جو المنزل متوترا فكلنا شعرنا، حتى نحن الصغار، بضغط النقل والترتيب والحياة بوسط الصناديق.

وأذكر جيدا كيف رن هاتفنا بعدها وجاء منه صوت إحدى صديقات والدتي لتخبرها بأن هناك فيلما سيعرض تلك الليلة في مقر الجمعية الفيصلية في جدة.

وهنا تحول جو العمل الرتيب لحماس، وجاءت والدتي فألبستني ثوبا أبيض جميلا وقالت لي سوف نذهب اليوم للجمعية لحضور فيلم.

وتحمست جدا فقد كان آخر فيلم حضرته فيلما للأطفال في سيئول حينما كنا نعيش في كوريا الجنوبية. ولا أنسى كيف أن دعانا إلى هذا الفيلم أنا وأخي بعض العاملين في منزل السفارة لتوديعنا وتقديم بعض الشكر لوالدي الذي ودعوه بكل شكر وتقدير. كان ذلك فيلما جميلا للأطفال وتوقعت أن أحضر مثيلا له يومها في جدة ففرحت جدا. فبهجة حضور فيلم في السينما مختلفة عن بهجة مشاهدة التلفزيون وتفوقها بكثير.

وذهبنا يومها لحضور الفيلم في جدة. نعم يا أصدقائي كان هذا في جدة في نهايات السبعينات وأنا شاهدة على ذلك العصر أي هذا مقطع موثق من السوشال هيستوري برواية محسوبتكم كاتبة هذه السطور.

يومها يا أصدقائي أخذتني والدتي للجمعية، وهي الجمعية الفيصلية التي أسست في عهد الملك فيصل -رحمه الله- وكانت وقتها ولاتزال تقدم الكثير من الأعمال الخيرية وتقدم كورسات مختلفة لخدمة المجتمع في مجالات كثيرة مثل اللغات والخياطة وغيرها وتجمع طبقات كثيرة من المجتمع في تآلف جميل وروح تعاون رائعة.

دخلت إلى مبنى الجمعية يومها فوجدت مبنى نظيفا جميلا كان في ساحته الخارجية صفوفا منظمة من الكراسي المغطاة بالفنيل الأحمر جلست عليها سيدات كثيرات بفرح واضح يتحدثن قبل عرض الفيلم ويشربن القهوة والشاي ويأكلن المكسرات بمتعة كبيرة، وكان الأطفال منطلقين للعب في منطقة رملية ملاصقة فيها الكثير من الأرجوحات والزحاليق وغيرها من الألعاب المسلية للأطفال جدا.

كان الفيلم كما أذكر واحدا من أفلام السبعينات المصرية المعتادة وكان كما يبدو كوميديا - فكلما أذكر تفاصيل اليوم تعاودني ضحكات النساء المستمرة والطويلة. كنت للأسف وقتها لا أفهم اللغة العربية كثيرا وخاصة اللهجة المصرية ولكنني مما رأيت من ضحك الجمهور وددت لو أنني كنت أفهم ما يقال. صحيح أنني حزنت حينما اكتشفت بأنه ليس فيلما للأطفال ولكنني سرعان ما نسيت ذلك حينما رأيت الألعاب. بل وحينما انتهى الفيلم وحاولت والدتي ندائي لم أكن أرغب بالرحيل. وكانت الطريقة الوحيدة لإخراجي هي وعدها لي بتكرار الزيارة لتلك الجمعية الرائعة.

خرجنا من الجمعية فرأينا على المخرج سيدة جالسة على الأرض يناديها الجميع «بالحجة» وكانت تبيع بعض الحلويات الملونة وأكياس الشبس والعصيرات والدمي والألعاب البلاستيكية التي تتحرك أو تصدر أصواتا - فرشت بضاعتها على مفرش صغير على رقعة من الأرض وازدحم أمامها الكثير من الأطفال منبهرين ببضاعتها ما بين شارٍ ومتأمل ومتحسر. وكانت هذه «الحجة» تربط على ظهرها بربطة قماشية مولودا صغيرا جدا وأذكر أنني صعقت لهذا المنظر، فكيف ثبتت هذا الطفل على ظهرها وانطلقت في البيع والحديث بلا خوف عليه. كان ذلك شيئا بالنسبة لي غريبا جدا.

وأذكر جيدا إلى الآن كيف أنني تمتعت بذلك اليوم غاية المتعة في اللعب بالألعاب مع الأطفال وأنا كل حين وآخر أذهب لأطل على والدتي فأجدها مكانها، أذهب إليها فتعطيني حفنة من الفستق الذي قشرته خصيصا لي أو بعض قطع الشوكولاته وأذهب للعب ثانية فقد كان الوضع مطمئنا ولا ترى خوف الأمهات على أطفالهن كبيراً مثلما هو الآن، فالدنيا بخير والمكان مغلق والأمهات والأطفال على مرأى قريب.

لاحظت يومها كيف أن ساعات قليلة من المرح والترفيه البريء يمكن أن تغير مزاج الإنسان فيعود للعمل بنشاط وتفاؤل.

وبمناسبة النشاط في العمل فقد رأيت مرة صديقة ألمانية أعرفها فسألتها ما سر تفوق الألمان في الصناعة والتكنولوجيا وغيرها، قالت لي لا أستطيع أن أجاوبك إجابة دقيقة فهذا يحتاج لأبحاث وإحصائيات. ولكن كل ما أستطيع قوله هو إجمالا نحن شعب نؤمن بمقولة work hard, play hard. وأطفالنا يلعبون طوال طفولتهم ولا يبدأ الطفل في الدراسة إلا وعمره حوالي سبع سنوات وهذا السن المناسب لدخول الصف الأول الابتدائي بعد أن يكون الطفل قد نال حظه من الترفيه واللعب وكل ما يتعلمه قبل يكون عن طريق اللعب. الترفيه مهم جدا لذكاء الطفل ولإنتاج الموظف ولأداء العامل.

ترويح القلوب أصدقائي بالترفيه البريء هو استثمار في الإنسان عائده أكبر بكثير مما نتخيل.