علوي الهاشمي: سنحقق الحضارية متى ما تخلّصنا من الإسفاف
لستُ راضيا عن ورثة قصيدة النثر
السبت / 07 / جمادى الأولى / 1438 هـ السبت 04 فبراير 2017 02:18
علي الرباعي (المنامة)
al_arobai@
الحوار مع شخصية تقوم على الثراء الفني والمعرفي والإنساني مدعاة للتأزم والقلق. كنت أردد «كيف أحيط بشخصية الدكتور علوي الهاشمي». الذي سكنني اسمه منذ الثمانينات منذ قرن مضى عندما غنى له خالد الشيخ (جراح في عيون الحب). استشعرتُ حينها أن المثقف رهين جراحه المتطاولة على عيون حبه. شاعر وناقد وأكاديمي وعاشق حياة. بدأ بدراسة التجارة فأثبتت الأيام أنه لا يجيد السمسرة. ذلك أنه منحاز بكامله للجمال. ضيفنا غير راضٍ عن كثير من صور المشهد الثقافي. إلا أنه متصالح مع ذاته. لم تسنح فرصة اللقاء إلا بعد ما يزيد على ثلاثة عقود. وهنا نص الحوار:
•كيف تقرأ واقع الثقافة العربية؟
•• أعتقدُ أنها في أدنى مستوياتها، إذ إن العناية بها في عقود مضت لم تكن كما ينبغي. وعندما ادلهمت الأمور لم يكن للثقافة حضور إيجابي، عققناها بالأمس فعقتنا اليوم، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، بدر الثقافة يا عزيزي مجزأ ومنقسم وموزع في نتاج متفرق لا يخرج من إطار العادي في ظل رحيل الكبار. دعني أسألك: هل هناك من سدّ مكان الراحل الكبير غازي القصيبي ممن كانوا يعبرون عنا وعن مآسينا. هناك أصوات تعبر عن الذات، والتعبير عن الذوات ليس بمستوى المرحلة.
•ألستَ راضيا عن دور الجيل الجديد وتفاعلهم اليوم؟
•• هذا الجيل لم أره يحمل الراية، لم يبرز منه كبار، لا أشعر بالرضا، فالمسألة أشبه بالأب عندما يقتسم أولاده إرثه فيضعف الإرث ويتلاشى. المغامرة الكتابية ارتبطت بأدوات التعبير عنها. جيل اليوم يختبئ وراء الأجهزة ليعبر عن ذاته. فيما كانت الأجيال تواجه الخطر لتعبر عن هموم المجتمع. وتجابه السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي ويموتون شهداء في سبيل فكرة خلاقة أو عمل إبداعي، ولم يكونوا يختبئون إلا وراء الرمزي والجمالي وابتكار الصور، ليقدموا للناس أجمل ما ينتجون بعد عمل شاق وتمحيص الآن يسرعون في القراءة والكتابة والنشر بضغطة زر.
•ما أبرز صور معاناة جيلك؟
•• أصدقك أن العوائق كانت كثيرة، على مستوى القدرة على طباعة العمل إذ تضطر إلى التوفير من قوتك اليومي لتطبع نتاجك، والبعض اضطر لتأسيس دار نشر ومنهم سهيل إدريس، ونزار قباني، وأنا شخصياً اضطررت لطباعة كتبي في أكثر من بلد عربي بسبب حسابات خاصة ومواقف.
•هل يعني أنك حزبي؟
•• إطلاقاً، عمري لم أنتم لتيار سياسي، أو حزب أيديولوجي. أنا لا أحب السياسة كثيراً وإن كان الوعي بها ضروريا. لتغذية الوجدان والرؤية والموقف إلا أنها لا تهمني على المستوى الميداني. فماذا يمكن أن يفعل شاعر في وجه البنادق. أنا كاتب شغلي هو التعبير عن هموم الناس من خلال اللغة، يمكن للمثقف أن يكون له موقف وانتماء ما لكنه عندما يعبّر يفترض أن يعبر عنها جمالياً كون هناك فرقا كبيرا بين المبدع وبين عامة الناس الذين لا يحسنون التعبير عن أنفسهم إلا بالخروج في الشوارع.
•بماذا ترد على من يرى أنه لم تكن لدينا حداثة حقيقية؟
•• في المراحل الأولى منع طغيان الحركات السياسية القومية العمل الحداثي الجمالي؛ لأن أي أيديولوجيا تطغى تريد سحب البساط من تحت المبدعين وتحولهم إلى حطب ووقود للحراك. كانت الناصرية، ثم العروبة والإسلام يسارية ويمينية، ثم الإسلاموية اليوم، كل هذه المشاريع خنقت الإبداع، ونحن في الخليج كان اليسار متنفساً لنا في الستينات من خلال نتاج المبدعين (غوركي، تولستوي) وغيرهما ممن قدموا رؤية منفتحة على الحياة والعالم، حينها كانت لنا حداثة حقيقية. ومع طغيان الحركات السياسية لاحقاً أظلمت القوقعة، كلما انفتحت الأيديولوجيا انغلقت الرؤية عند المبدع، والعكس صحيح.
•ماذا عن السبعينات وتجليات الحداثة؟
•• اختلفت الرؤية مطلع السبعينات، أسسنا حركة حداثية شعرية إلا أنها تعرضت لسوء الفهم، وأراد البعض أن يصنفها حداثة سياسية، مصطلحاً، والتزاماً، وكأنها منشورات وشعارات حزبية، وكتب عنها أكاديميون أطروحات خصوصا الشعر، وكنتُ من أوائل من شارك في المؤتمر الأول للأدباء العرب في دمشق 1970. فشعرت بالخطر على الحركة الأدبية فتحولت من شاعر إلى ناقد، إذ إن البعض تعاطى مع الجماليات بسهام النقد وأصابها في مقتل فاضطررتُ للدفاع وإخراج طراوة الجمال من الغابات المظلمة ورددت على الأكاديميين بأكاديمية، وللعلم كان تخصصي في التجارة، فالتحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت ودرستُ الأدب، ثم في جامعة القاهرة درست الماجستير، وفي جامعة تونس درست الدكتوراة، وكان الدافع الأكبر الدفاع عن الحركة الشعرية.
•أين تقف من زمن الصورة؟
•• هذه حكاية كبرى فيها من الغنى ما لا حدود له، نحن الآن في زمن الصورة دون مكابرة، وفي زمن الصورة تنقلب المعادلة الشعرية؛ كون العين تحل محل الأذن، والثقافة مربوطة بالصورة، ولم يكن الأمر مفاجئاً، هناك استشعار مبكر، دفع البعض من الشعراء في الثلث الأخير من القرن الماضي إلى إدخال الصورة الفوتوغرافية في النص وتوظيفها، أذكر منهم أنسي الحاج. والبعض رسم أشكال.
•ما مدى رضاك عن قصيدة النثر؟
•• قصيدة النثر تتمثل مهارتها في الدخول إلى الأذن الداخلية، ومبارحة الأذن الخارجية، وتتلقى إيقاعها بإنصات خاص، قصيدة النثر عرق جمال في الشعر، نص عابر للأشكال واللغات واللهجات، وجسر جمالي لا يهتم بالشكل، ولا يؤمن بقيود ولا نمطية، من يختار شكلا سابقاً كمن يختار سجنا ويرفض الحرية، النص يخرج من فاعلية الذات وهي تتعامل مع ذاتها الشاعرية.
•ماذا عن الرواية؟
•• من أهم الانقلابات في هذا العصر الانقلاب على الشعر لمصلحة الرواية، وعندما يطلق البعض على العصر عصر الرواية فمعهم الحق؛ لأن الرواية كانت من الذكاء بمكان. اعتمدت على إمكاناتها البنائية من السرد والصورة المتحركة للحدث، والشخصيات، والحركة ببصيرتها تجذب وتشد المتابع بينما تظل رؤية الشعر داخلية، من حسن حظ الرواية أنها دخلت العصر قبل الشعر، غزت التلفزيون والسينما وتحولت لمسلسلات وأفلام، حتى اليوم لم نر قصيدة تمثّل.
•كم المسافة بين الحداثة وبين التحديث؟
•• التحديث آلية وأداة من أدوات الحداثة ومشروعها، التحديث مصنع، من لا يمتلك المصنع لا يخرج المصنوع، والحداثة قوة معنوية وروحية تخرج من الحداثات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأفكار والمشاريع والمناهج ووسائل البناء. مع الأسف تشظى التحديث وتحول المصنع الكبير إلى مصانع صغيرة وكثيرة، ما تتسم به كثرة الضجيج، خصوصاً التيار الإسلامي، الذي علا ضجيجه ما يدل على أن الماكينة (خربانة) والسيارة المخبطة أو المبوشة صوتها أعلى وضجيجها أكبر. إذ كلما كانت المكنة قوية وصالحة كلما خفت صوتها وهدأ، كما أن من يملك المصنع أو الآلة يحتاج إلى أن يكون مؤهلاً في التعامل معها، وأن تكون لديه إستراتيجية فاعلة ممكنة التطبيق وليست شعاراتية خاوية من مضمون. نحن بحاجة لتحديث فعلي يعتمد على المنجز الحضاري للأمم والشعوب كوننا جزءا من هذا العالم. ربما من أسباب الرجعية الكبرى الحرية مفهوماً وممارسة.
•ما أبرز جنايات التراث علينا؟
•• كل البلدان التي تطورت لم تنقطع عن سياقها التاريخي، ولا عن تراثها، ولا عن دينها، ولكنها لم تجعل كل ذلك أمامها، بل وضعته وراءها؛ كون المستقبل في الأمام، والماضي في الخلف، هذه هي المعادلة، البعض منا لا يزال يصر على أن مستقبلنا وراءنا، ولذا لا بد أن يكون تراثنا أمامنا وهذه مغالطة للواقع وللمنطق ولتجارب البشر الأسوياء. بإمكاني أن أحب جدي لكني لستُ جدي، أنا ابن عصري، أستحضر الأب والجد والأسلاف، والمعلقات العشر، ولكن أقرأ وأكتب وأفهم وأستنتج بلغة عصري وزمني دون نسيان الأسلاف أو التنكر لهم. نحن مسكونون بالتراث، هو انتقانا قبل أن ننتقيه، وإذا كان من شر لا بد من تجاوزه فهو (عفن التراث) مما ألحق بتراثنا من طائفية تنخر جسد الأمة.
• كيف ترى حراك المجتمعات بين الثابت والمتحول؟
•• كل شيء من حولنا متغير وليس ثابتا. حتى الشجرة المعمرة تتغير وإن لم نشعر بالتغيير. الذي يدّعي أنه لا يتغير يتوهم أنه لا يتغير، نحن مجتمعات تتغير بفعل لا إرادي، فالكون متحول وفصول السنة، واللغة كائن حي يعبر عنها وهي تتغير، لكننا نأخذ ممن سبقنا لنولد ولادات جديدة، أو متجددة.
•ماذا عن الجامعات وأنت أحد الأكاديميين؟
•• الجامعة، والمؤسسة الثقافية وكافة المؤسسات تقوم على حراك مجتمعي، أو اجتماعي. المثقف والأكاديمي يضعفان بضعف المؤسسة، كم لدينا من مؤسسات ثقافية وأكاديمية؟ أين أثرها؟ وما أبرز ملامح قوتها؟ المجتمع مسؤول عن قوة المؤسسة، والمؤسسة القوية تزيد من قوة المجتمع، هنا تبادلية ديناميكية، وللعلم سطوة وقوة وتسلط الكبت الاجتماعي من معوقات نمو وازدهار المؤسسات، بل هي أعتى السلطات، وأعصاها على المرونة، ويمكن بفتوى دينية أن تخرب مشروعاً ثقافياً تنويرياً، إذ المؤسسات لدينا غير محظوظة لأنها لم تنعتق من سلطات عدة تحاصرها وترى أنها لا بد أن تظل تحت وصايتها. طلاب الجامعة من أين يأتون؟ من أسرة، والأسرة هي جزء من مجتمع، والمؤسسة لدينا حديثة في عمرها، ضعيفة في أثرها، مغلوبة على أمرها، والتنوير في أوروبا لم ينجح في صنع التحول إلا عندما أوقف قوى التخلف عند حدها، وأعادها إلى كنائسها، ومن يريدها يذهب إليها.
•دعنا نستعيد قصيدتك (جراح في عيون الحب) التي غناها خالد الشيخ؟
•• هذه القصيدة المغناة من أوائل تجاربي، كنت عائداً من بريطانيا، حالماً بالحب وبشريكة عمر نبني معها عشاً صغيراً ونحقق أحلامنا تحت مظلة الوطن الكافل لكل أدبيات وحقوق المواطن، فصدمت بخيبات عدة، فكانت القصيدة التي زاوجت بين الواقع وبين الذات (الحب المرأة) والحب الرمز (الوطن) خالد الشيخ لحنها وغناها لكنه لم يوقعها بالإيقاع الراقص كما وقع قصائد علي الشرقاوي. فأدخلها بهيبتها وكبريائها إلى المرقص ولم يلق لها الكثيرون بالاً، هي نخبوية على مستوى الكلمات واللحن والأداء. يسعدني أن هناك من لا يزال يتذكرها ويعيشها بكل شجنها.
•متى تعود إلى الشعر؟
•• الناقد احتل مني مساحة كبيرة ما حجّم مساحة الشاعر. والواقع أني أشعر أن الأهم اليوم فسح المجال للناقد. لم أزل أطمح الاستمرار في مشروع قراءة التجارب الحداثية. قرأت تجارب شعراء سعوديين ويحدوني الأمل أن أكمل جميع التجارب الخليجية.
الحوار مع شخصية تقوم على الثراء الفني والمعرفي والإنساني مدعاة للتأزم والقلق. كنت أردد «كيف أحيط بشخصية الدكتور علوي الهاشمي». الذي سكنني اسمه منذ الثمانينات منذ قرن مضى عندما غنى له خالد الشيخ (جراح في عيون الحب). استشعرتُ حينها أن المثقف رهين جراحه المتطاولة على عيون حبه. شاعر وناقد وأكاديمي وعاشق حياة. بدأ بدراسة التجارة فأثبتت الأيام أنه لا يجيد السمسرة. ذلك أنه منحاز بكامله للجمال. ضيفنا غير راضٍ عن كثير من صور المشهد الثقافي. إلا أنه متصالح مع ذاته. لم تسنح فرصة اللقاء إلا بعد ما يزيد على ثلاثة عقود. وهنا نص الحوار:
•كيف تقرأ واقع الثقافة العربية؟
•• أعتقدُ أنها في أدنى مستوياتها، إذ إن العناية بها في عقود مضت لم تكن كما ينبغي. وعندما ادلهمت الأمور لم يكن للثقافة حضور إيجابي، عققناها بالأمس فعقتنا اليوم، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، بدر الثقافة يا عزيزي مجزأ ومنقسم وموزع في نتاج متفرق لا يخرج من إطار العادي في ظل رحيل الكبار. دعني أسألك: هل هناك من سدّ مكان الراحل الكبير غازي القصيبي ممن كانوا يعبرون عنا وعن مآسينا. هناك أصوات تعبر عن الذات، والتعبير عن الذوات ليس بمستوى المرحلة.
•ألستَ راضيا عن دور الجيل الجديد وتفاعلهم اليوم؟
•• هذا الجيل لم أره يحمل الراية، لم يبرز منه كبار، لا أشعر بالرضا، فالمسألة أشبه بالأب عندما يقتسم أولاده إرثه فيضعف الإرث ويتلاشى. المغامرة الكتابية ارتبطت بأدوات التعبير عنها. جيل اليوم يختبئ وراء الأجهزة ليعبر عن ذاته. فيما كانت الأجيال تواجه الخطر لتعبر عن هموم المجتمع. وتجابه السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي ويموتون شهداء في سبيل فكرة خلاقة أو عمل إبداعي، ولم يكونوا يختبئون إلا وراء الرمزي والجمالي وابتكار الصور، ليقدموا للناس أجمل ما ينتجون بعد عمل شاق وتمحيص الآن يسرعون في القراءة والكتابة والنشر بضغطة زر.
•ما أبرز صور معاناة جيلك؟
•• أصدقك أن العوائق كانت كثيرة، على مستوى القدرة على طباعة العمل إذ تضطر إلى التوفير من قوتك اليومي لتطبع نتاجك، والبعض اضطر لتأسيس دار نشر ومنهم سهيل إدريس، ونزار قباني، وأنا شخصياً اضطررت لطباعة كتبي في أكثر من بلد عربي بسبب حسابات خاصة ومواقف.
•هل يعني أنك حزبي؟
•• إطلاقاً، عمري لم أنتم لتيار سياسي، أو حزب أيديولوجي. أنا لا أحب السياسة كثيراً وإن كان الوعي بها ضروريا. لتغذية الوجدان والرؤية والموقف إلا أنها لا تهمني على المستوى الميداني. فماذا يمكن أن يفعل شاعر في وجه البنادق. أنا كاتب شغلي هو التعبير عن هموم الناس من خلال اللغة، يمكن للمثقف أن يكون له موقف وانتماء ما لكنه عندما يعبّر يفترض أن يعبر عنها جمالياً كون هناك فرقا كبيرا بين المبدع وبين عامة الناس الذين لا يحسنون التعبير عن أنفسهم إلا بالخروج في الشوارع.
•بماذا ترد على من يرى أنه لم تكن لدينا حداثة حقيقية؟
•• في المراحل الأولى منع طغيان الحركات السياسية القومية العمل الحداثي الجمالي؛ لأن أي أيديولوجيا تطغى تريد سحب البساط من تحت المبدعين وتحولهم إلى حطب ووقود للحراك. كانت الناصرية، ثم العروبة والإسلام يسارية ويمينية، ثم الإسلاموية اليوم، كل هذه المشاريع خنقت الإبداع، ونحن في الخليج كان اليسار متنفساً لنا في الستينات من خلال نتاج المبدعين (غوركي، تولستوي) وغيرهما ممن قدموا رؤية منفتحة على الحياة والعالم، حينها كانت لنا حداثة حقيقية. ومع طغيان الحركات السياسية لاحقاً أظلمت القوقعة، كلما انفتحت الأيديولوجيا انغلقت الرؤية عند المبدع، والعكس صحيح.
•ماذا عن السبعينات وتجليات الحداثة؟
•• اختلفت الرؤية مطلع السبعينات، أسسنا حركة حداثية شعرية إلا أنها تعرضت لسوء الفهم، وأراد البعض أن يصنفها حداثة سياسية، مصطلحاً، والتزاماً، وكأنها منشورات وشعارات حزبية، وكتب عنها أكاديميون أطروحات خصوصا الشعر، وكنتُ من أوائل من شارك في المؤتمر الأول للأدباء العرب في دمشق 1970. فشعرت بالخطر على الحركة الأدبية فتحولت من شاعر إلى ناقد، إذ إن البعض تعاطى مع الجماليات بسهام النقد وأصابها في مقتل فاضطررتُ للدفاع وإخراج طراوة الجمال من الغابات المظلمة ورددت على الأكاديميين بأكاديمية، وللعلم كان تخصصي في التجارة، فالتحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت ودرستُ الأدب، ثم في جامعة القاهرة درست الماجستير، وفي جامعة تونس درست الدكتوراة، وكان الدافع الأكبر الدفاع عن الحركة الشعرية.
•أين تقف من زمن الصورة؟
•• هذه حكاية كبرى فيها من الغنى ما لا حدود له، نحن الآن في زمن الصورة دون مكابرة، وفي زمن الصورة تنقلب المعادلة الشعرية؛ كون العين تحل محل الأذن، والثقافة مربوطة بالصورة، ولم يكن الأمر مفاجئاً، هناك استشعار مبكر، دفع البعض من الشعراء في الثلث الأخير من القرن الماضي إلى إدخال الصورة الفوتوغرافية في النص وتوظيفها، أذكر منهم أنسي الحاج. والبعض رسم أشكال.
•ما مدى رضاك عن قصيدة النثر؟
•• قصيدة النثر تتمثل مهارتها في الدخول إلى الأذن الداخلية، ومبارحة الأذن الخارجية، وتتلقى إيقاعها بإنصات خاص، قصيدة النثر عرق جمال في الشعر، نص عابر للأشكال واللغات واللهجات، وجسر جمالي لا يهتم بالشكل، ولا يؤمن بقيود ولا نمطية، من يختار شكلا سابقاً كمن يختار سجنا ويرفض الحرية، النص يخرج من فاعلية الذات وهي تتعامل مع ذاتها الشاعرية.
•ماذا عن الرواية؟
•• من أهم الانقلابات في هذا العصر الانقلاب على الشعر لمصلحة الرواية، وعندما يطلق البعض على العصر عصر الرواية فمعهم الحق؛ لأن الرواية كانت من الذكاء بمكان. اعتمدت على إمكاناتها البنائية من السرد والصورة المتحركة للحدث، والشخصيات، والحركة ببصيرتها تجذب وتشد المتابع بينما تظل رؤية الشعر داخلية، من حسن حظ الرواية أنها دخلت العصر قبل الشعر، غزت التلفزيون والسينما وتحولت لمسلسلات وأفلام، حتى اليوم لم نر قصيدة تمثّل.
•كم المسافة بين الحداثة وبين التحديث؟
•• التحديث آلية وأداة من أدوات الحداثة ومشروعها، التحديث مصنع، من لا يمتلك المصنع لا يخرج المصنوع، والحداثة قوة معنوية وروحية تخرج من الحداثات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأفكار والمشاريع والمناهج ووسائل البناء. مع الأسف تشظى التحديث وتحول المصنع الكبير إلى مصانع صغيرة وكثيرة، ما تتسم به كثرة الضجيج، خصوصاً التيار الإسلامي، الذي علا ضجيجه ما يدل على أن الماكينة (خربانة) والسيارة المخبطة أو المبوشة صوتها أعلى وضجيجها أكبر. إذ كلما كانت المكنة قوية وصالحة كلما خفت صوتها وهدأ، كما أن من يملك المصنع أو الآلة يحتاج إلى أن يكون مؤهلاً في التعامل معها، وأن تكون لديه إستراتيجية فاعلة ممكنة التطبيق وليست شعاراتية خاوية من مضمون. نحن بحاجة لتحديث فعلي يعتمد على المنجز الحضاري للأمم والشعوب كوننا جزءا من هذا العالم. ربما من أسباب الرجعية الكبرى الحرية مفهوماً وممارسة.
•ما أبرز جنايات التراث علينا؟
•• كل البلدان التي تطورت لم تنقطع عن سياقها التاريخي، ولا عن تراثها، ولا عن دينها، ولكنها لم تجعل كل ذلك أمامها، بل وضعته وراءها؛ كون المستقبل في الأمام، والماضي في الخلف، هذه هي المعادلة، البعض منا لا يزال يصر على أن مستقبلنا وراءنا، ولذا لا بد أن يكون تراثنا أمامنا وهذه مغالطة للواقع وللمنطق ولتجارب البشر الأسوياء. بإمكاني أن أحب جدي لكني لستُ جدي، أنا ابن عصري، أستحضر الأب والجد والأسلاف، والمعلقات العشر، ولكن أقرأ وأكتب وأفهم وأستنتج بلغة عصري وزمني دون نسيان الأسلاف أو التنكر لهم. نحن مسكونون بالتراث، هو انتقانا قبل أن ننتقيه، وإذا كان من شر لا بد من تجاوزه فهو (عفن التراث) مما ألحق بتراثنا من طائفية تنخر جسد الأمة.
• كيف ترى حراك المجتمعات بين الثابت والمتحول؟
•• كل شيء من حولنا متغير وليس ثابتا. حتى الشجرة المعمرة تتغير وإن لم نشعر بالتغيير. الذي يدّعي أنه لا يتغير يتوهم أنه لا يتغير، نحن مجتمعات تتغير بفعل لا إرادي، فالكون متحول وفصول السنة، واللغة كائن حي يعبر عنها وهي تتغير، لكننا نأخذ ممن سبقنا لنولد ولادات جديدة، أو متجددة.
•ماذا عن الجامعات وأنت أحد الأكاديميين؟
•• الجامعة، والمؤسسة الثقافية وكافة المؤسسات تقوم على حراك مجتمعي، أو اجتماعي. المثقف والأكاديمي يضعفان بضعف المؤسسة، كم لدينا من مؤسسات ثقافية وأكاديمية؟ أين أثرها؟ وما أبرز ملامح قوتها؟ المجتمع مسؤول عن قوة المؤسسة، والمؤسسة القوية تزيد من قوة المجتمع، هنا تبادلية ديناميكية، وللعلم سطوة وقوة وتسلط الكبت الاجتماعي من معوقات نمو وازدهار المؤسسات، بل هي أعتى السلطات، وأعصاها على المرونة، ويمكن بفتوى دينية أن تخرب مشروعاً ثقافياً تنويرياً، إذ المؤسسات لدينا غير محظوظة لأنها لم تنعتق من سلطات عدة تحاصرها وترى أنها لا بد أن تظل تحت وصايتها. طلاب الجامعة من أين يأتون؟ من أسرة، والأسرة هي جزء من مجتمع، والمؤسسة لدينا حديثة في عمرها، ضعيفة في أثرها، مغلوبة على أمرها، والتنوير في أوروبا لم ينجح في صنع التحول إلا عندما أوقف قوى التخلف عند حدها، وأعادها إلى كنائسها، ومن يريدها يذهب إليها.
•دعنا نستعيد قصيدتك (جراح في عيون الحب) التي غناها خالد الشيخ؟
•• هذه القصيدة المغناة من أوائل تجاربي، كنت عائداً من بريطانيا، حالماً بالحب وبشريكة عمر نبني معها عشاً صغيراً ونحقق أحلامنا تحت مظلة الوطن الكافل لكل أدبيات وحقوق المواطن، فصدمت بخيبات عدة، فكانت القصيدة التي زاوجت بين الواقع وبين الذات (الحب المرأة) والحب الرمز (الوطن) خالد الشيخ لحنها وغناها لكنه لم يوقعها بالإيقاع الراقص كما وقع قصائد علي الشرقاوي. فأدخلها بهيبتها وكبريائها إلى المرقص ولم يلق لها الكثيرون بالاً، هي نخبوية على مستوى الكلمات واللحن والأداء. يسعدني أن هناك من لا يزال يتذكرها ويعيشها بكل شجنها.
•متى تعود إلى الشعر؟
•• الناقد احتل مني مساحة كبيرة ما حجّم مساحة الشاعر. والواقع أني أشعر أن الأهم اليوم فسح المجال للناقد. لم أزل أطمح الاستمرار في مشروع قراءة التجارب الحداثية. قرأت تجارب شعراء سعوديين ويحدوني الأمل أن أكمل جميع التجارب الخليجية.