عين على غرفة العمليات وأخرى تجول!
الأربعاء / 11 / جمادى الأولى / 1438 هـ الأربعاء 08 فبراير 2017 01:21
فؤاد مصطفى عزب
أيها الأخيار، اعلموا أننا مجتمعون كل أربعاء بيسر الكلمة في درب على ظهر سفينة محبة من أجل إبحار لا أعرف مساره أحياناً.. أكتب لكم من حين لآخر عن لحظات شخصية معتمة أمر بها تفضي في النهاية إلى نور ما.. ليس الغرض منها تزجية الوقت فهي لحظات تسكنني وتحولني دون أن أشعر إلى شلال بوح.. أحتاج إلى أن أخرجها من جسدي لتحرير بعض الجيوب المثقلة.. أنا في حاجة إليكم أحياناً لأشارككم هذا الخراب النفسي ولأحملكم على كتفي لتكونوا معي على ظهر السفينة التي أمضي بها، حيث يكون الوصول إلى الشاطئ معاً أحياناً منذوراً بالصمت والتأمل ولن تكون هناك صلوات فقط ودعاء بل إيمان مطلق دائماً.. كان علينا أن نصحوا مبكرين في ذلك اليوم لنلحق بموعد إجراء عملية دقيقة وخطرة أخرى (لسيدة الدار وردة القلب الذابلة أم فراس) عملية أخرى.. تجربة أخرى تأكل وجودها والخوف يحط رحاله ويشعل القلق.. هذا المرض قلب حياتنا وجعل الليل نهارا وغلبنا كيف نسترضيه بالمسكنات أحياناً وبالعمليات المتعاقبة أحياناً أخرى.. عاندناه فلم يبتعد عنا.. جعل اليباس والآهات عنواناً لأيامنا.. أفلح هذا اللعين في إزالة النعومة عن بشرة حياتنا.. ضيف ثقيل لم ندعه يوماً.. اقتحم منزلنا وجلس في صدارة الدار وسرق منا كل شيء.. أسى جارف ينبطح تحت ثقله الكثيرون.. فقل من حظي ليس بامتياز معرفته بل ببساطة تخمين أشكاله وثقله وعتمته.. أسى يخلع أوصال الكائن وينتزعه من الأرض ويلقي به كسقط متاع.. البرد يفتت العظام هذا الصباح حتى الحجر الذي ابتل البارحة بالثلج ينتظر بفارغ الصبر سقوط بعض الضوء حتى تعود الحرارة إليه.. تتنازعني أفكار وأنا أتجه بالعربة إلى المستشفى لا أعرف لها قرار.. حيرة ذهن شارد سقط في حفرة تسع بحر.. أفكر في القادم على حين غفلة.. قلت لها مواسياً من يقوى على الصبر يشتد، أنت مؤمنة وصابرة.. شكرتني على الإطراء ثم خارت قواها وانسكب الدمع سخياً.. ضياع حتى الانهيار.. وخراب نفسي لا يفضي لأي مكان.. ثمة قطرات من الماء لعلها دموعي تتساقط.. أقسو على مشاعري وأتابع مشواري.. الأضواء الصباحية الخفيفة تساعدني على التفاؤل من يمشي في العتمة فلا بد أن يبصر الفضاء.. المستشفى مستوحد.. الصمت يخيم على المكان.. رهبة المكان تحرك عضلة القلب.. عيوني تسجل تضاريس المكان، شعرت بدفء الغرفة تتسرب إلى داخلي.. تخلصت من الستره الجلدية.. الجميع هنا تائهون في عذاباتهم..عازفون على آلامهم.. تأتي اللحظة المخيفة يتملكني طقس الغرق.. إن فقدتها أفقد كل شيء.. أدور أترنح يتفصد العرق من جبيني.. ألثم يدها.. وهي على السرير الذي يقلها لغرفة العمليات أقول لها بأنها شمس هذا الصباح.. أستثير بكاءها.. أراقبها مسجية متضرعة تقرأ آيات تطمنئها.. ألثم جبينها فتهدأ ثم تمضي إلى حال سبيلها وهي تلتفت إلي.. أتوجه إلى قاعة الانتظار المقابلة لغرفة العمليات، أخطو إليها كأعمى يتقدم فوق سطح غير مسور.. كان أسى عميق يلاحقني.. متعب الأعصاب.. شعور بالمرارة والحزن.. رأسي مثقل.. أين أخفيه؟ جرح تائه يستقر في القلب تارة وطورا في الأطراف المرئية في الجسد.. أفكر في الأيام التي تفتت مثل خبز تفتت بيد لإطعام حمام.. أنا رجل متدين بل وشديد التدين غير أن المرض يكبل الأفكار ويجعل الخوف حاضراً في كل آن!! أتغلب على حالة الضياع.. أخرج مصحفاً صغيراً غالباً ما أحمله في جيب سترتي التي ارتديها.. أستفتح باسم الله وأبدأ في التلاوة من سورة التوبة ((ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين)) بعد برهة أحسست بمن يقف بالقرب مني.. رفعت عيني إليه.. غمرني بابتسامة ودودة تحركت شفتاي مصدقاً بالله العظيم .. هممت بالقيام لتحيته، رجاني ألا أفعل، أستأذنني أن يجلس إلى جواري، وأكد علي أنه لا يحتاج مني شيئاً.. سألني فقط هل أقرأ في الكتاب المقدس؟ قلت له نعم قبل أن أستفسر منه عن سبب سؤاله.. شرح لي مقصده.. فهمت منه أنه جاء أيضاً مصطحباً زوجته وأنه كان في مواجهتي يقرأ (الإنجيل) طالباً السكينة والرحمة ورفع البلاء عن زوجته، جذب انتباهه جلستي الورعة المستغرقة، خمن أيضاً أنني أقرأ في الكتاب المقدس الذي يخص ديني واستنتج أننا نمر بقلق مشترك.. أثلج صدري في نهاية محادثته أنه طلب مني أن أدعو الله أن يشفي زوجته (ماري) وهو سيدعو لزوجتي بالشفاء وطلب اسمها وذهب إلى مقعده بهدوء، كنت مثل الشجرة التي تحتفظ بقشرتها الخارجية تحتفظ بمظهرها المتماسك لكنها منخورة من الداخل، هيكل فارغ لكن لا يزال بداخله قلب ورئتان يزاولان عملهما.. كان كلامه يداعب حواسي.. أحسست بطعم شيء ما عبرني وترك بعض الإحسان في أماكن مروره المشاعر مثل السائل ساكن في جوف الليل يكفي أي ضجيج كي يستيقظ.. شاهدته يمسح عينيه وهو يفتح (الإنجيل) من جديد وينظر إلى ناحيتي محنيا بانحناءة بسيطة من رأسه.. عدت إلى (مصحفي) كما عاد هو الى (إنجيله) أخذت دموعي الهشة تنساب على وجنتي تلقائيا، كانت يداي نديتين، ولم تعد دورتي الدموي طبيعية.. شيء ما يرتعش بداخلي.. لعلها روحي.