أثر.. مقطع من رواية الفيومي
السبت / 14 / جمادى الأولى / 1438 هـ السبت 11 فبراير 2017 02:03
طاهر الزهراني*
الجبال.. الجبال..
لا حياةَ في الجبالِ بعد رحيله، المطرُ لم يأتِ منذ فترة طويلة، غبشٌ في الصور بسبب الغبار العالق الذي لا يريد النزول ولا الصعود، متشبِّثٌ بالتضاريس والهواء.
لا تكاد ترى حياة هناك، لا طيورَ جارحة، لا رفرفةَ حجل، ولا صوتَ لأبي معول، لا ضحكاتِ وبارة تتردَّدُ في صدور الجبال، ولا نقيقَ للضفادع في غدران الشِعاب.
السقيفةُ مبقورةٌ، باردةٌ بلا دفء، المكانُ يشتاق لمداعبات الأحبَّة في لحظات الصفاء، الموقدُ يفتقدُ حرارة الجمر، ورائحة الخبر، الوحشةُ هي الساكنُ هناك، الساكن الذي يبغض الحياة.
«الصِفِر» هو ما تبقَّى من المواجهة بين فردٍ ضعيفٍ، وقوةٍ موجَّهةٍ لا تشعر، الصِفِر المبثوث القادم من نحاس الأرض يرغب في العودة إلى قلوب الصخور بدلاً من رؤوس الناس، وقلوبهم.
«الصِفِر» بعد أن تخلَّص من رؤوسه عبر حلوق البنادق، بقي جثاثًا صفراءَ، لا حياةَ لها سوى البريق الذي يحدثه النجمُ الكبيرُ، البريق في الصدوع، والجباه، على الصخور، وأسفل جذوع الشجر.
«الصِفِر» جثثٌ أخرى في المعارك، فراغٌ مرعبٌ محروقٌ داخله، بعد أن كان يحبس الدويّ والاشتعال، والموت. الموتُ في الطرف المقابل، موتُ البشر، أو موتُ المعابر سحلاً فوق الصخور، أو بردًا في سماء الله.
الأشجارُ يابسةٌ، البشامُ دون لحاء؛ بسبب جوع الكائنات التي لا تُرى، والغدرانُ نشف أغلبها، وبقي بعضها محتفظًا بفضلة خضراء آسنة، ضاقت بالضفادع، وشراغيفها.
الشِعبُ يفتقد خطى الصيَّاد الذي لا يُصدِر صوتًا إلاَّ نداءً للصيد؛ كي يأتي لسد الجوع، الصيَّاد الذي ينقذ النَّحل الغارق، الذي يتأمَّل العقاب الجاثم فوق القمم ينتظر الطرائد، الصيَّاد الذي يبخِّر الشعب برائحة الحطب، والشواء.
الصخورُ الحادَّةُ اشتاقت للعرق الأصيل، ملوحة العناء والانتظار والترصُّد، العرقُ الرطبُ الذي ينزُّ عبر المسام التي تفتَّحت بفعل التسلُّق الدائم نحو شعف الجبال، ومقابلة النجم مباشرة دون حائل، عرقه الحُرُّ الذي لم تخنقه مدن الإسمنت، وأجهزة التكييف.
تمَّت مصادرةُ السلاحِ والذخيرةِ من البيت والسقيفة، رُحِّلت العجوز والماشية، وحول البيت الذي كان لُفَّ حيًّا شريطٌ يمنع الناس من دخوله.
البيوتُ في شِعب آل فيوم مواتٌ، أصبحت مأوى للدبابير، وقرود البابون، غاب مَن كان يطاردها، ويثوِّر البنادق نحوها، سقوف المنازل بدأت تنهار؛ بسبب النمل الأبيض، هو بيت الحجر الذي ما زال صامدًا في وجه الزمان.
على أطراف الوادي البلاد التي لم تُزرع منذُ أمدٍ، فغزتها أشجار الشوك من سلم وسمر، على الأطراف أشجار السدر التي ما زالت كريمةً تطرح النبق الناضج، فلا يجد سوى النمل، والدود، وطيور الدوري التي تتقافز في الظِلال، تلك التي لم تحفل بإنسان بعد المواجهة الأخيرة.
الفتى النحيلُ الأسمرُ بفعل الشمس، وركوب الجبال، ذو الشعرِ الأسود الأشعث، واللحية التائه، وجدوه مغمى عليه بعد أن نزف، ممدَّدًا فوق الصخور، مستورًا جذعه بمصنّف جنوبي ملوَّن، فحملوه، فانحلّ الإزارُ، فتاهت النَّظرات في المكان، فأخذت تقرض الشجر، والبلاد والقمم «الفاهقة»، والسماء العاجزة عن فعل شيء سوى النظر بزرقة باردة.
كان آخر شيء باشر الأرض بعد الرصاص المسكوب، دم الفتى الذي نزف ذاكرته بكرمٍ جنوبيٍّ مشهودٍ في الوادي، الذاكرة التي تنتظر السيل، علَّه يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبال.
____________
* روائي سعودي
لا حياةَ في الجبالِ بعد رحيله، المطرُ لم يأتِ منذ فترة طويلة، غبشٌ في الصور بسبب الغبار العالق الذي لا يريد النزول ولا الصعود، متشبِّثٌ بالتضاريس والهواء.
لا تكاد ترى حياة هناك، لا طيورَ جارحة، لا رفرفةَ حجل، ولا صوتَ لأبي معول، لا ضحكاتِ وبارة تتردَّدُ في صدور الجبال، ولا نقيقَ للضفادع في غدران الشِعاب.
السقيفةُ مبقورةٌ، باردةٌ بلا دفء، المكانُ يشتاق لمداعبات الأحبَّة في لحظات الصفاء، الموقدُ يفتقدُ حرارة الجمر، ورائحة الخبر، الوحشةُ هي الساكنُ هناك، الساكن الذي يبغض الحياة.
«الصِفِر» هو ما تبقَّى من المواجهة بين فردٍ ضعيفٍ، وقوةٍ موجَّهةٍ لا تشعر، الصِفِر المبثوث القادم من نحاس الأرض يرغب في العودة إلى قلوب الصخور بدلاً من رؤوس الناس، وقلوبهم.
«الصِفِر» بعد أن تخلَّص من رؤوسه عبر حلوق البنادق، بقي جثاثًا صفراءَ، لا حياةَ لها سوى البريق الذي يحدثه النجمُ الكبيرُ، البريق في الصدوع، والجباه، على الصخور، وأسفل جذوع الشجر.
«الصِفِر» جثثٌ أخرى في المعارك، فراغٌ مرعبٌ محروقٌ داخله، بعد أن كان يحبس الدويّ والاشتعال، والموت. الموتُ في الطرف المقابل، موتُ البشر، أو موتُ المعابر سحلاً فوق الصخور، أو بردًا في سماء الله.
الأشجارُ يابسةٌ، البشامُ دون لحاء؛ بسبب جوع الكائنات التي لا تُرى، والغدرانُ نشف أغلبها، وبقي بعضها محتفظًا بفضلة خضراء آسنة، ضاقت بالضفادع، وشراغيفها.
الشِعبُ يفتقد خطى الصيَّاد الذي لا يُصدِر صوتًا إلاَّ نداءً للصيد؛ كي يأتي لسد الجوع، الصيَّاد الذي ينقذ النَّحل الغارق، الذي يتأمَّل العقاب الجاثم فوق القمم ينتظر الطرائد، الصيَّاد الذي يبخِّر الشعب برائحة الحطب، والشواء.
الصخورُ الحادَّةُ اشتاقت للعرق الأصيل، ملوحة العناء والانتظار والترصُّد، العرقُ الرطبُ الذي ينزُّ عبر المسام التي تفتَّحت بفعل التسلُّق الدائم نحو شعف الجبال، ومقابلة النجم مباشرة دون حائل، عرقه الحُرُّ الذي لم تخنقه مدن الإسمنت، وأجهزة التكييف.
تمَّت مصادرةُ السلاحِ والذخيرةِ من البيت والسقيفة، رُحِّلت العجوز والماشية، وحول البيت الذي كان لُفَّ حيًّا شريطٌ يمنع الناس من دخوله.
البيوتُ في شِعب آل فيوم مواتٌ، أصبحت مأوى للدبابير، وقرود البابون، غاب مَن كان يطاردها، ويثوِّر البنادق نحوها، سقوف المنازل بدأت تنهار؛ بسبب النمل الأبيض، هو بيت الحجر الذي ما زال صامدًا في وجه الزمان.
على أطراف الوادي البلاد التي لم تُزرع منذُ أمدٍ، فغزتها أشجار الشوك من سلم وسمر، على الأطراف أشجار السدر التي ما زالت كريمةً تطرح النبق الناضج، فلا يجد سوى النمل، والدود، وطيور الدوري التي تتقافز في الظِلال، تلك التي لم تحفل بإنسان بعد المواجهة الأخيرة.
الفتى النحيلُ الأسمرُ بفعل الشمس، وركوب الجبال، ذو الشعرِ الأسود الأشعث، واللحية التائه، وجدوه مغمى عليه بعد أن نزف، ممدَّدًا فوق الصخور، مستورًا جذعه بمصنّف جنوبي ملوَّن، فحملوه، فانحلّ الإزارُ، فتاهت النَّظرات في المكان، فأخذت تقرض الشجر، والبلاد والقمم «الفاهقة»، والسماء العاجزة عن فعل شيء سوى النظر بزرقة باردة.
كان آخر شيء باشر الأرض بعد الرصاص المسكوب، دم الفتى الذي نزف ذاكرته بكرمٍ جنوبيٍّ مشهودٍ في الوادي، الذاكرة التي تنتظر السيل، علَّه يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبال.
____________
* روائي سعودي