كتاب ومقالات

وزارة العدل والنقرة الإلكترونية

عبدالرحمن اللاحم

أعلنت وزارة العدل من خلال حملة كبيرة؛ إطلاقها ما اسمته (مشروع الربط الإلكتروني بين المحاكم) بحيث يتم تمرير القضايا من خلال (نقرة زر) على جهاز كمبيوتر دون الحاجة إلى النقل اليدوي التقليدي، وقالت الوزارة بأنها ستوفر 30 إلى 45 يوما من العمل البيروقراطي الذي تستغرقه المعاملة في رحلتها ما بين المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، بل إن سعادة وكيل الوزارة لشؤون التقنية صرح في برنامج تلفزيوني بأنه بالفعل تمت التجربة حيث تم إرسال قضية حكم فيها أحد القضاة قبل صلاة الظهر إلى محكمة الاستئناف لتعود كلمح البصر في ذات اليوم في الساعة الثانية ظهرا، في قصة لا يمكن لأي آدمي منحه الله عقلا ودخل محكمة ذات مرة أن يصدقها؛ فكيف يمكن تصور أن يرسل الحكم فور النطق به إلى الاستئناف دون مراعاة لفترة الاعتراض عليه والمقدرة نظاما بثلاثين يوما؟ وكيف يمكن لأصحاب الفضيلة في محكمة الاستئناف أن يقرأوا حكما بأسبابه وحيثياته ووقائعه ومرفقاته وبيناته خلال ساعتين من الزمن مخصوم منها فترة صلاة الظهر والسنة الراتبة؟ وكيف يمكن في هاتين الساعتين المباركتين أن يطبع الحكم ويمرر على ثلاثة قضاة ليراجعوه ويوقعوا عليه؟ هذا كله يؤكد ما تحدثنا عنه سابقا من تخبط وزارة العدل وبحثها عن إنجازات وهمية لا تصل إلى جذر المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الجهاز القضائي سواء من ضعف الرقابة على الموظفين ورداءة الأداء والبطء في إنجاز القضايا وحسمها والذي لن يحله مشروع (النقرة الإلكترونية)، لأن المشكلة ليست فقط في آلية نقل المعاملات بين المحاكم وإنما في إدارة الخصومة القضائية وضعف أداء ومهنية بعض القضاة وعدم إنتاجية الموظف وضعف الرقابة عليه؛ فالوزارة اعترفت بأن انتقال حكم قضائي من المحكمة الابتدائية إلى الاستئناف يستغرق من شهر إلى شهر ونصف، وهذا البطء البيروقراطي هو ناتج عن عدم كفاءة الموظف وضعف إنتاجيته، لأن الحكم عندما يصدر فإن الإجراءات اللاحقة لذلك هي؛ توقيعه من رئيس المحكمة ثم إرساله للصادر في نفس المبنى والذي تتوافر فيه مصاعد حديثة لا يضطر معها الموظف لاستخدام الدرج وبالتالي استهلاك مزيد من الوقت، ثم من الصادر يرسل مع البريد اليومي لمحكمة الاستئناف في ذات المدينة إذا تحدثنا عن مدينة الرياض التي ستطبق فيها تجربة مشروع (النقرة الإلكترونية)، فكيف سمحت الوزارة في السابق بأن تستغرق المعاملة كل هذه المدة الطويلة دون أن تتدخل بمحاسبة ومتابعة الموظفين الذين هم من سيقومون بالنقر الإلكتروني؟ مع العلم أنه قبل إعلان المشروع والاعتراف بهذه المدة المخجلة التي تستغرقها المعاملة القضائية فإن أي حديث من قبل مهتم أو معني بالشأن القضائي عنها فإنه سيقابل من الوزارة بالتهديد والوعيد وأن ذلك تشكيك بالقضاء إلى آخر تلك الردود المتخشبة التي لم تتغير منذ زمن.

هذا المشروع لن يختصر سوى عملية رحلة البريد اليومية التي لا تتجاوز يومين، وأما بقية القصة فستكون كما هي دون تغيير لأن ذات الموظف الذي يعطل المعاملة لمدة 45 يوما سيعطل إدخال الحكم بوثائقه ومرفقاته في النظام الإلكتروني ولن يمنعه مشروع النقرة من الخروج من مكتبه قبل صلاة الظهر أو يغلق بابه لتناول الإفطار، ولن يمنع القاضي من التغيب عن مكتبه أو الاختفاء في مختصره.

مع احترامي للمخلصين في الوزارة، فإن ما يتحدثون عنه مجرد إنجازات وهمية وعناوين براقة تسرق أبصار الناس وتشتت أذهانهم عن الإخفاقات الكبيرة في أداء وزارة العدل لا سيما وأن الجهاز القضائي من الأجهزة المغلقة التي لا يدرك تفاصيلها عامة الناس، فكثير منهم لم يدخل محكمة في حياته وإن دخلها ففي قضية تنحصر رؤيته فيها ولا يتجاوزها لتفاصيل يومية لا يعايشها إلا القضاة وأعوانهم والمحامون فقط، بخلاف بقية أجهزة الدولة، فكل شخص منا سبق أن دخل مرفقا صحيا ودرس في مرفق تعليمي وتعامل مع مؤسسات تجارية، وبالتالي يستطيع أن يكون رؤية واضحة عن وزارة الصحة والتعليم والتجارة لأنه يعايش أنشطتها كل يوم بخلاف أنشطة المؤسسة القضائية، لأنه لا مساس له بنشاطها ويفتخر بأنه لم يدخل محكمة في حياته، لذا ليس أمامه إلا ما تنشره الوزارة المعنية عن أنشطتها سواء كانت حقيقية أو كانت مجرد أحلام وهمية لا وجود لها على الأرض، وكما قيل (تسمع جعجعة ولا ترى طحينا).