أبو دهمان لــ «عكاظ»: كنا نغني حتى ونحن نحمل موتانا إلى المقبرة
قال إن السعودية قصة عظيمة لم تُروَ ولم تُكتب بعد
الثلاثاء / 17 / جمادى الأولى / 1438 هـ الثلاثاء 14 فبراير 2017 02:12
يعدّها: علي مكّي
ali_makki2@
يكفي أن تكتب اسمه على أيّ ورقة فتراها ترقص، تنتشي، وتغني بفرح كأنها حياة طفل.. ويكفي أيضاً أن تلفظ اسمه أمام الناس، نساء ورجالاً، كي تشاهد فتى «الحزام» يشعّ من عيونهم ويطلّ بوقفته الشامخة كالرجل الجنوبي وعصابة رأسه الجبلية التي تجتمع فيها كل عطور النباتات: الوردُ والفلّ والشيح والخضار والكادي فتذيع رائحة الجمال تلف بها كل الرؤوس تأخذهم بعيداً وتصعد بهم عالياً إلى النور المُشتهى.
إنّه أحمد أبو دهمان الكاتب السعودي الفرانكفوني الكبير صاحب الرواية الشهيرة «الحزام» التي أصدرها أولاً باللغة الفرنسية قبل 17 عاماً عن أهم دار نشر فرنسية هي «غاليمار» ثم ترجمها هو أبو دهمان نفسه إلى لغته العربية في حالة خاصة فريدة واستثنائية، لتترجم بعد ذلك إلى ثماني لغات حية وتطبع طبعات عدة عن عدد من دور النشر العربية والعالمية كما طُبعت بثلاثة أشكال (طبعة عادية، وطبعة لضعاف البصر بأحرف كبيرة جداً، وطبعة جيب).
ولضيفنا (أبو نبيلة)، كما يحب أن يُنادى ويُسمى، أيضاً حساب في تويتر مهمته اصطياد الفرح غالباً عبر لحنٍ أو أغنية أو رقصات صبايا أو قصيدة تحلق بسامعيها في سماوات الفتنة والدهشة.
هنا التقته «عكاظ» في جدلها الأسبوعي وشاكسته بأسئلتها الحادة والمدببة، ففاجأنا بإجابات مكتوبة بخط يده؛ لأنه لا يزال حتى هذه اللحظة وفياً للقلم، كما يقول، وبالفعل كان خطّه رقيقاً أنيقاً كالفن، كأنما يحمل أناقة روحه وفنّ إطلالته ورقّة حضوره بين عشرات الآلاف من متابعيه.
هنا أحمد أبو دهمان.. هنا الحزام.. هنا اللغة والغناء والعطر والحياة، فإلى كل ذلك:
•في «تويتر» تظهر صورتك بشارب كثيف ورأس مكشوف، أما في لقاءاتك التلفزيونية فظهورك يأتي دون شارب ورأس مسقوف بالغترة و(العقال).. هل ثمة رسالة (هنا) تريد تمريرها؟ هل هي كناية عن الحرية التي لا حد لها مع الطائر الأزرق؟
•• صورتي في تويتر هي جزء من «الحزام»، فهي التي صاحبت كل الترجمات إلى لغات العالم الرئيسية، وهي صورتي في معظم لقاءاتي الصحفية في الصحف التي غطت صدور الحزام بهذه اللغات، وعرفني القراء بهذه الصورة لذا أحبّها وهي تمثل أغلى مرحلة في حياتي. أما في لقاءاتي التلفزيونية فإني أظهر كما أنا بحزني وفرحي وحرّيتي وسنّي.
لكل شعب طائره الأزرق، ونحن في المملكة «حكومة وشعباً» من أحوج الناس إلى هذه الوسيلة. لا أدري كيف كنّا سننفجر لو لم نجد هذه الوسيلة للتعبير عن اختناقاتنا وصداماتنا وجهلنا.
المعرفة والهامش
•تقول: «لا أخشى على العربية، لكنني أشعر بالقلق على اللغة الفرنسية، فهي محاصرة حتى في الأماكن التي كانت تعد معاقلها القديمة، وهي رغم كل كنوزها الثقافية وتاريخها العظيم، بدأت تفقد قوتها بالتدريج لصالح لغة «بشعة وسوقية» هي اللغة الإنجليزية».. كيف للغة بشعة وسوقية أن تكون لغة العصر والعالم.. لغة المال والأعمال؟ وبعد أكثر من عقد على هذا الكلام ألا تخشى على اللغة العربية من مصير الفرنسية؟
•• يحاولون في ما يسمى (العالم العربي) الدفاع عن اللغة العربية، يستوي في ذلك الحكومات والمؤسسات الأهلية لكن أغلب العاملين عليها يجيدون لغات أخرى ويحبّونها أكثر من لغتهم الأم. الشعوب المستهلكة تفقد لغتها لصالح لغات الشعوب المنتجة. وهذا حال العربية، يكفي أن تذهب إلى أيّ فندق في المملكة لتجد نفسك غريب اللسان.
أما الفرنسية فإن الزمن الذي كان الفرنسي يعتز بلغته قد أخذ في الانحسار؛ لأن الجيل الجديد لم يجد منتجاً موسيقياً وعلمياً وحياتياً يكفيه في لغته الأم فذهب إلى لغات أخرى وعلى رأسها الإنجليزية السُوقية التي لا يتجاوز قاموسها عشرات الكلمات.
• ماذا يعني أن تنشر دار فرنسية مثل «غاليمار» عملاً لأحد كتاب العالم العربي (الحزام لأحمد أبو دهمان)؟ وكيف ترى دور النشر العربية في تعاملها مع المؤلفين؟
•• هي ليست دار نشر فرنسية، هي من أهم دور النشر في فرنسا، إن لم تكن أهمّها. هذه الدار تستقبل 2000 مخطوطة وتختار من كل 2000 عملاً واحداً. وبعد اختياره يخضع لتدقيق صارم من قبل لجنة القراءة، و«الحزام» خضع لهذه الاختبارات.
أما دور النشر العربية فلا تختلف عن أغلب الحكومات العربية أي أنّه لا حقوق للمؤلف في أغلبها، مثلما أنه لا حقوق للإنسان في هذه الغابة. بعض الروايات العربية والعالمية تطبع في دور نشر عربية دون إذن ودون حقوق.
• قمت بكتابة الحزام باللغة الفرنسية، وأنت من قام بترجمتها للعربية.. كيف لمبدع أن يترجم عمله من لغة إلى أخرى؟ صف لنا هذه التجربة النادرة والاستثنائية التي تعاطيت معها؟
•• لم يكن أمامي خيار سوى أن أنقله شخصياً إلى العربية؛ إذ لا أحد أقرب مني إلى أهلي، ووقفتُ أمام النص الفرنسيّ ستة أشهر أقترب منه كل يوم ثم أهرب. كانت فترة مؤلمة؛ لأني بكيتُ كثيراً وأنا أكتب النصّ الفرنسي، فكيف سأكتبهم بلغتهم، وأخيراً قررت. أعدتُ كتابة بعضه وترجمتُ بعضه.
الكتابة بالعربية لم تكن سهلة. أذكر أنني أعدتُ كتابة إحدى الصفحات نحو 30 مرة بقلمي. ما زلتُ وفيّاً للقلم إلاّ في حالات الضرورة القصوى.
• الحزام عملك الأول والأخير.. هل لعملٍ حقق انتشاراً وصدى واسعاً، أن يكون حجر عثرة في طريق صاحبه مستقبلاً؟ وماذا يعني هذا الصمت الصاخب عن كتابة رواية أخرى؟
•• هو عملي الأول وليس الأخير، فبعده شاركتُ بأكثر من إصدار باللغة الفرنسية ولقيت تلك المشاركات ترحيباً كبيراً لا يقلّ عن الحزام. أما عربياً فما زلتُ أشتغل أثناء أوقات فراغي على أكثر من نص. ولستُ رهينة للقارئ بحيث ألتزم بكتابة نص سنوياً ولم ألتزم لغاليمار بهذا الشرط الذي يلتزم به بعضهم.
الكتابة مسؤولية فنية ومعرفية ولن أنشر إلا إذا تأكدتُ من توافر هذين الشرطين.
• يقول تركي الحمد: «في ظني أن مفكرين مثل محمد أركون وفهمي جدعان ومحمد عابد الجابري وسعيد العشماوي وغيرهم، هم أفهم لرسالة الإسلام اليوم من ابن تيمية وابن القيم».. كيف تحتفل أنت بمحمد أركون؟ وهل تراه مفكراً إسلامياً؟
•• محمد أركون أستاذي، وكان في مقام الأب، ولم يتنكّر لابن تيمية أو غيره من رموز الحضارة العربية الإسلامية كما كان يحبّ أن نسميها، ولكنه كان يؤكد على أن نيتشه وفرويد وكارل ماركس هم مفاتيح المعرفة الحديثة وأنّ من لم يقرأهم جيداً سيظلّ على الهامش.
محمد أركون كان تلميذاً لفرناند بروديل مؤسس التاريخ الحديث الذي نقل التاريخ من الثرثرة إلى العلم. وكان أركون يؤمن بأنه لا يمكن لمنهجية واحدة أن تخترق أعماق نصّ معيّن، ولكن لا بدّ من الإلمام بكلّ المنهجيات وتطبيقها على النصوص لكي نصل إلى أعماقها. بالنسبة له لا فاصل بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة.
الرواية والأيديولوجيا
• هل ترى أن تطبيق النظريات الغربية يتماشى مع المشروع الإسلامي الضخم؟
•• هذا السؤال أكبر مني ومن السائل ومما تسميه المشروع الإسلامي الضخم. لنقل إن الحضارة العربية الإسلامية لم تتنكر للحضارات التي سبقتها، بل إنها بهذا التلاقح أثرت الحضارة الإنسانية.نحن اليوم أحوج من الغرب إلى ما في الحضارة الغربية من قيم وعلى رأسها حقوق الإنسان، نحن في حاجة إلى تمثّل مفهوم الدولة (دولة القانون) دولة الفصل بين السلطات، دولة المؤسسات، دولة تخدم الإنسان ولا تستخدمه.
•عندما أعلن عبدالكريم العودة عن أن القاص «صالح الأشقر»، رحمه الله، يرقد في المستشفى التخصصي لتلقي العلاج، علقتَ أنت قائلاً: «لا يجد المبدع مكاناً في التخصصي إلا إذا التفت الساق بالساق». برأيك متى ستنتهي أزمة المثقف بحيث يصبح ذا قيمة في بلده ومجتمعه؟ وما الجهة المخولة لإصلاح هذا الوضع المأساوي للمثقف؟
•• قلتُ المبدع ولم أقل المثقف. ما حدث لصالح الأشقر حدث لعبدالعزيز مشري ومحمد الثبيتي وصالح العزاز وعبدالله باهيثم وغيرهم ويحدث الآن لجارالله الحميد وغيره.
المبدع في بلادنا لا يعني الحكومة ولا يعتني بنفسه؛ ولهذا ينتهي معظمهم إلى جثّة قد نجتمع على دفنها فقط. ثم نستلّ كلمات التأبين والرثاء ليوم أو يومين في انتظار جثة أخرى.
وحده المسؤول المثقّف من سينقذ الثقافة والمثقّفين، وفي انتظار ذلك المسؤول سيظل الحال كما ترى. وهنا لا بدّ من إضافة هذه العبارة «المثقّف الذي لا ينقذ نفسه لا يمكن أن ينقذ الآخرين».
• تداولت بعض الصحف السعودية أمر مشاركتك في مهرجان الجنادرية الأخير، ونشرت صورتك مع صور مفكرين ومثقفين عرب، إلا أنك علقت قائلاً: «ليس لي أي مشاركة في مهرجان الجنادرية». كانت لقطة ساخرة لكن السؤال: أين الخلل هنا؟ في المؤسسات الثقافية؟ أم في مؤسساتنا الإعلامية؟ أم في صحفيينا؟ ما الذي يحدث أبا نبيلة؟
•• دُعيتُ للمشاركة في ندوة «الرواية والأيديولوجيا» وقبلتُ بشروطي، وقبلوا أيضاً، وبدأتُ في إعداد مادّتي. وقلتُ لهم إنني قد أكون في باريس قبل المهرجان وهذه والله حقيقة.
جاء الردّ قاسياً إذ قالوا كُن في أبها وسنرسل لك تذكرة وطلبتُ منهم أن يرسلوا خطاباً بهذا الخصوص ولم يفعلوا فاعتذرت ولكنهم لم يحذفوا اسمي من برنامجهم الذي أرسلوه للصحف. وكنتُ أعرف أن هناك «روائيين» قد يدفعون من جيوبهم للمشاركة وهذا ما حدث.
•حسابك في تويتر، لا يمر وقت إلا وتنشر فيه صوراً، فيديوهات، رقصات، أغنيات، كلها تحتفل بالحياة والفن والأرض والإيقاع والنساء.. هل أنت هنا تبحث عن حياة ضاعت؟ لماذا تغيرنا خاصة في الجنوب؟ وكيف يمكن لنا أن نستعيد الحياة؟
•• لم أكن أسمع في طفولتي إلا أغنية واحدة من إذاعة صنعاء التي صاحبت الثورة «أبو خالد أبو الوحدة وحاميها» لا أعرف من هو أبو خالد، ولا ما هي الوحدة ولا حُماتها. لكننا كنا نغنّي حتى ونحنُ نحملُ موتانا إلى المقبرة. ولهذا فإن حسابي في تويتر يشبه طفولتي وهو مفتوح لكل من يشاطرني الطفولة بكلّ نقائها.
وأنا أؤمن بأن بلادنا أغنية وأن كلّ ما فيها يغنّى، وأن ما حدث من اعتداء وتنكّر لهذه الحقيقة ليس إلا أمراً موقتاً، لأنّه لا أحد يستطيع أن يوقف الحياة. للحياة مجرى وذاكرة ولمن يحاول إيقافها النسيان.
• قلتَ إن العريفي يقود نحو 17 مليون متابِع، لكن القائد لا يتابِع إلا أربعة فقط وهُم، كما عرضت لهم، حسابات تتبع العريفي.. أستاذ أحمد كيف ترى الحسابات الجماهيرية في تويتر؟ وكيف يمكن أن نصف الحالة بين الشيخ والمريد؟
•• العريفي أحد قادة «الصحوة» وأحد ضحاياها. كان بإمكانه أن يكون أحد قادة الرأي الرصين في بلادنا وأستاذاً جامعياً بامتياز. لكنّه أخلص لأوهامه إلى أن اعتقد أنه أمّة لوحده وإلى أن رأى الخلافة قادمة، وأخلص لجماهيريّته وشهرته إلى أن استخدم ألفاظاً لا تليق به، ثم تنكّر للكثير من مقولاته. ومثله معظم الحسابات الجماهيرية سواء الدعوية أو الرياضية أو الفنية في حين لا جماهير لكبار المثقفين والفلاسفة. إنها باختصار حالة مَرَضيّة شبيهة بالواقع.
•«برامج الترفيه ليست من صلب سياسة الحكومة، إنها تشبه البدلات التي ليست في أصل الراتب، ويمكن للحكومة إلغاؤها وقت الحاجة».. هكذا غردت قبل أيام. سؤالي: هل نحن بحاجة لهيئة ترفيه؟ وهل الفنون والرقصات هي نوع من الترفيه أم هي أساسيات حياة؟
•• ولأنّ الأمر هكذا فإن الحكومة تعتقد أن الترفيه جزءٌ من مسؤولياتها. ليكن، ولكن لتترك التنفيذ لمؤسسات المجتمع المدني التي ما تزال غائبة وللقطاع الخاص القادر على إدارة مثل هذه المشاريع المربحة حتماً التي يمكن أن تعفينا من السفر إلى البلدان المجاورة لمشاهدة فيلم أو شراء كتاب أو حضور حفلة موسيقية. على الجميع أن يعوا أن هذه البلاد تستحقّ الحياة.
التشدّد والتطرّف
• وفي رأيك ما الترفيه الذي يحتاجه السعوديون؟ ومَن القادر على استيعاب كل الأشكال وتحديد ملامح هذا الترفيه؟
•• بلادنا قصة عظيمة لم تُروَ ولم تُكتب بعد. والسعوديون أحوج الناس إلى معرفة تاريخهم وفنونهم، إلى معرفة هذا الثراء واكتشافه، إلى اكتشاف هذا التنوّع الهائل في ألوان الفنون والعرضات والرقصات والأزياء واللهجات وغيرها.
لكن هذا لن يتم إلا على يدي فريق يعرف هذه البلاد ويحبّها ويؤمن بأنّ من الممكن أن نرتقي بها إلى مصاف الدول المتقدّمة. إنها مسألة إرادة سياسية واعية فقط.
• تنتقدون التشدد والتعصب، ألا تعتقد أن التعصب هو داء لم يسلم منه أحد حتى المثقفون أنفسهم والليبراليون متعصبون جداً ومتشددون في آرائهم تجاه المتشددين دينياً؟ فكيف تفعلون ما تنتقدونه؟ ألا توجد أرضية مشتركة؟
•• في غياب القانون والمؤسسات والتعددية لا مفرّ من التشدّد، لا مفرّ من التطرّف.
• في الحرم المكي في شهر رمضان الماضي تم الدعاء «اللهم أصلح وسائل الإعلام والتعليم في بلدان المسلمين».. هل فعلاً وسائل الإعلام بحاجة إلى إصلاح؟وكمهتم بالشأن العام ما الإصلاح الذي يجب أن ينفذ في الإعلام والتعليم أيضاً؟ ومَن الذي ينفذه؟
•• إنه كمن يدعو لأموات المسلمين بالمغفرة. في عالم اليوم هناك أكثر من إسلام والإسلام الذي في ذهن الخطيب ليس هو إسلام الواقع. الكثير مما نسميه الدول الإسلامية لا تعرف لماذا أنشأت وزارة للتعليم أو الإعلام أو الصحة. رأت هذه الوزارات في البلدان المستعمرة فنقلتها دون أن تعي لماذا. وعليه فإنّ علينا إعادة النظر في كل شيء، في كلّ شيء.
•هناك قوانين أو نظام لحماية الملكية الفكرية.. ما تقييمك لهذا النظام؟ وهل تراه فاعلاً في السعودية؟
•• هناك قطاع في وزارة الثقافة والإعلام وقد اطّلعتُ على هذا النظام وهو من أفضل الأنظمة فعلاً ولا ينقصه إلا التفعيل. إن حماية الملكية الفكرية لا تنفصل عن حماية حقوق الإنسان عن حقوق المؤلف وعن حقوق القارئ والمستهلك. في انتظار الانتقال من النظرية إلى التطبيق.
يكفي أن تكتب اسمه على أيّ ورقة فتراها ترقص، تنتشي، وتغني بفرح كأنها حياة طفل.. ويكفي أيضاً أن تلفظ اسمه أمام الناس، نساء ورجالاً، كي تشاهد فتى «الحزام» يشعّ من عيونهم ويطلّ بوقفته الشامخة كالرجل الجنوبي وعصابة رأسه الجبلية التي تجتمع فيها كل عطور النباتات: الوردُ والفلّ والشيح والخضار والكادي فتذيع رائحة الجمال تلف بها كل الرؤوس تأخذهم بعيداً وتصعد بهم عالياً إلى النور المُشتهى.
إنّه أحمد أبو دهمان الكاتب السعودي الفرانكفوني الكبير صاحب الرواية الشهيرة «الحزام» التي أصدرها أولاً باللغة الفرنسية قبل 17 عاماً عن أهم دار نشر فرنسية هي «غاليمار» ثم ترجمها هو أبو دهمان نفسه إلى لغته العربية في حالة خاصة فريدة واستثنائية، لتترجم بعد ذلك إلى ثماني لغات حية وتطبع طبعات عدة عن عدد من دور النشر العربية والعالمية كما طُبعت بثلاثة أشكال (طبعة عادية، وطبعة لضعاف البصر بأحرف كبيرة جداً، وطبعة جيب).
ولضيفنا (أبو نبيلة)، كما يحب أن يُنادى ويُسمى، أيضاً حساب في تويتر مهمته اصطياد الفرح غالباً عبر لحنٍ أو أغنية أو رقصات صبايا أو قصيدة تحلق بسامعيها في سماوات الفتنة والدهشة.
هنا التقته «عكاظ» في جدلها الأسبوعي وشاكسته بأسئلتها الحادة والمدببة، ففاجأنا بإجابات مكتوبة بخط يده؛ لأنه لا يزال حتى هذه اللحظة وفياً للقلم، كما يقول، وبالفعل كان خطّه رقيقاً أنيقاً كالفن، كأنما يحمل أناقة روحه وفنّ إطلالته ورقّة حضوره بين عشرات الآلاف من متابعيه.
هنا أحمد أبو دهمان.. هنا الحزام.. هنا اللغة والغناء والعطر والحياة، فإلى كل ذلك:
•في «تويتر» تظهر صورتك بشارب كثيف ورأس مكشوف، أما في لقاءاتك التلفزيونية فظهورك يأتي دون شارب ورأس مسقوف بالغترة و(العقال).. هل ثمة رسالة (هنا) تريد تمريرها؟ هل هي كناية عن الحرية التي لا حد لها مع الطائر الأزرق؟
•• صورتي في تويتر هي جزء من «الحزام»، فهي التي صاحبت كل الترجمات إلى لغات العالم الرئيسية، وهي صورتي في معظم لقاءاتي الصحفية في الصحف التي غطت صدور الحزام بهذه اللغات، وعرفني القراء بهذه الصورة لذا أحبّها وهي تمثل أغلى مرحلة في حياتي. أما في لقاءاتي التلفزيونية فإني أظهر كما أنا بحزني وفرحي وحرّيتي وسنّي.
لكل شعب طائره الأزرق، ونحن في المملكة «حكومة وشعباً» من أحوج الناس إلى هذه الوسيلة. لا أدري كيف كنّا سننفجر لو لم نجد هذه الوسيلة للتعبير عن اختناقاتنا وصداماتنا وجهلنا.
المعرفة والهامش
•تقول: «لا أخشى على العربية، لكنني أشعر بالقلق على اللغة الفرنسية، فهي محاصرة حتى في الأماكن التي كانت تعد معاقلها القديمة، وهي رغم كل كنوزها الثقافية وتاريخها العظيم، بدأت تفقد قوتها بالتدريج لصالح لغة «بشعة وسوقية» هي اللغة الإنجليزية».. كيف للغة بشعة وسوقية أن تكون لغة العصر والعالم.. لغة المال والأعمال؟ وبعد أكثر من عقد على هذا الكلام ألا تخشى على اللغة العربية من مصير الفرنسية؟
•• يحاولون في ما يسمى (العالم العربي) الدفاع عن اللغة العربية، يستوي في ذلك الحكومات والمؤسسات الأهلية لكن أغلب العاملين عليها يجيدون لغات أخرى ويحبّونها أكثر من لغتهم الأم. الشعوب المستهلكة تفقد لغتها لصالح لغات الشعوب المنتجة. وهذا حال العربية، يكفي أن تذهب إلى أيّ فندق في المملكة لتجد نفسك غريب اللسان.
أما الفرنسية فإن الزمن الذي كان الفرنسي يعتز بلغته قد أخذ في الانحسار؛ لأن الجيل الجديد لم يجد منتجاً موسيقياً وعلمياً وحياتياً يكفيه في لغته الأم فذهب إلى لغات أخرى وعلى رأسها الإنجليزية السُوقية التي لا يتجاوز قاموسها عشرات الكلمات.
• ماذا يعني أن تنشر دار فرنسية مثل «غاليمار» عملاً لأحد كتاب العالم العربي (الحزام لأحمد أبو دهمان)؟ وكيف ترى دور النشر العربية في تعاملها مع المؤلفين؟
•• هي ليست دار نشر فرنسية، هي من أهم دور النشر في فرنسا، إن لم تكن أهمّها. هذه الدار تستقبل 2000 مخطوطة وتختار من كل 2000 عملاً واحداً. وبعد اختياره يخضع لتدقيق صارم من قبل لجنة القراءة، و«الحزام» خضع لهذه الاختبارات.
أما دور النشر العربية فلا تختلف عن أغلب الحكومات العربية أي أنّه لا حقوق للمؤلف في أغلبها، مثلما أنه لا حقوق للإنسان في هذه الغابة. بعض الروايات العربية والعالمية تطبع في دور نشر عربية دون إذن ودون حقوق.
• قمت بكتابة الحزام باللغة الفرنسية، وأنت من قام بترجمتها للعربية.. كيف لمبدع أن يترجم عمله من لغة إلى أخرى؟ صف لنا هذه التجربة النادرة والاستثنائية التي تعاطيت معها؟
•• لم يكن أمامي خيار سوى أن أنقله شخصياً إلى العربية؛ إذ لا أحد أقرب مني إلى أهلي، ووقفتُ أمام النص الفرنسيّ ستة أشهر أقترب منه كل يوم ثم أهرب. كانت فترة مؤلمة؛ لأني بكيتُ كثيراً وأنا أكتب النصّ الفرنسي، فكيف سأكتبهم بلغتهم، وأخيراً قررت. أعدتُ كتابة بعضه وترجمتُ بعضه.
الكتابة بالعربية لم تكن سهلة. أذكر أنني أعدتُ كتابة إحدى الصفحات نحو 30 مرة بقلمي. ما زلتُ وفيّاً للقلم إلاّ في حالات الضرورة القصوى.
• الحزام عملك الأول والأخير.. هل لعملٍ حقق انتشاراً وصدى واسعاً، أن يكون حجر عثرة في طريق صاحبه مستقبلاً؟ وماذا يعني هذا الصمت الصاخب عن كتابة رواية أخرى؟
•• هو عملي الأول وليس الأخير، فبعده شاركتُ بأكثر من إصدار باللغة الفرنسية ولقيت تلك المشاركات ترحيباً كبيراً لا يقلّ عن الحزام. أما عربياً فما زلتُ أشتغل أثناء أوقات فراغي على أكثر من نص. ولستُ رهينة للقارئ بحيث ألتزم بكتابة نص سنوياً ولم ألتزم لغاليمار بهذا الشرط الذي يلتزم به بعضهم.
الكتابة مسؤولية فنية ومعرفية ولن أنشر إلا إذا تأكدتُ من توافر هذين الشرطين.
• يقول تركي الحمد: «في ظني أن مفكرين مثل محمد أركون وفهمي جدعان ومحمد عابد الجابري وسعيد العشماوي وغيرهم، هم أفهم لرسالة الإسلام اليوم من ابن تيمية وابن القيم».. كيف تحتفل أنت بمحمد أركون؟ وهل تراه مفكراً إسلامياً؟
•• محمد أركون أستاذي، وكان في مقام الأب، ولم يتنكّر لابن تيمية أو غيره من رموز الحضارة العربية الإسلامية كما كان يحبّ أن نسميها، ولكنه كان يؤكد على أن نيتشه وفرويد وكارل ماركس هم مفاتيح المعرفة الحديثة وأنّ من لم يقرأهم جيداً سيظلّ على الهامش.
محمد أركون كان تلميذاً لفرناند بروديل مؤسس التاريخ الحديث الذي نقل التاريخ من الثرثرة إلى العلم. وكان أركون يؤمن بأنه لا يمكن لمنهجية واحدة أن تخترق أعماق نصّ معيّن، ولكن لا بدّ من الإلمام بكلّ المنهجيات وتطبيقها على النصوص لكي نصل إلى أعماقها. بالنسبة له لا فاصل بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة.
الرواية والأيديولوجيا
• هل ترى أن تطبيق النظريات الغربية يتماشى مع المشروع الإسلامي الضخم؟
•• هذا السؤال أكبر مني ومن السائل ومما تسميه المشروع الإسلامي الضخم. لنقل إن الحضارة العربية الإسلامية لم تتنكر للحضارات التي سبقتها، بل إنها بهذا التلاقح أثرت الحضارة الإنسانية.نحن اليوم أحوج من الغرب إلى ما في الحضارة الغربية من قيم وعلى رأسها حقوق الإنسان، نحن في حاجة إلى تمثّل مفهوم الدولة (دولة القانون) دولة الفصل بين السلطات، دولة المؤسسات، دولة تخدم الإنسان ولا تستخدمه.
•عندما أعلن عبدالكريم العودة عن أن القاص «صالح الأشقر»، رحمه الله، يرقد في المستشفى التخصصي لتلقي العلاج، علقتَ أنت قائلاً: «لا يجد المبدع مكاناً في التخصصي إلا إذا التفت الساق بالساق». برأيك متى ستنتهي أزمة المثقف بحيث يصبح ذا قيمة في بلده ومجتمعه؟ وما الجهة المخولة لإصلاح هذا الوضع المأساوي للمثقف؟
•• قلتُ المبدع ولم أقل المثقف. ما حدث لصالح الأشقر حدث لعبدالعزيز مشري ومحمد الثبيتي وصالح العزاز وعبدالله باهيثم وغيرهم ويحدث الآن لجارالله الحميد وغيره.
المبدع في بلادنا لا يعني الحكومة ولا يعتني بنفسه؛ ولهذا ينتهي معظمهم إلى جثّة قد نجتمع على دفنها فقط. ثم نستلّ كلمات التأبين والرثاء ليوم أو يومين في انتظار جثة أخرى.
وحده المسؤول المثقّف من سينقذ الثقافة والمثقّفين، وفي انتظار ذلك المسؤول سيظل الحال كما ترى. وهنا لا بدّ من إضافة هذه العبارة «المثقّف الذي لا ينقذ نفسه لا يمكن أن ينقذ الآخرين».
• تداولت بعض الصحف السعودية أمر مشاركتك في مهرجان الجنادرية الأخير، ونشرت صورتك مع صور مفكرين ومثقفين عرب، إلا أنك علقت قائلاً: «ليس لي أي مشاركة في مهرجان الجنادرية». كانت لقطة ساخرة لكن السؤال: أين الخلل هنا؟ في المؤسسات الثقافية؟ أم في مؤسساتنا الإعلامية؟ أم في صحفيينا؟ ما الذي يحدث أبا نبيلة؟
•• دُعيتُ للمشاركة في ندوة «الرواية والأيديولوجيا» وقبلتُ بشروطي، وقبلوا أيضاً، وبدأتُ في إعداد مادّتي. وقلتُ لهم إنني قد أكون في باريس قبل المهرجان وهذه والله حقيقة.
جاء الردّ قاسياً إذ قالوا كُن في أبها وسنرسل لك تذكرة وطلبتُ منهم أن يرسلوا خطاباً بهذا الخصوص ولم يفعلوا فاعتذرت ولكنهم لم يحذفوا اسمي من برنامجهم الذي أرسلوه للصحف. وكنتُ أعرف أن هناك «روائيين» قد يدفعون من جيوبهم للمشاركة وهذا ما حدث.
•حسابك في تويتر، لا يمر وقت إلا وتنشر فيه صوراً، فيديوهات، رقصات، أغنيات، كلها تحتفل بالحياة والفن والأرض والإيقاع والنساء.. هل أنت هنا تبحث عن حياة ضاعت؟ لماذا تغيرنا خاصة في الجنوب؟ وكيف يمكن لنا أن نستعيد الحياة؟
•• لم أكن أسمع في طفولتي إلا أغنية واحدة من إذاعة صنعاء التي صاحبت الثورة «أبو خالد أبو الوحدة وحاميها» لا أعرف من هو أبو خالد، ولا ما هي الوحدة ولا حُماتها. لكننا كنا نغنّي حتى ونحنُ نحملُ موتانا إلى المقبرة. ولهذا فإن حسابي في تويتر يشبه طفولتي وهو مفتوح لكل من يشاطرني الطفولة بكلّ نقائها.
وأنا أؤمن بأن بلادنا أغنية وأن كلّ ما فيها يغنّى، وأن ما حدث من اعتداء وتنكّر لهذه الحقيقة ليس إلا أمراً موقتاً، لأنّه لا أحد يستطيع أن يوقف الحياة. للحياة مجرى وذاكرة ولمن يحاول إيقافها النسيان.
• قلتَ إن العريفي يقود نحو 17 مليون متابِع، لكن القائد لا يتابِع إلا أربعة فقط وهُم، كما عرضت لهم، حسابات تتبع العريفي.. أستاذ أحمد كيف ترى الحسابات الجماهيرية في تويتر؟ وكيف يمكن أن نصف الحالة بين الشيخ والمريد؟
•• العريفي أحد قادة «الصحوة» وأحد ضحاياها. كان بإمكانه أن يكون أحد قادة الرأي الرصين في بلادنا وأستاذاً جامعياً بامتياز. لكنّه أخلص لأوهامه إلى أن اعتقد أنه أمّة لوحده وإلى أن رأى الخلافة قادمة، وأخلص لجماهيريّته وشهرته إلى أن استخدم ألفاظاً لا تليق به، ثم تنكّر للكثير من مقولاته. ومثله معظم الحسابات الجماهيرية سواء الدعوية أو الرياضية أو الفنية في حين لا جماهير لكبار المثقفين والفلاسفة. إنها باختصار حالة مَرَضيّة شبيهة بالواقع.
•«برامج الترفيه ليست من صلب سياسة الحكومة، إنها تشبه البدلات التي ليست في أصل الراتب، ويمكن للحكومة إلغاؤها وقت الحاجة».. هكذا غردت قبل أيام. سؤالي: هل نحن بحاجة لهيئة ترفيه؟ وهل الفنون والرقصات هي نوع من الترفيه أم هي أساسيات حياة؟
•• ولأنّ الأمر هكذا فإن الحكومة تعتقد أن الترفيه جزءٌ من مسؤولياتها. ليكن، ولكن لتترك التنفيذ لمؤسسات المجتمع المدني التي ما تزال غائبة وللقطاع الخاص القادر على إدارة مثل هذه المشاريع المربحة حتماً التي يمكن أن تعفينا من السفر إلى البلدان المجاورة لمشاهدة فيلم أو شراء كتاب أو حضور حفلة موسيقية. على الجميع أن يعوا أن هذه البلاد تستحقّ الحياة.
التشدّد والتطرّف
• وفي رأيك ما الترفيه الذي يحتاجه السعوديون؟ ومَن القادر على استيعاب كل الأشكال وتحديد ملامح هذا الترفيه؟
•• بلادنا قصة عظيمة لم تُروَ ولم تُكتب بعد. والسعوديون أحوج الناس إلى معرفة تاريخهم وفنونهم، إلى معرفة هذا الثراء واكتشافه، إلى اكتشاف هذا التنوّع الهائل في ألوان الفنون والعرضات والرقصات والأزياء واللهجات وغيرها.
لكن هذا لن يتم إلا على يدي فريق يعرف هذه البلاد ويحبّها ويؤمن بأنّ من الممكن أن نرتقي بها إلى مصاف الدول المتقدّمة. إنها مسألة إرادة سياسية واعية فقط.
• تنتقدون التشدد والتعصب، ألا تعتقد أن التعصب هو داء لم يسلم منه أحد حتى المثقفون أنفسهم والليبراليون متعصبون جداً ومتشددون في آرائهم تجاه المتشددين دينياً؟ فكيف تفعلون ما تنتقدونه؟ ألا توجد أرضية مشتركة؟
•• في غياب القانون والمؤسسات والتعددية لا مفرّ من التشدّد، لا مفرّ من التطرّف.
• في الحرم المكي في شهر رمضان الماضي تم الدعاء «اللهم أصلح وسائل الإعلام والتعليم في بلدان المسلمين».. هل فعلاً وسائل الإعلام بحاجة إلى إصلاح؟وكمهتم بالشأن العام ما الإصلاح الذي يجب أن ينفذ في الإعلام والتعليم أيضاً؟ ومَن الذي ينفذه؟
•• إنه كمن يدعو لأموات المسلمين بالمغفرة. في عالم اليوم هناك أكثر من إسلام والإسلام الذي في ذهن الخطيب ليس هو إسلام الواقع. الكثير مما نسميه الدول الإسلامية لا تعرف لماذا أنشأت وزارة للتعليم أو الإعلام أو الصحة. رأت هذه الوزارات في البلدان المستعمرة فنقلتها دون أن تعي لماذا. وعليه فإنّ علينا إعادة النظر في كل شيء، في كلّ شيء.
•هناك قوانين أو نظام لحماية الملكية الفكرية.. ما تقييمك لهذا النظام؟ وهل تراه فاعلاً في السعودية؟
•• هناك قطاع في وزارة الثقافة والإعلام وقد اطّلعتُ على هذا النظام وهو من أفضل الأنظمة فعلاً ولا ينقصه إلا التفعيل. إن حماية الملكية الفكرية لا تنفصل عن حماية حقوق الإنسان عن حقوق المؤلف وعن حقوق القارئ والمستهلك. في انتظار الانتقال من النظرية إلى التطبيق.