فن اختراع التقاليد وصناعة الطقوس الاجتماعية
السبت / 28 / جمادى الأولى / 1438 هـ السبت 25 فبراير 2017 01:14
عبدالله الرشيد
قد تبدو كلمة «اختراع التقاليد» غريبة بعض الشيء، فالاختراع يعني استحداث شيء جديد، في حين أن كلمة التقاليد تعبر بشكل كبير عن الجذور التاريخية، والأصالة الزمنية لظاهرة ما، أو ممارسة اجتماعية معينة. وهذه الأصالة تصبغ على التقليد أو الطقس الاجتماعي سطوة وقيمة تمنحاه البقاء والقوة في مواجهة التغيرات الحديثة، بصفته معبرا على الأجيال السابقة، وصمام أمان يحفظ روح الهوية الاجتماعية ونقاءها.
لكن المفارقة هناك أن أطروحة تاريخية علمية حاولت أن تقدم نظرة جديدة في التعامل مع البنية التاريخية للتقاليد، باعتبارها أمراً وضعياً، أي أن جزءا كبيرا منها يفترض الناس أنه يعود إلى زمن سحيق، في حين أن الحقيقة والدراسة التاريخية تثبت أن أصول هذه التقاليد تعود نشأتها إلى زمن قريب لأسباب وظروف عارضة تماماً أو مصنوعة صنعاً عبر أشخاص أو مؤسسات، ثم تؤسس بذلك الأساطير والأفكار المسبقة والأوهام الأيديولوجية التي تحقق لمصالح مادية أو سياسية. وهكذا يصير الأمر كله تقليدا تتبناه الجماعة وتعيشه ليصبح عنصراً جوهريا في هويتها، وشخصيتها التي تعي نفسها من خلالها، بصرف النظر عن كل ما في هذا التقليد من اصطناع واختراع قد لا يكون له أصل أو ارتباط بروح وتراث الأمة والجماعة.
يقدم الباحثان إيريك هوبزباوم وتيرينس رينجر نماذج على هذه النظرية في كتاب صادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بعنوان (اختراع التقاليد.. دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها). من ذلك حين يحتفل الاسكتلنديون معاً بهويتهم القديمة، فإنهم يحتفلون بطرائق تقليدية متجذرة، فالرجال يرتدون ما يسمى: الكلتية -ملابس تقليدية للرجال في المناطق المرتفعة باسكتلندا- وهي تَنُّورة تصل إلى الركبة، بكسرات من الخلف فقط دون الأمام، وكل جماعة لهم نوع خاص من القماش، ويرافق احتفالهم عزف للمزامير ذات القرب، يحيون من خلال هذه الرموز طقوسهم القديمة، تلك الطقوس التي تعود أصولها إلى زمن سحيق!
لكن الحقيقة ليست كذلك، وأصول هذه الطقوس ليست بهذا القدم كما يتوقع، فهذه الرموز ومعها الرموز الأخرى للاسكتلنديين هي إبداعات حديثة تماماً، إذ يبدو أن صانعاً إنجليزياً من مدينة لانكاشاير اخترع الكلتية القصيرة في بدايات القرن الثامن عشر، حيث كانت فكرته محاولة إيجاد لباس ملائم للعمال قاطني الهضاب الاسكتلندية.
لقد كان هذا الزي الذي يمثل القومية الاسكتلندية الآن نتاجاً للثورة الصناعية، فلم يكن الغرض منه الحفاظ على الأعراف المتوارثة عبر الزمن، بقدر ما كنت الفكرة اجتذاب قاطني الهضاب من المزارع إلى المصانع، في حين كان الغالبية الساحقة من سكان اسكتلندا الذين يسكنون في الأراضي المنخفضة ينظرون بشيء من الاحتقار إلى لباس سكان الهضاب، الذي يمثل الآن الزي القومي الاسكتلندي.
من جانب آخر، فإن الأداة الموسيقية المعروفة بـ(القرب) التي يشتهر بها أهل اسكتلندا، ويعتبرونها من التراث الكلاسيكي المعبر عن روح القومية الأسكتلندية، هي في الحقيقة تعتبر أداة حديثة إلى حد كبير، حيث اخترعت بعد الوحدة مع إنجلترا بوقت طويل، وكانت بمثابة احتجاج سياسي ضد انجلترا.
يشير المؤرخان إلى مفارقة عجيبة وهي أن هذه (القرب الموسيقية) في أوائل ظهورها لم يكن ينظر إليها باحترام أو تقدير بين الأسكتلنديين، بل كان ينظر لها من الغالبية العظمى باعتبارها رمزا للمتشردين والكسالى واللصوص والمبتزين من سكان إقليم المرتفعات، الذين كانوا مصدر إزعاج وأذى لسكان أسكتلندا المتحضرة القديمة، ولكن تمضي الأيام، ويصبح هذ الرمز المنبوذ المحتقر نموذجا للأصالة، وتجسيدا القومية والهوية التاريخية.
يعلق عالم الاجتماع الإنجليزي أنطوني جدينز حول هذه الفكرة فيقول: «إن من الخرافة الاعتقاد بأن التقاليد محصنة ضد التغيير، فالتقاليد تتطور عبر الزمن، بل يمكن أن تتبدل أو تتحول فجأة بشكل تام، ولعلي أستطيع القول إنها تُخترع، ويعاد اختراعها... فخطاب عيد الميلاد الذي تلقيه الملكة، ويذاع كل عام في بريطانيا أصبح تقليداً، على الرغم من أن هذا التقليد بدأ في سنة 1932».
إن ما تتميز به التقاليد ليس عمقها، وتجذرها عبر الزمن فحسب، وإنما أنها تخلق مناخاً للفعل يمكن أن يستمر من دون تفنيد، يستمر في إطار يحجم العقل، ويقمع أي أسئلة تريد أن تشكك في هذا التقليد، أو تتساءل حول جدواه، وحقيقته، فغالباً يكون للتقاليد حراسها، هؤلاء الحراس ليسوا بالضرورة الحكماء والعلماء، وإنما هم الذين حالفتهم الظروف ليمتلكوا «القدرة على تأويل الحقيقة الطقسية للتقليد»، كما يصف ذلك جدينز.
فهم وحدهم الذين يمكنهم فهم الرموز الخفية المتضمنة في الطقوس الجمعية، إلى درجة تشكل هذه التقاليد عند ممارسها نوعاً من أنواع الحقيقة، هو يرتكبها بشكل تلقائي متكرر، من دون أن يسأل نفسه عن البدائل، حتى لو كانت هذه التقاليد بحد ذاتها تمثل له مشكلة، أو عائقاً، أو مصدراً للإرهاق.
يؤكد الباحث البريطاني هوبزباوم في كتابه (اختراع التقاليد) أن كثيرا من تقاليد الأمم المعاصرة هي في الواقع اختراعات حديثة، بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وامتدت إلى فترة الحرب العالمية الأولى. «فالأمم الحديثة احتاجت على نطاق واسع إلى صنع تقاليد، أي إلى أنظمة وطقوس وشعائر عامة، ويبدو أن الأمر وثيق الصلة بانفصال هذه الأمم عن تواريخها القديمة، وبموجات الحداثة المتلاحقة.. إن هناك احتمالاً بأن عملية اختراع التقاليد قد حدثت في كل مكان وزمان، ولم تخل حقبة زمنية أو حيز مكاني منها، لكن علينا أن نتوقع حدوث غرس للتقاليد بشكل أكثر كثافة وتكراراً عندما تؤدي سرعة التحول المجتمعي إلى إضعاف أو تدمير الأنماط الاجتماعية التي قامت من أجلها التقاليد القديمة، أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة لا تنطبق عليها التقاليد القديمة، أو أن تصبح تلك التقاليد ومؤسسوها ومروجوها غير قادرين على إبداء المرونة والتكيف، أو أن يتم القضاء على التقاليد القديمة بأي سبب آخر».
*باحث وكاتب سعودي
لكن المفارقة هناك أن أطروحة تاريخية علمية حاولت أن تقدم نظرة جديدة في التعامل مع البنية التاريخية للتقاليد، باعتبارها أمراً وضعياً، أي أن جزءا كبيرا منها يفترض الناس أنه يعود إلى زمن سحيق، في حين أن الحقيقة والدراسة التاريخية تثبت أن أصول هذه التقاليد تعود نشأتها إلى زمن قريب لأسباب وظروف عارضة تماماً أو مصنوعة صنعاً عبر أشخاص أو مؤسسات، ثم تؤسس بذلك الأساطير والأفكار المسبقة والأوهام الأيديولوجية التي تحقق لمصالح مادية أو سياسية. وهكذا يصير الأمر كله تقليدا تتبناه الجماعة وتعيشه ليصبح عنصراً جوهريا في هويتها، وشخصيتها التي تعي نفسها من خلالها، بصرف النظر عن كل ما في هذا التقليد من اصطناع واختراع قد لا يكون له أصل أو ارتباط بروح وتراث الأمة والجماعة.
يقدم الباحثان إيريك هوبزباوم وتيرينس رينجر نماذج على هذه النظرية في كتاب صادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بعنوان (اختراع التقاليد.. دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها). من ذلك حين يحتفل الاسكتلنديون معاً بهويتهم القديمة، فإنهم يحتفلون بطرائق تقليدية متجذرة، فالرجال يرتدون ما يسمى: الكلتية -ملابس تقليدية للرجال في المناطق المرتفعة باسكتلندا- وهي تَنُّورة تصل إلى الركبة، بكسرات من الخلف فقط دون الأمام، وكل جماعة لهم نوع خاص من القماش، ويرافق احتفالهم عزف للمزامير ذات القرب، يحيون من خلال هذه الرموز طقوسهم القديمة، تلك الطقوس التي تعود أصولها إلى زمن سحيق!
لكن الحقيقة ليست كذلك، وأصول هذه الطقوس ليست بهذا القدم كما يتوقع، فهذه الرموز ومعها الرموز الأخرى للاسكتلنديين هي إبداعات حديثة تماماً، إذ يبدو أن صانعاً إنجليزياً من مدينة لانكاشاير اخترع الكلتية القصيرة في بدايات القرن الثامن عشر، حيث كانت فكرته محاولة إيجاد لباس ملائم للعمال قاطني الهضاب الاسكتلندية.
لقد كان هذا الزي الذي يمثل القومية الاسكتلندية الآن نتاجاً للثورة الصناعية، فلم يكن الغرض منه الحفاظ على الأعراف المتوارثة عبر الزمن، بقدر ما كنت الفكرة اجتذاب قاطني الهضاب من المزارع إلى المصانع، في حين كان الغالبية الساحقة من سكان اسكتلندا الذين يسكنون في الأراضي المنخفضة ينظرون بشيء من الاحتقار إلى لباس سكان الهضاب، الذي يمثل الآن الزي القومي الاسكتلندي.
من جانب آخر، فإن الأداة الموسيقية المعروفة بـ(القرب) التي يشتهر بها أهل اسكتلندا، ويعتبرونها من التراث الكلاسيكي المعبر عن روح القومية الأسكتلندية، هي في الحقيقة تعتبر أداة حديثة إلى حد كبير، حيث اخترعت بعد الوحدة مع إنجلترا بوقت طويل، وكانت بمثابة احتجاج سياسي ضد انجلترا.
يشير المؤرخان إلى مفارقة عجيبة وهي أن هذه (القرب الموسيقية) في أوائل ظهورها لم يكن ينظر إليها باحترام أو تقدير بين الأسكتلنديين، بل كان ينظر لها من الغالبية العظمى باعتبارها رمزا للمتشردين والكسالى واللصوص والمبتزين من سكان إقليم المرتفعات، الذين كانوا مصدر إزعاج وأذى لسكان أسكتلندا المتحضرة القديمة، ولكن تمضي الأيام، ويصبح هذ الرمز المنبوذ المحتقر نموذجا للأصالة، وتجسيدا القومية والهوية التاريخية.
يعلق عالم الاجتماع الإنجليزي أنطوني جدينز حول هذه الفكرة فيقول: «إن من الخرافة الاعتقاد بأن التقاليد محصنة ضد التغيير، فالتقاليد تتطور عبر الزمن، بل يمكن أن تتبدل أو تتحول فجأة بشكل تام، ولعلي أستطيع القول إنها تُخترع، ويعاد اختراعها... فخطاب عيد الميلاد الذي تلقيه الملكة، ويذاع كل عام في بريطانيا أصبح تقليداً، على الرغم من أن هذا التقليد بدأ في سنة 1932».
إن ما تتميز به التقاليد ليس عمقها، وتجذرها عبر الزمن فحسب، وإنما أنها تخلق مناخاً للفعل يمكن أن يستمر من دون تفنيد، يستمر في إطار يحجم العقل، ويقمع أي أسئلة تريد أن تشكك في هذا التقليد، أو تتساءل حول جدواه، وحقيقته، فغالباً يكون للتقاليد حراسها، هؤلاء الحراس ليسوا بالضرورة الحكماء والعلماء، وإنما هم الذين حالفتهم الظروف ليمتلكوا «القدرة على تأويل الحقيقة الطقسية للتقليد»، كما يصف ذلك جدينز.
فهم وحدهم الذين يمكنهم فهم الرموز الخفية المتضمنة في الطقوس الجمعية، إلى درجة تشكل هذه التقاليد عند ممارسها نوعاً من أنواع الحقيقة، هو يرتكبها بشكل تلقائي متكرر، من دون أن يسأل نفسه عن البدائل، حتى لو كانت هذه التقاليد بحد ذاتها تمثل له مشكلة، أو عائقاً، أو مصدراً للإرهاق.
يؤكد الباحث البريطاني هوبزباوم في كتابه (اختراع التقاليد) أن كثيرا من تقاليد الأمم المعاصرة هي في الواقع اختراعات حديثة، بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وامتدت إلى فترة الحرب العالمية الأولى. «فالأمم الحديثة احتاجت على نطاق واسع إلى صنع تقاليد، أي إلى أنظمة وطقوس وشعائر عامة، ويبدو أن الأمر وثيق الصلة بانفصال هذه الأمم عن تواريخها القديمة، وبموجات الحداثة المتلاحقة.. إن هناك احتمالاً بأن عملية اختراع التقاليد قد حدثت في كل مكان وزمان، ولم تخل حقبة زمنية أو حيز مكاني منها، لكن علينا أن نتوقع حدوث غرس للتقاليد بشكل أكثر كثافة وتكراراً عندما تؤدي سرعة التحول المجتمعي إلى إضعاف أو تدمير الأنماط الاجتماعية التي قامت من أجلها التقاليد القديمة، أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة لا تنطبق عليها التقاليد القديمة، أو أن تصبح تلك التقاليد ومؤسسوها ومروجوها غير قادرين على إبداء المرونة والتكيف، أو أن يتم القضاء على التقاليد القديمة بأي سبب آخر».
*باحث وكاتب سعودي