الحاكمية وإشكالياتها في الثقافة الدينية
السبت / 12 / جمادى الآخرة / 1438 هـ السبت 11 مارس 2017 02:31
محمد حسين الدوسري *
من لم يكن واعيا بكل أحاسيسه وحاضرا بوجدانه ويرى بعقله ويسمع بقلبه خلال بداية الثمانينات لما يُطرح من ثقافة أفكار ورؤى تأسيسية لإعادة إنتاج الأفكار الأكثر خطورة على البشرية جمعاء، فإنه لن يستوعب ما يجري من أحداث تُزلزل أكثر المناطق في هذا العالم اليوم، ومن تلك الرؤى والأفكار التي جعلت كثيرا ممن عاصر تلك الفترة أن يفكر فيها ويحاورها ويتحاور بشأنها، بل إن كثيرا من مجالس المناظرات وحلقات الجدل كانت تُعقد لتأصيل مسألة الحاكمية، وهي مسألة الحكم بما أنزل الله، ولأن تطبيق الشريعة من أهم أعمدة وأصول الدين، وأن كل من لم يحكم بما أنزل فهو في الجانب الآخر المقابل للدين الإسلامي. فكانت تلك المسألة أعني الحاكمية هي الفيصل الحقيقي لمستويات فكر الجماعات المتدينة في الساحة الثقافية الإسلامية خلال فترة الثمانينات، وكانت تأصيلات مسألة الحاكمية تعتمد على إطلاقات نصوص القرآن وكيفية فهم هذه الإطلاقات، وتستند التأويلات لتلك الإطلاقات القرآنية إلى بعض تقييدات وفهوم الصحابة رضوان الله عليهم مثل تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أن المقصود بهذه الآية أنه كفر دون كفر، وهذه العبارة كانت مثار جدل واسع بين الجماعات الجهادية وغيرها من الجماعات الإسلامية الفكرية التي لا تجعل الجهاد طريقا أوليا لتحقيق رؤيتها في كيفية فهم وتطبيق الشريعة الإسلامية، وقد درج العلماء المعاصرون على اتخاذ مسار ومنهج في كيفية التوصل إلى فهم تلك الإطلاقات للحكم بغير ما أنزل الله ومدى تنزيل تلك الفهوم لتلك الإطلاقات على الواقع المعاصر، فمنهم يسلب النصوص من معانيها ويفرغها من مضمونها دون التعامل مع الواقع المحتدم لدى الجماعات الجهادية لتقديم تفسير مقبول يتم تأصيله وتجذيره على قواعد ومقاصد الشريعة التي جاءت لاستجلاب كل مصلحة متقنة أو مظنونة أو محتملة الإمكانية كي تسمو بالبشر في رفع قيمتهم كبشر يتطلع للحياة على هذه الأرض، ولقد سبرتُ جل وأكثر التأويلات التي تعرضت لمسألة الحاكمية التي هي عماد جماعات التكفير والجهاد المسلح فوجدتها إما متطرفة نحو المسارعة في تأصيل وتنزيل التكفير على من لم يحكم بما أنزل الله كحكم عام بيد أن هذا التوجه عند التنزل معه في كيفية تنزيل ذلك الحكم والاستنتاج على الواقع الذي حدثت فيه وقائع الحكم بما أنزل الله فإن أصحاب هذا التوجه يضطربون ولا تجد لهم جوابا شافيا لما يشمله ذلك الحكم من أفراد ومؤسسات وهيئات، فإما أن يلتزموا لوازم ذلك الفهم حتى لا يجدوا مخرجا إلا بتكفير البشرية جمعاء كما حدث ذلك لجماعات التكفير والهجرة خلال السبعينات وخلال الجهاد الأفغاني وخلال عقيدة داعش الفكرة الجديدة لمعنى الحكم بما أنزل الله، وإما أن تكون تلك الجماعات التي تتصدى للحكم بما أنزل الله أن تجعله مقيدا بقيود وشروط فيها نوع تحكم وعدم تناسق وذلك أنهم يقولون بتكفير الحاكم بما أنزل الله بيد أنهم لاينزلون ذلك الحكم على أرض الواقع لتأويلات شتى، بيد أنني وجدت أن تأويلا لمسألة الحاكمية وكيفية فهمها لعلماء دار الإفتاء المصرية من خلال موسوعة الفتاوى المؤصلة (م5/ص 202) حيث تم تكييف مسألة الحكم بما أنزل الله وإنشاء القوانين واعتمادها من الجهات المختصة في الدولة أنها تُكيف فقهيا على أنها عملية إنشاء عقود بين أطراف اعتبارية هم الحكام والمحكومون أو السلطة المنتخبة والشعب، فالشعب ينتخب سلطته لتكون وكيلا عنه في ضبط علاقات المجتمع من خلال تشريع القوانين وتنفيذها، والأصل في العقود الإباحة ما لم تتعارض مع الشريعة في إباحة حرام (مجمع عليه) أو تحريم مباح، وبهذا التوسع في دائرة العقود قال بعض العلماء كأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، قال إن ابن تيمية بعد أن ذكر خلاف العلماء (مجموع الفتاوى 29/132) (القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به، وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط، فليس في الفقهاء أكثر تصحيحاً للشروط منه)، فهذا التكييف لمسألة الحاكمية صادر عن جهة قد كابدت أفكار التكفير والهجرة ولديها خبرة طويلة في التعامل مع الأفكار المتطرفة، وهو تفسير وتأويل وتكييف فقهي حري به أن يتم التأصيل له والتقعيد له حتى ينتشر بين أفكار الجماعات الإسلامية كي يدحض تلك اليقينيات التي تنطلق منها الأفكار المتطرفة التي لاتجعل التكييف والتأويل الفقهي أي مكان في أديباتها لأن التكييف الفقهي للمسائل فيه إعمال للعقل النقدي واستعمال لأدوات التأويل اللغوي وآليات قواعد أصول الفقه وتجذير للقواعد الفقهية وهذه العناصر هي العدو اللدود لكل فكر متطرف يؤصل أفكاره على اليقينيات دون وجود لأي تأويل أو ترجيحات للظنون.
الشيخ محمود شاكر وقضية من أخطر القضايا المعاصرة: يقول الشيخ معقبا على أثرين ذكرهما الإمام الطبري في تفسيره برقم (12025)، (12026)، وكلاهما عن أبي مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وقد سأله قوم من الإباضية –وهم جماعة من الخوارج الحرورية- أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، يقولون بمقالة الخوارج، وتكفير على بن أبي طالب –- سألوه عن الآيات (45-477) من سورة المائدة «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.... هم الظالمون... هم.... الفاسقون...». فأجابهم أبو مجلز –بما يراه من الحق. يقول الشيخ محمود شاكر بعد أن بين وجه الحق في الأثرين: «وإذن فلم يكن سؤالهم –أي الأباضية لأبي مجلز- عما احتج به مبتدعة، زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه، وعلى لسان نبيه –صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكمه –سبحانه وتعالى- وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة –على اختلافهم- في تكفير القائل به، والداعي إليه».
*باحث كاتب سعودي
الشيخ محمود شاكر وقضية من أخطر القضايا المعاصرة: يقول الشيخ معقبا على أثرين ذكرهما الإمام الطبري في تفسيره برقم (12025)، (12026)، وكلاهما عن أبي مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وقد سأله قوم من الإباضية –وهم جماعة من الخوارج الحرورية- أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، يقولون بمقالة الخوارج، وتكفير على بن أبي طالب –- سألوه عن الآيات (45-477) من سورة المائدة «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.... هم الظالمون... هم.... الفاسقون...». فأجابهم أبو مجلز –بما يراه من الحق. يقول الشيخ محمود شاكر بعد أن بين وجه الحق في الأثرين: «وإذن فلم يكن سؤالهم –أي الأباضية لأبي مجلز- عما احتج به مبتدعة، زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه، وعلى لسان نبيه –صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكمه –سبحانه وتعالى- وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة –على اختلافهم- في تكفير القائل به، والداعي إليه».
*باحث كاتب سعودي