عندما تلبس الثقافة خوذة العسكري ويكتب قلم الروائي للجندي!
السبت / 12 / جمادى الآخرة / 1438 هـ السبت 11 مارس 2017 02:42
أسماء بوزيان*
وأنا أحضر الافتتاح الرسمي لمعرض الكتاب بالرياض، لفت انتباهي في صالون الكتّاب وعلى جدارية كبيرة شاشة تُبثُّ من خلالها صورٌ لجنود يرابطون على الحدود السعودية الجنوبية. الفيلم القصير كان يعرض صورا لدبابات تجوب الشعاب والوديان، الصحاري والتلال، وبالمقابل كانت هناك أعناق لشباب في عمر الزهور تشرئب وراء الخنادق على الحدود مرابطة خلفها لحماية وطنهم. وقفت ملياً أمام هذا المشهد «المرعب» في حضرة الثقافة والكتاب، واشتد الجدل بين الضيوف بين مؤيد للفكرة والمناهض لها. حاولت أن أستوعب في لحظات تلك الصلة بين الحرب في أعتى صورها وأجنحة تعج بملايين العناوين الأدبية والفكرية وبوفود تنعم بالسلام وتجوب أجنحة المعرض، بحثا عن ضالتها.
تزاحمت أسئلة كثيرة برأسي: هل تُصنع الثقافة ويكرم الكتاب في حضرة مشهد السلاح؟ كيف ندعو جيلا ليهرف من روائع الأدب المتوفرة في تظاهرة ثقافية كبيرة كمعرض الرياض، وفي الجبهة الأخرى أقرانهم يرابطون في الخنادق، يتربصهم الموت من كل حدب وصوب؟
سأجيب بكل بساطة: نعم يمكن أن تقترن الثقافة بالحروب، ويمكن أن يحتفى بالكتاب في حضرة الرشاش!
السياق السعودي الحالي هو سياق حربي بامتياز سواء في اليمن أو في أكثر من جبهة أخرى بشكل غير مباشر.
وأبسط مواطن سعودي يدرك تمام الإدراك أن بلده مستهدف، ولا يمكن فصل الحياة اليومية عن مناسبات ثقافية أو اقتصادية.
لطالما علمتنا العلوم الإنسانية والسياسية بشكل خاص أنه غالبا ما ينظر إلى الثقافة والأدب خصوصا على أنه ترياق الحروب. وإذا كانت «ثقافة الحروب» في بعض الفترات التاريخية ملغمة بحكم الزمن والمكان، فهي حمية المجتمعات ضد «تخمة» التسيب اللا أمني وتحايلات الأعداء في نصب كمائن الفوضى الفكرية واللا استقرار العقلي في الحروب الحديثة.
فإذا كانت الثقافة ترياقا للحروب، فقد كنت أستحضر بمنظور آخر، وأنا أتبادل أطراف الحديث مع بعض الضيوف الذين «امتعضوا» من فكرة أن يقترن صوت الرصاص وصورة الرشاش بحفيف الورق المترامي على رفوف معرض الكتاب بالرياض ورائحة الحبر المزكم للأنفاس. كنت حينها أستحضر النظرية الشهيرة التي دافع عنها بشراسة المنظر الألماني هاينر موهلمان في كتابه «طبيعة الثقافات» الذي رصد صورة دقيقة عن طبيعة الثقافة، فقال إن «الثقافة هي في الأصل صراعات وحروب وهي بالأساس حيوان بري يجب أن يستأنس ليتعايش معه».
كيف يمكن الانطلاق من هذه الفكرة التي تدعي أن الثقافة هي في الأصل حيوان شرس يستدعي الترويض؟
الكثير من النخب عبر الأجيال اعتبروا أن الحرب، ليست في الحقيقة قطيعة بقدر ما هي استطراد أدبي محض. فكل الحروب التي مرت عبر التاريخ، كانت ردود فعل فيها متجذرة إما في القتال أو التولي إلى الخلف ولكليهما تأثير مزدوج. ولكنه يخضع لسلوك فكري وقيمي، يتجه خصوصا نحو الاحتراز والحماية. ولن تأتي الحماية إلا «بالعبث» الثقافي والفكري والأدبي الذي يدفع حتمية الاستسلام ويرسخ لفكرة الصمود والمجابهة ورد ذلك الخطر.
ممكن أن يجادلني الكثير ويعتبر أن سلاح التعايش هو الثقافة والأدب، وأنا لا أدفع بهذا المعطى، ولكن لنترك التاريخ يتحدث ولنترك التوثيق الأدبي أكثر يسرد لنا كيف أن الثقافة كانت تقاطعا مهما مع الحرب.
الذين يقرؤون الأدب الكلاسيكي وتاريخ الشعوب التي عاشت الحروب و«استأنست» بها يدركون أنه لا يمكن فصل الأدب والثقافة عن الحرب والدليل أن الغرب وظف جليا الثقافة في الحرب، فأمريكا كانت تعرض بقايا جنود شاركوا في الحرب العالمية في «غاليرهات» الفن ومع أشهر اللوحات العالمية. أما في فرنسا، فقد بيع عتاد عسكري بأسعار خيالية في أكبر المتاحف الفرنسية وعرضت جنبا إلى جنب مع لوحات فنية تحاكي الجمال والسلام والحياة بكل صورها الجمالية.
بالطبع هناك ثقافة موازية في الحرب وهناك أدب الحرب الذي ظهر في الحقبات الحربية وفي الأزمات التي عرفها التاريخ، تمثل في شكل الروايات، والنصوص التي اعتبرت وثيقة، وذاكرة، وشاهدا. فالأدب البطولي والوطني أو الأدب الذي وثق للسلام عرض نوعا ما فكرة المؤامرة والمعارك والحرب، ولكنه أيضا عرض فكرة الحياة، فكان الأدب يناظر به على منصات ثقافية وفي تظاهرات كبرى تسرد يوميات جنود وقفوا على جبهات القتال.
من لا يتذكر كيف نالت رائعة «سكارلات أو في مهب الريح» إعجاب النقاد والسينمائيين فحولت الرواية إلى فيلم حصد أكبر الجوائز، هذه الرواية التي حاصرت حياة امرأة تلتزم بما عاهدت عليه وتصارع في الحرب من أجل أن تلتحق بحبيبها على جبهة القتال.
لم تخلُ التظاهرات الثقافية في العالم من مشاهد حربية وصور الموت والصراع في المعارك، ولم يبق الأدب حبيس المكتبات والرفوف ولكنه وقف على عتبات المعارك ليكون توثيقا من جهة، واعترافا ضمنيا من جهة أخرى بأن الثقافة هي في الأساس «حيوان بري متوحش» يجب ترويضه ليصبح مسالما يتعايش مع الجميع. كانت رواية «ليس هناك جديد على الجبهة الغربية» لراينر ماريا ريلكه، ورواية إرنست جونغر التي وصفت عنف الحرب وسياق الصراع القومي في عمله الذي صدر في 1920 «زوبعة من فولاذ» نموذجين لأدب الحرب ونموذجين لاقتران التظاهرات الثقافية الكبرى بالأدب والحرب، فقد عرضت أعمال أدبية فرنسية في صالونات دولية للكتاب بفرنسا مصاحبة بمشاهد الحرب العالمية الثانية وكانت حافزا لاستقطاب القراء الذين تداولوا لشراء الرواية.
لم تكن الحرب جبهة للجنود والعسكر فقط والصمود ولكنها كانت أيضا تتويجا لأعمال روائية رائدة، فاحتفت الثقافة بالحرب واحتفت الحرب بالثقافة. ولعل من المفارقات التاريخية والثقافية أن ينال رجل الحرب نوبل للأدب؟ فحين كرم رجل الحرب البريطاني بالدرجة الأولى، وستون تشرشل بنوبل للأدب، ورشح النوبل شارل ديغول لجائزته الأدبية! كانت تلك من العلامات التي قد تضيء جوانب العتمة من العلاقة بين «العسكر» والأدب.
كل الثقافات الإنسانية تفهم على أنها طقوس وقيم وقواعد الحياة المشتركة. ولا يمكن أن نعزل الفكر والثقافة والأدب والاحتفال بكل هذا عن حدود جغرافية، تتقاسم السماء وتفترش نفس الأرض. كل الثقافات وكل المحافل الأدبية ومنصاتها أثناء التظاهرات أشركت أبطالها الذين يذودون عن الأرض في نصوصهم وفي احتفالهم وفي ندواتهم وفي منصاتهم الأدبية، فلا يمكننا أن نعزل العقل والفكر والقلم والورق عن صمامات الأمان التي أظهرتها العديد من النصوص ووقفت عندها وقفة تأن.
إذن هل تولد الثقافة من رحم الحرب؟ قد يرفض الكثير هذا الربط لكن هناك تلك الجوانب الخفية بينهما ولا مناص من هذه عن تلك، ولكن قد تلبس الثقافة خوذة العسكري، ويشحذ الجندي قلم الكاتب والروائي.
* صحفية مقيمة في باريس
أسماء بوزيان *
تزاحمت أسئلة كثيرة برأسي: هل تُصنع الثقافة ويكرم الكتاب في حضرة مشهد السلاح؟ كيف ندعو جيلا ليهرف من روائع الأدب المتوفرة في تظاهرة ثقافية كبيرة كمعرض الرياض، وفي الجبهة الأخرى أقرانهم يرابطون في الخنادق، يتربصهم الموت من كل حدب وصوب؟
سأجيب بكل بساطة: نعم يمكن أن تقترن الثقافة بالحروب، ويمكن أن يحتفى بالكتاب في حضرة الرشاش!
السياق السعودي الحالي هو سياق حربي بامتياز سواء في اليمن أو في أكثر من جبهة أخرى بشكل غير مباشر.
وأبسط مواطن سعودي يدرك تمام الإدراك أن بلده مستهدف، ولا يمكن فصل الحياة اليومية عن مناسبات ثقافية أو اقتصادية.
لطالما علمتنا العلوم الإنسانية والسياسية بشكل خاص أنه غالبا ما ينظر إلى الثقافة والأدب خصوصا على أنه ترياق الحروب. وإذا كانت «ثقافة الحروب» في بعض الفترات التاريخية ملغمة بحكم الزمن والمكان، فهي حمية المجتمعات ضد «تخمة» التسيب اللا أمني وتحايلات الأعداء في نصب كمائن الفوضى الفكرية واللا استقرار العقلي في الحروب الحديثة.
فإذا كانت الثقافة ترياقا للحروب، فقد كنت أستحضر بمنظور آخر، وأنا أتبادل أطراف الحديث مع بعض الضيوف الذين «امتعضوا» من فكرة أن يقترن صوت الرصاص وصورة الرشاش بحفيف الورق المترامي على رفوف معرض الكتاب بالرياض ورائحة الحبر المزكم للأنفاس. كنت حينها أستحضر النظرية الشهيرة التي دافع عنها بشراسة المنظر الألماني هاينر موهلمان في كتابه «طبيعة الثقافات» الذي رصد صورة دقيقة عن طبيعة الثقافة، فقال إن «الثقافة هي في الأصل صراعات وحروب وهي بالأساس حيوان بري يجب أن يستأنس ليتعايش معه».
كيف يمكن الانطلاق من هذه الفكرة التي تدعي أن الثقافة هي في الأصل حيوان شرس يستدعي الترويض؟
الكثير من النخب عبر الأجيال اعتبروا أن الحرب، ليست في الحقيقة قطيعة بقدر ما هي استطراد أدبي محض. فكل الحروب التي مرت عبر التاريخ، كانت ردود فعل فيها متجذرة إما في القتال أو التولي إلى الخلف ولكليهما تأثير مزدوج. ولكنه يخضع لسلوك فكري وقيمي، يتجه خصوصا نحو الاحتراز والحماية. ولن تأتي الحماية إلا «بالعبث» الثقافي والفكري والأدبي الذي يدفع حتمية الاستسلام ويرسخ لفكرة الصمود والمجابهة ورد ذلك الخطر.
ممكن أن يجادلني الكثير ويعتبر أن سلاح التعايش هو الثقافة والأدب، وأنا لا أدفع بهذا المعطى، ولكن لنترك التاريخ يتحدث ولنترك التوثيق الأدبي أكثر يسرد لنا كيف أن الثقافة كانت تقاطعا مهما مع الحرب.
الذين يقرؤون الأدب الكلاسيكي وتاريخ الشعوب التي عاشت الحروب و«استأنست» بها يدركون أنه لا يمكن فصل الأدب والثقافة عن الحرب والدليل أن الغرب وظف جليا الثقافة في الحرب، فأمريكا كانت تعرض بقايا جنود شاركوا في الحرب العالمية في «غاليرهات» الفن ومع أشهر اللوحات العالمية. أما في فرنسا، فقد بيع عتاد عسكري بأسعار خيالية في أكبر المتاحف الفرنسية وعرضت جنبا إلى جنب مع لوحات فنية تحاكي الجمال والسلام والحياة بكل صورها الجمالية.
بالطبع هناك ثقافة موازية في الحرب وهناك أدب الحرب الذي ظهر في الحقبات الحربية وفي الأزمات التي عرفها التاريخ، تمثل في شكل الروايات، والنصوص التي اعتبرت وثيقة، وذاكرة، وشاهدا. فالأدب البطولي والوطني أو الأدب الذي وثق للسلام عرض نوعا ما فكرة المؤامرة والمعارك والحرب، ولكنه أيضا عرض فكرة الحياة، فكان الأدب يناظر به على منصات ثقافية وفي تظاهرات كبرى تسرد يوميات جنود وقفوا على جبهات القتال.
من لا يتذكر كيف نالت رائعة «سكارلات أو في مهب الريح» إعجاب النقاد والسينمائيين فحولت الرواية إلى فيلم حصد أكبر الجوائز، هذه الرواية التي حاصرت حياة امرأة تلتزم بما عاهدت عليه وتصارع في الحرب من أجل أن تلتحق بحبيبها على جبهة القتال.
لم تخلُ التظاهرات الثقافية في العالم من مشاهد حربية وصور الموت والصراع في المعارك، ولم يبق الأدب حبيس المكتبات والرفوف ولكنه وقف على عتبات المعارك ليكون توثيقا من جهة، واعترافا ضمنيا من جهة أخرى بأن الثقافة هي في الأساس «حيوان بري متوحش» يجب ترويضه ليصبح مسالما يتعايش مع الجميع. كانت رواية «ليس هناك جديد على الجبهة الغربية» لراينر ماريا ريلكه، ورواية إرنست جونغر التي وصفت عنف الحرب وسياق الصراع القومي في عمله الذي صدر في 1920 «زوبعة من فولاذ» نموذجين لأدب الحرب ونموذجين لاقتران التظاهرات الثقافية الكبرى بالأدب والحرب، فقد عرضت أعمال أدبية فرنسية في صالونات دولية للكتاب بفرنسا مصاحبة بمشاهد الحرب العالمية الثانية وكانت حافزا لاستقطاب القراء الذين تداولوا لشراء الرواية.
لم تكن الحرب جبهة للجنود والعسكر فقط والصمود ولكنها كانت أيضا تتويجا لأعمال روائية رائدة، فاحتفت الثقافة بالحرب واحتفت الحرب بالثقافة. ولعل من المفارقات التاريخية والثقافية أن ينال رجل الحرب نوبل للأدب؟ فحين كرم رجل الحرب البريطاني بالدرجة الأولى، وستون تشرشل بنوبل للأدب، ورشح النوبل شارل ديغول لجائزته الأدبية! كانت تلك من العلامات التي قد تضيء جوانب العتمة من العلاقة بين «العسكر» والأدب.
كل الثقافات الإنسانية تفهم على أنها طقوس وقيم وقواعد الحياة المشتركة. ولا يمكن أن نعزل الفكر والثقافة والأدب والاحتفال بكل هذا عن حدود جغرافية، تتقاسم السماء وتفترش نفس الأرض. كل الثقافات وكل المحافل الأدبية ومنصاتها أثناء التظاهرات أشركت أبطالها الذين يذودون عن الأرض في نصوصهم وفي احتفالهم وفي ندواتهم وفي منصاتهم الأدبية، فلا يمكننا أن نعزل العقل والفكر والقلم والورق عن صمامات الأمان التي أظهرتها العديد من النصوص ووقفت عندها وقفة تأن.
إذن هل تولد الثقافة من رحم الحرب؟ قد يرفض الكثير هذا الربط لكن هناك تلك الجوانب الخفية بينهما ولا مناص من هذه عن تلك، ولكن قد تلبس الثقافة خوذة العسكري، ويشحذ الجندي قلم الكاتب والروائي.
* صحفية مقيمة في باريس
أسماء بوزيان *