جارالله الحميد: بعد موت والدي ضعت في الكتابة كجمل في صحراء الدهناء!
السبت / 12 / جمادى الآخرة / 1438 هـ السبت 11 مارس 2017 03:12
صالـح الــفهــيـــد (حائل)
هل هو قطعة من الحزن؟ أم أنه الضفة الأخرى منه؟ يتساءل كل من يعرف هذا الصعلوك الشمالي الذي يدعى جارالله الحميد.. صاحب «أحزان عشبة برية» الذي يقول عن حياته إنها سلسلة من المآسي بدأت بموت والده:
«جاء أبي ذات مساء من دكانه حيث يسمسر على الفاكهة والخضار. وكانت أصابع قدميه ويديه منتفخة. وبعضها يخرج منها سائل. لم أخف المرض كان قاتلا عاديا. ولم أصدق أن ذلك المساء هو آخر يوم لأبي في دكانه، ومسجده. ومع أصدقائه في سمر الليالي البهيجة. ولكن الأمور جرت دون أن تستشيرني. سافر به أخي وأحد أقاربنا حيث أبناء الأثرياء في (الرياض). أدخلوه المستشفى. وماهي سوى أربعة أيام حتى عاد إلينا. قال لهم (دعوني وشأني. لا يشفي إلا الله. والمرض من الله. وأنا عبد من عبيد الله. أريد أن أموت عند أهلي). حزينا كان كنخل القرية التي هاجر إليها هاربا من عائلة لعبتها المال. الذي يحتقره. مثل جدران الصمت. وضعوا له فراشا في وسط الحوش. لكي يتمكن زواره من الجلوس براحتهم، ومع الوقت صار يذوي كثمرة بلح، وخف زواره، وتلاشوا، بقي صامتا، يصلي صلاة المريض، وتتحرك شفتاه بالدعاء. تركت (المعهد العلمي)، وهو معهد (ديني)، رغم أن أهلي بحاجة للمكافأة، إذ كان وحده المعهد يدفع مكافآت للطلبة، بدأت خيانتي بأن تسلمت المكافأة وذهبت واشتريت دراجة. فتحت أمي الباب، طالعتني بتعنيف موجع، وزوبعت، ونظرت من كتفها إليه في فراشه، كان يبتسم برضا، وحده كان الجريح يوم تركت الدراسة، كنت حبيبه، ويتبارك بي عندما أجلس في الدكان، وأقوم بمهماته في المسجد يوم الجمعة.
لكنه مات !»
• كانت هذه لوحة من حياة الكاتب جارالله الحميد.. حيث كانت صدمة وفاة الأب بداية غربته اللانهائية.. يقول:
«نظرت ونظرت وتلفتُّ وفكرت وقدرت، فإذا أنني في أقصى درجات العزلة، منذ صار أخي الأكبر وأمي سيدي البيت، صار موحشا وكريها، وتغربت غربات صغيرة، تشردت مختارا الكتابة، ولم أكن أعي معنى الكتابة كما ينبغي».
• فكانت الكتابة هي الملاذ الآمن.. الذي يهرب إليه من الإحساس المتعاظم بالغربة:
«وجدت الكتابة تسلية ولعبة وأقصى ما يتحقق الإنسان من خلاله. فبإمكان المرء قراءة مقالة سياسية تحتل صفحات، ويمكن لغيره إدمان حل الكلمات المتقاطعة، وأتمنى ألا يضع القارئ في ذهنه أنني أفضل تلك على هذه، لسبب بسيط: هو أنني أكتب، أي: أقوم بنفس الفعل في نفس الوقت، في ما يخصني أبدأ قراءة جريدة ما من آخرها. وعندما يهديني صديق رواية مهما كان اسم كاتبها لا بد من أن أمر بين فينة وأخرى لقراءة شيء من منتصفها. لكن هناك فارقا بيني (أنا) وبين الآخرين. هو أنهم يظنون أن عدم معرفة الأشياء، عدم قراءة ما (فوق) السطور، العجز عن قراءة اللعبة كما يفعل ظهير الجنب في كرة القدم..».
• وانغمس الحميد في أجواء الكتابة.. فهو يعيش لكي يكتب.. ويكتب من أجل أن يعيش:
«يا الله، كم أن الكتابة عظيمة، لقد ضعت كجمل في صحراء الدهناء العظمى وليس بالضرورة الاشتراكية.. الكتابة عن الكتابة كما تومئ إلى نفسها هي ذروة الكتابة، وغايتها، وإذا وصلنا إلى تلك المرحلة تزول حالة الملل واللاجدوى التي يتفنن عقلنا المراوغ في ذاكرة إضافية كما يكتب على علبة دواء معين (لا يصرف بدون استشارة طبية). وظيفة هذه الذاكرة لا تملك أي حصانة ويجب استئصالها بالعنف وحده. فالإنسان هو مجموعة كيانات تتوطن جغرافياً جسداً ما وتاريخياً في تجليات عصور متتابعة مظلمة، ومزدهرة، متحجرة،، وشاعرية، فتبارك الله تعالى، الذي صنع هذا الإنسان على عينه. هذا الجسد إذن من حقه أن يحال على التقاعد حالما أراد، من ضمن هذه الكيانات بؤر وأوكار تخزن خبرات مؤلمة أو مخزية أو قاهرة، باختصار لنسمها (قرص الإحباط)، وهناك ذاكرة تتغذى من الأفكار المتناقضة مع الممارسات، ذلك النمط من الذهانات المتعددة، إذ يخيل لي أحيانا أننا مقبلون على سنوات موحشة، نبدأ أولا بنسيان اللغة، والعودة إلى الرموز والإشارات، ثم نخسر هذا الحصن الأخير. إنني شخصيا أرفض البقاء في مجتمع صامت، وخصوصا أنني خلال أكثر من أربعين عاما تعاملت بواسطتها التعبير الأهم بالنسبة لي».
• قسوة الحياة.. وصدماتها العنيفة، جعلت الحميد ينظر لنفسه دائما على أنه ضحية.. وهذا زاد من إحساسه بالغربة وبأنه ملاحق ومضطهد.. ولكن دون أن يعرف من يلاحقه على وجه التحديد:
«تذكرت توا أن رواية قصيرة اسمها (ذكريات التخلف) للكاتب الكوبي الغزير الموهبة والدقيق في استعماله للغة، اسمه (ديموندا ديزنوس)، مواطن كوبي ليس لديه ذنوب في ذاكرة (الخوف) التي أود أن نتفق على أن ننطلق من عبارة (ثقافة الخوف)، فقط لم يستطع أن ينصاع لأوامر الشيوعية، والكاتب يحكي ذاته، ومن جهة أخرى هو لا يريد أن يكون بطلا في ذهنية الغرب القائمة على جرائم مرعبة وجحيمية، وفي نفس الوقت تعي جيدا وتنوب الولايات المتحدة عن المواطن الأبيض جدا بأن الشيوعية هي وهم والآن أتخيل (الصرصار) الذي صور (فرانز كافكا)، إنني مثله تماما، كلنا بالحقيقة مثله، لكننا مع التمارين السويدية تعلمنا أن ننقلب على بطوننا، لكننا ظللنا نراوح بين كوننا بشرا وما يبدو أنه (فيروس) يفتك بنا، يذكرنا دائما بأننا ضحايا!».
• عاش الحميد.. فقيرا معدما.. وكان يتنقل في أزقة حائل سيرا على الأقدام.. حافيا أحيانا.. ليس حبا برياضة المشي ولكن لأنه لا يمتلك مركبة.. من راتبه ٢٥٠٠ ريال لا يستطيع أن يشتري مركبة.. ومع هذا لم يكره الفقر:
«بالعكس أنا أكن للفقر احتراما منقطع النظير، لأن أبي العظيم ظل صامتا سبعا عجافا، يفترسه المرض ويصلي وينهشه الجرح المتسمم ويقرأ القرآن. بالمناسبة، لا زلت حتى الآن محتارا في ظاهرة ودلالات كونه يقرأ القرآن الكريم بالأحرف مثل قراءتنا لأي مطبوع، ولكنه لا يقرأ حرفا واحدا غير القرآن، أتمنى أن تدعوا له أيها الشجعان الذين قرروا السباحة عكس التيار. نعم!».
• جارالله الحميد لا يكره الفقر لكنه يكره البخلاء كرها شديدا.. وكثيرا ما وجه سياط قلمه تجاههم:
«لو كان الجاحظ معلمي الأكبر حيا، لما كتب (البخلاء)، بل سيكتب رواية (البخيل)، من جهة يحجم الجماهير المدجنة، ويحكي عن بخيل ما رأت عيناي أشد منه حبا في المال ولا شحا حتى على نفسه ولا بابا مثل باب بيته الذي هو للزنزانة أقرب منه للحرية دعك من البيت، فهو -أي الباب- ذو ثلاثة من المزاليج متعاكسة ما رأيت قط ولا قرأت في تاريخ الفكر الاجتماعي الذي يعتبر بخيلنا ميدانه الفعلي أكبر منها ولا أوثق منها، ومع ذلك اكتشفت صدفة أن بقايا الانفصام الذي انتصر عليه بفضل الله ثم بالقوة الذاتية أو الطاقة المخزونة من الرغبة في الحياة، إذ كنت أوبخه قائلا:
ـ والله لو رفع حلف النيتو من درجة استعداده إلى درجة إطلاق النار بمجرد ما يشاهدون ظلي ما فعلت مثلك!
قال:
ـ الباب يا عمى القلب لم يوضع إلا دون الصديق، أما العدو فهو سيتسلق! ضحكت، ثم ساورتني نوبة من رثاء لنفسي فصرت أبكي».
• ويبرز إحساس الحميد بالغربة عندما يخرج إلى الشارع.. وعندما يختلط مع الآخرين لقضاء بعض لوازمه وحاجاته:
«أقسم بالله يا أخي الطبيب، سواء كنت طبيبا حقيقيا، أو (حلاق حمير) هذه الشهادة لا تمنحك الآن حق إذلالي. أقول: لست مجنونا بما فيه الكفاية، لأنني لا أزال أحلم، ولست عيا عن الجحيم، ولكنني أوتيت من الصبر على ضيم أهلي، ما لم يؤته أحد من قبل. لا تصدقني، فقط تنتظر المزيد من الانحناء كي تكتب لي روشتة (الفاليوم)، تكتبها وكأنك تمنحني صك البراءة من جنون الناس، أو كأنما تمنحني مهلة أسبوعين قبل موتٍ أدري كم سيكون مدويا. أقول يا أيها الرجل الذي يجلس مثل تمثال قديم من عهد (ثمود) وراء مكتب ليس فيه ما ينم عن حاسة التذوق، أنا الغريب وليس أنت، وأنا الطريد وليس أنت، وأنا المتهم الجاهز للتحقيق معه كلما حدث أمر غامض، بكل أوجاعي أمارس معك لعبة الهادئ والممتن».
• وإذا كان الحميد جرب السفر خارج حدود الوطن لأول مرة من بوابة القاهرة.. حيث التقى بصديقه أمل دنقل.. فإنه في ما بعد تعلق بعمان:
«هذه المدينة التي على مرمى حجر، ببدوها الذين يلبسون كما ألبس، ويحكون مثل لغتي، كل تاكسي أسأله عن مطعم، يسألني:
ـ ما هو المشروب؟
وإذ أغمغم باسمه يطردني شاتما، ومعه المارة يبتهلون إلى الله أن يدمرني وأمثالي، عمان.. كم جلست في صباحاتها الجريحة قرب السادسة صباحا أنتظر كأس الشاي الذي يقدمه (أحمد المصري) موظف الاستقبال كنوع من بروتوكولات الفندق، أشربه بلهفة، لكي يعمل (الريتانيل) عمله، أحس بشيء من النشوة وأنا في تلك الغربة الجحيمية ما إن يتدفق في قشرة دماغي، يزداد نبضي، فأقول (جاء دورك أيها البرازين)! أبتلع واحدة، وأفكر إلى أين أذهب؟، ليس معي أجرة التاكسي أساسا، فكيف مثلا لو قلت له (وسط البلد)، حتما سيتخاطفني بائعو البالة... بعت الكاميرا، وجهاز التسجيل. وقطعة ذهب أخذتها من تسريحة زوجتي، كان ثمنها مخيبا للأمل».
• وعزلة جارالله الحميد.. يقطعها الإنسان الاجتماعي المقموع بداخله، الذي يكسر أسوار العزلة ليسرق بعض أوقات الفرح:
«كان جمر الغضا يغمرنا بدخانه، وسائل البهجة يدفئ أرواحنا، قريبون من بعضنا، مثل طيور بيضاء لم يفزعها أحد، (محمد) يلعب بالعود بمهارة وجمال، كان يصدح بأغنيته، ويشرف على (سلمان) الذي ليس صديقا لنا، لكنه زميلي أنا و(فهد) في العمل، جاء به سائل البهجة، أو بأدق: هو الذي جاء بالبهجة.
عندما يأتي المساء.. ونجوم الليل تزهر
نصيح معا بسحر الموسيقى التي طوع العود لاستيعابها قدر ما أمكنه، تسمع العود كما لو أنه مشية الرذاذ، أو حنين أنثى صغيرة غدر بها رجل لعين، وفارقها ولد خجلان».
«جاء أبي ذات مساء من دكانه حيث يسمسر على الفاكهة والخضار. وكانت أصابع قدميه ويديه منتفخة. وبعضها يخرج منها سائل. لم أخف المرض كان قاتلا عاديا. ولم أصدق أن ذلك المساء هو آخر يوم لأبي في دكانه، ومسجده. ومع أصدقائه في سمر الليالي البهيجة. ولكن الأمور جرت دون أن تستشيرني. سافر به أخي وأحد أقاربنا حيث أبناء الأثرياء في (الرياض). أدخلوه المستشفى. وماهي سوى أربعة أيام حتى عاد إلينا. قال لهم (دعوني وشأني. لا يشفي إلا الله. والمرض من الله. وأنا عبد من عبيد الله. أريد أن أموت عند أهلي). حزينا كان كنخل القرية التي هاجر إليها هاربا من عائلة لعبتها المال. الذي يحتقره. مثل جدران الصمت. وضعوا له فراشا في وسط الحوش. لكي يتمكن زواره من الجلوس براحتهم، ومع الوقت صار يذوي كثمرة بلح، وخف زواره، وتلاشوا، بقي صامتا، يصلي صلاة المريض، وتتحرك شفتاه بالدعاء. تركت (المعهد العلمي)، وهو معهد (ديني)، رغم أن أهلي بحاجة للمكافأة، إذ كان وحده المعهد يدفع مكافآت للطلبة، بدأت خيانتي بأن تسلمت المكافأة وذهبت واشتريت دراجة. فتحت أمي الباب، طالعتني بتعنيف موجع، وزوبعت، ونظرت من كتفها إليه في فراشه، كان يبتسم برضا، وحده كان الجريح يوم تركت الدراسة، كنت حبيبه، ويتبارك بي عندما أجلس في الدكان، وأقوم بمهماته في المسجد يوم الجمعة.
لكنه مات !»
• كانت هذه لوحة من حياة الكاتب جارالله الحميد.. حيث كانت صدمة وفاة الأب بداية غربته اللانهائية.. يقول:
«نظرت ونظرت وتلفتُّ وفكرت وقدرت، فإذا أنني في أقصى درجات العزلة، منذ صار أخي الأكبر وأمي سيدي البيت، صار موحشا وكريها، وتغربت غربات صغيرة، تشردت مختارا الكتابة، ولم أكن أعي معنى الكتابة كما ينبغي».
• فكانت الكتابة هي الملاذ الآمن.. الذي يهرب إليه من الإحساس المتعاظم بالغربة:
«وجدت الكتابة تسلية ولعبة وأقصى ما يتحقق الإنسان من خلاله. فبإمكان المرء قراءة مقالة سياسية تحتل صفحات، ويمكن لغيره إدمان حل الكلمات المتقاطعة، وأتمنى ألا يضع القارئ في ذهنه أنني أفضل تلك على هذه، لسبب بسيط: هو أنني أكتب، أي: أقوم بنفس الفعل في نفس الوقت، في ما يخصني أبدأ قراءة جريدة ما من آخرها. وعندما يهديني صديق رواية مهما كان اسم كاتبها لا بد من أن أمر بين فينة وأخرى لقراءة شيء من منتصفها. لكن هناك فارقا بيني (أنا) وبين الآخرين. هو أنهم يظنون أن عدم معرفة الأشياء، عدم قراءة ما (فوق) السطور، العجز عن قراءة اللعبة كما يفعل ظهير الجنب في كرة القدم..».
• وانغمس الحميد في أجواء الكتابة.. فهو يعيش لكي يكتب.. ويكتب من أجل أن يعيش:
«يا الله، كم أن الكتابة عظيمة، لقد ضعت كجمل في صحراء الدهناء العظمى وليس بالضرورة الاشتراكية.. الكتابة عن الكتابة كما تومئ إلى نفسها هي ذروة الكتابة، وغايتها، وإذا وصلنا إلى تلك المرحلة تزول حالة الملل واللاجدوى التي يتفنن عقلنا المراوغ في ذاكرة إضافية كما يكتب على علبة دواء معين (لا يصرف بدون استشارة طبية). وظيفة هذه الذاكرة لا تملك أي حصانة ويجب استئصالها بالعنف وحده. فالإنسان هو مجموعة كيانات تتوطن جغرافياً جسداً ما وتاريخياً في تجليات عصور متتابعة مظلمة، ومزدهرة، متحجرة،، وشاعرية، فتبارك الله تعالى، الذي صنع هذا الإنسان على عينه. هذا الجسد إذن من حقه أن يحال على التقاعد حالما أراد، من ضمن هذه الكيانات بؤر وأوكار تخزن خبرات مؤلمة أو مخزية أو قاهرة، باختصار لنسمها (قرص الإحباط)، وهناك ذاكرة تتغذى من الأفكار المتناقضة مع الممارسات، ذلك النمط من الذهانات المتعددة، إذ يخيل لي أحيانا أننا مقبلون على سنوات موحشة، نبدأ أولا بنسيان اللغة، والعودة إلى الرموز والإشارات، ثم نخسر هذا الحصن الأخير. إنني شخصيا أرفض البقاء في مجتمع صامت، وخصوصا أنني خلال أكثر من أربعين عاما تعاملت بواسطتها التعبير الأهم بالنسبة لي».
• قسوة الحياة.. وصدماتها العنيفة، جعلت الحميد ينظر لنفسه دائما على أنه ضحية.. وهذا زاد من إحساسه بالغربة وبأنه ملاحق ومضطهد.. ولكن دون أن يعرف من يلاحقه على وجه التحديد:
«تذكرت توا أن رواية قصيرة اسمها (ذكريات التخلف) للكاتب الكوبي الغزير الموهبة والدقيق في استعماله للغة، اسمه (ديموندا ديزنوس)، مواطن كوبي ليس لديه ذنوب في ذاكرة (الخوف) التي أود أن نتفق على أن ننطلق من عبارة (ثقافة الخوف)، فقط لم يستطع أن ينصاع لأوامر الشيوعية، والكاتب يحكي ذاته، ومن جهة أخرى هو لا يريد أن يكون بطلا في ذهنية الغرب القائمة على جرائم مرعبة وجحيمية، وفي نفس الوقت تعي جيدا وتنوب الولايات المتحدة عن المواطن الأبيض جدا بأن الشيوعية هي وهم والآن أتخيل (الصرصار) الذي صور (فرانز كافكا)، إنني مثله تماما، كلنا بالحقيقة مثله، لكننا مع التمارين السويدية تعلمنا أن ننقلب على بطوننا، لكننا ظللنا نراوح بين كوننا بشرا وما يبدو أنه (فيروس) يفتك بنا، يذكرنا دائما بأننا ضحايا!».
• عاش الحميد.. فقيرا معدما.. وكان يتنقل في أزقة حائل سيرا على الأقدام.. حافيا أحيانا.. ليس حبا برياضة المشي ولكن لأنه لا يمتلك مركبة.. من راتبه ٢٥٠٠ ريال لا يستطيع أن يشتري مركبة.. ومع هذا لم يكره الفقر:
«بالعكس أنا أكن للفقر احتراما منقطع النظير، لأن أبي العظيم ظل صامتا سبعا عجافا، يفترسه المرض ويصلي وينهشه الجرح المتسمم ويقرأ القرآن. بالمناسبة، لا زلت حتى الآن محتارا في ظاهرة ودلالات كونه يقرأ القرآن الكريم بالأحرف مثل قراءتنا لأي مطبوع، ولكنه لا يقرأ حرفا واحدا غير القرآن، أتمنى أن تدعوا له أيها الشجعان الذين قرروا السباحة عكس التيار. نعم!».
• جارالله الحميد لا يكره الفقر لكنه يكره البخلاء كرها شديدا.. وكثيرا ما وجه سياط قلمه تجاههم:
«لو كان الجاحظ معلمي الأكبر حيا، لما كتب (البخلاء)، بل سيكتب رواية (البخيل)، من جهة يحجم الجماهير المدجنة، ويحكي عن بخيل ما رأت عيناي أشد منه حبا في المال ولا شحا حتى على نفسه ولا بابا مثل باب بيته الذي هو للزنزانة أقرب منه للحرية دعك من البيت، فهو -أي الباب- ذو ثلاثة من المزاليج متعاكسة ما رأيت قط ولا قرأت في تاريخ الفكر الاجتماعي الذي يعتبر بخيلنا ميدانه الفعلي أكبر منها ولا أوثق منها، ومع ذلك اكتشفت صدفة أن بقايا الانفصام الذي انتصر عليه بفضل الله ثم بالقوة الذاتية أو الطاقة المخزونة من الرغبة في الحياة، إذ كنت أوبخه قائلا:
ـ والله لو رفع حلف النيتو من درجة استعداده إلى درجة إطلاق النار بمجرد ما يشاهدون ظلي ما فعلت مثلك!
قال:
ـ الباب يا عمى القلب لم يوضع إلا دون الصديق، أما العدو فهو سيتسلق! ضحكت، ثم ساورتني نوبة من رثاء لنفسي فصرت أبكي».
• ويبرز إحساس الحميد بالغربة عندما يخرج إلى الشارع.. وعندما يختلط مع الآخرين لقضاء بعض لوازمه وحاجاته:
«أقسم بالله يا أخي الطبيب، سواء كنت طبيبا حقيقيا، أو (حلاق حمير) هذه الشهادة لا تمنحك الآن حق إذلالي. أقول: لست مجنونا بما فيه الكفاية، لأنني لا أزال أحلم، ولست عيا عن الجحيم، ولكنني أوتيت من الصبر على ضيم أهلي، ما لم يؤته أحد من قبل. لا تصدقني، فقط تنتظر المزيد من الانحناء كي تكتب لي روشتة (الفاليوم)، تكتبها وكأنك تمنحني صك البراءة من جنون الناس، أو كأنما تمنحني مهلة أسبوعين قبل موتٍ أدري كم سيكون مدويا. أقول يا أيها الرجل الذي يجلس مثل تمثال قديم من عهد (ثمود) وراء مكتب ليس فيه ما ينم عن حاسة التذوق، أنا الغريب وليس أنت، وأنا الطريد وليس أنت، وأنا المتهم الجاهز للتحقيق معه كلما حدث أمر غامض، بكل أوجاعي أمارس معك لعبة الهادئ والممتن».
• وإذا كان الحميد جرب السفر خارج حدود الوطن لأول مرة من بوابة القاهرة.. حيث التقى بصديقه أمل دنقل.. فإنه في ما بعد تعلق بعمان:
«هذه المدينة التي على مرمى حجر، ببدوها الذين يلبسون كما ألبس، ويحكون مثل لغتي، كل تاكسي أسأله عن مطعم، يسألني:
ـ ما هو المشروب؟
وإذ أغمغم باسمه يطردني شاتما، ومعه المارة يبتهلون إلى الله أن يدمرني وأمثالي، عمان.. كم جلست في صباحاتها الجريحة قرب السادسة صباحا أنتظر كأس الشاي الذي يقدمه (أحمد المصري) موظف الاستقبال كنوع من بروتوكولات الفندق، أشربه بلهفة، لكي يعمل (الريتانيل) عمله، أحس بشيء من النشوة وأنا في تلك الغربة الجحيمية ما إن يتدفق في قشرة دماغي، يزداد نبضي، فأقول (جاء دورك أيها البرازين)! أبتلع واحدة، وأفكر إلى أين أذهب؟، ليس معي أجرة التاكسي أساسا، فكيف مثلا لو قلت له (وسط البلد)، حتما سيتخاطفني بائعو البالة... بعت الكاميرا، وجهاز التسجيل. وقطعة ذهب أخذتها من تسريحة زوجتي، كان ثمنها مخيبا للأمل».
• وعزلة جارالله الحميد.. يقطعها الإنسان الاجتماعي المقموع بداخله، الذي يكسر أسوار العزلة ليسرق بعض أوقات الفرح:
«كان جمر الغضا يغمرنا بدخانه، وسائل البهجة يدفئ أرواحنا، قريبون من بعضنا، مثل طيور بيضاء لم يفزعها أحد، (محمد) يلعب بالعود بمهارة وجمال، كان يصدح بأغنيته، ويشرف على (سلمان) الذي ليس صديقا لنا، لكنه زميلي أنا و(فهد) في العمل، جاء به سائل البهجة، أو بأدق: هو الذي جاء بالبهجة.
عندما يأتي المساء.. ونجوم الليل تزهر
نصيح معا بسحر الموسيقى التي طوع العود لاستيعابها قدر ما أمكنه، تسمع العود كما لو أنه مشية الرذاذ، أو حنين أنثى صغيرة غدر بها رجل لعين، وفارقها ولد خجلان».